المضامين الرمزية في القصيدة الممسرحة «المجنون والبحر» لوهيب نديم وهبة
كتبَ الدكتور: منير توما
تاريخ النشر: 02/11/22 | 7:37من أبرز الظواهر الفنيّة التي تلفت النظر في تجربة الشعر الحديث الإكثار من استخدام الرمز أداة للتعبير مما يدلّ على بصيرة كافية بطبيعة الشعر والتعبير الشعري. ولكن التأمل في طبيعة الرموز التي يستخدمها الشعراء المعاصرون وفي طريقة استخدامهم لها يدعو الى الاهتمام بهذه الظاهرة إِجمالا، وتحليلها ودراستها.
وهنا في قصيدة «المجنون والبحر» الممسرحة، والتي تنتمي الى الشعر المنثور أو بشكل أدقّ الى نثر بلغة شعرية الى حدٍ ملموس، فإنَّ الأستاذ وهيب نديم وهبة ينبثق شعره من الشعور بخواء هذا العالم وحطته وخسته واليأس من صلاحهِ، وذلك بأسلوب مجازي رمزي، ينصّب فيه جلّ همه على الموت من جهة، والحياة من جهةٍ أخرى، وانعدام المحبة وتفكّك الأربطة الاجتماعية، وبينما يتوتر الأسلوب وينتثر تحت وطأة السرد والتقرير والتجريد، بحيث يجيء لغة ذهن ولغة روح، فإنّ هذا الشعر في مسرحة القصيدة ينبع من موضوعات أخرى تمثّل المحتوى الصميمي للنفس البشرية المتحمّسة للحياة والمقبلة عليها بحرارة وحنين: الاستسرار والألم والشوق والغضب والحب والعلو وغير ذلك مما يجسّده كل من «المجنون» و «هالة» في القصيدة.
إنّ أزمة «المجنون» الرمزي في روحهِ، يقاسيها ألمًا ممضًا وحنينًا حارًا، بل مريرًا، كذلك أزمته في الواقع الموضوعي وفي أتون الذات. ومن هنا التأرجح في موقف «المجنون» من حيث «البرود» الذي نلاقيه في كلامه تارةً، والدفء والزخم الوجداني تارةً أخرى. وبذلك فإن شخصية «المجنون» هنا هي عبارة عن رمز ومفارقة في الوقت نفسهِ (symbolic and ironic)، فهو «يُغَنّي في العذاب»، ويعي بصدق معضلة هذا الزمان ويعبّر عنها:
«بين الحلم، والوهم، والخيال
بينَ العشقِ العاديِّ…
والعشقِ الممزوج بالدّمِ،
والخيانة والنفاق، هذا الوهم القاتل…
الذي يجعل للمادة قدمين وكفيّن ويحملُ
الأرضَ… على كفّ هاويةٍ.
وهذا الخيالُ الذي يجمعُ البحرَ في زجاجةٍ
ويجعلُ الرَّملِ وسادةً.» (ص15)
يُلاحظ أنَّ الشاعر وهيب نديم وهبة في عملية ابداعه في الرمز، ينقل هذا الابداع من النمط التقليدي الى طور التوحد والذوبان وشراكة في المحورين بين الأبعاد الثلاثة الذاتية والجماعية والكونيّة. ولأنّ شاعرنا يتصّف هنا بروح الحداثة الشعرية فقد اتسمت رموزه بنوع من الابداعية والتجدّد في فرادته اللفظية والأسلوبية، لتصبح رموزه مفتاحًا للولوج الى تجربتهِ، وهواجسهِ، ورؤاه. وفي هذا السياق، سنتطرق الى «البحر» في هذه القصيدة كأحد مركبَيْ العنوان باعتبارهِ رمزًا أساسيًا ومحوريًا مع «المجنون»، فالبحر يرمز إلى الجلال والعظمة (grandeur)، وهو يمثّل المصدر المولِّد للحياة، ويرمز أيضًا إلى الموت والتجدُّد، والى الخَلْق البدائي الأصلي، كما ويرجع رمزيًا الى الرغبة الجنسية (sexual desire) والشوق الى المغامرة. كذلك يُتَّخَذ البحر رمزًا كوسيط بين الحياة والموت، ومركزًا عميقًا للنفس والروح. وانطلاقًا من هذه المعاني الرمزية، يأتي شاعرنا بنصٍ من القصيدة (ص 45-44)، يؤكد من خلاله رمزية البحر الحسيّة بصورة مبطنّة بقناعٍ شفّاف من الألفاظ والكلمات الموحية:
«يفتحُ المجنونُ العينين المغمضتين على
الرمل الجاف وينظر قليلا الى الأعلى وجهَ
هالة من بين جميع وجوه نساء العالم.
حرارةُ الرّملِ الساخن في الوجنتينِ،
ولا يقولُ!
يتركُ الأصابعَ تستريحُ في حنانِ غابةِ
السّاقين، عند هالة، ولا يقولُ
يتركُ الأصابعَ تذهبُ وتذهبُ حتى منتهى
الخصر، كرم خمر المجنون، ولا يقولُ.
إنّ خمرة البحر، بين الموج والزبد.»
من اللافت في هذا النص بروز مبدأ ممارسة الحُريّة التي يرمز إليها البحر حيث تشير القرائن اللفظية النصية الى ذلك في تفاعل «المجنون» مع محبوبتهِ «هالة» ذات البُعد الرمزي الذي سنتناوله في البحث والدراسة لاحقًا. ويمكننا أن نلمس في إيماءات النص هنا رمزية البحر في كونهِ يمثِّل التوحش غير المُرَوَّض والى اللاوعي الجمعي…
(collective unconsciousness) والى المرأة والضمير والاستكشاف الروحي. (spiritual exploration). وفي الوقت نفسه، يرمز البحر في هذا النص الى الطاقة الحيوية التي لا تنضب، وهو رمز اللانهاية، وعند الصوفيين أو المتصوفين فإنّ البحر كان يرمز الى الذوبان في الخالق. وبتناولنا للترميز في القصيدة بشكلٍ أكثر إتساعًا، نرى أنّ شاعرنا ينظر الى المعاني والدلالات الرمزية في كونها بمثابة وسيلة لا شعورية يلجأ اليها كي يتخلّص من قيود الواقع ومن الارتباطات والقيود التي تحول بينه وبين الغوص في أعماق الموضوعات التي يتناولها بالتفكير والتأمل والمعالجة. والحرية التي يترجاها المبدع كشاعرنا هي حرية نفسية ذهنية.
إنّها الحرية الحقيقية لأنها ليست مجرد تخلّص من قيود الواقع الخارجية، بل هي من الوقت نفسه ارتياد لعوالم أخرى غير العالم الذي يحيط بنا في هذا الواقع المحسوس. فهالة في هذه القصيدة، تعني لغويًا الدائرة، وهي ترمز الى المبدأ الأنثوي، والى الاحتواء والحماية والى الكمال والكليّة، وكذلك ترمز الى السماء، والتزامن والتواقت، والى الذات المحتواه، بالإضافة الى الديناميكية، واللازمنية دون بداية أو نهاية. وفي رمزية «هالة» هنا يبرز المصير الأخير للفردية وكذلك العودة والتكرار (recurrence). وهذا ما جسّدته «هالة» في دورها ومعناها الرمزي في دلالتها بما يطلق عليه في التقليد المسيحي مصطلح ألفا وأوﻣﻴﭼﺎ (Alpha and Omega). علاوةً على ذلك نلاحظ أنَّ «المجنون» ذو سمات من الذات السماوية التي تتسّم بالقداسة، بينما «هالة» هي رمز للذات الأرضية المريدة للمجنون وممن تبغي الانضمام إليهِ كالمبدأ أو العنصر الانثوي الذي يصبو الى الالتحاق بهِ. ومن هنا يتبادر الى أذهاننا أنّ «قداسة» هالة يشار إليها من خلال اسمها بالهالة التي تحيط برأس القديسين في الفن الأيقوني المسيحي تعبيرًا عن المجد المنسوب للمسيح أو العذراء أو القديسين. إنّ هذه الهالة بطبيعتها دائرية لتوافقها مع رمزيتها الى السماء الكونية، وبالأخص علاقتها بالأرض:
الآن يهمسُ عطفًا:
«هالة، أليس الخالق أكبر فنّان، وأفضل
مبدع، واحلى رسّام؟
رسمَ البحرَ صبيّةً متوحشةً للحرية، تضرب
اليابسة أن تتحرك، بمطرقة الموج العارية
من أسلحة الدّمار. اليابسة قاسية!
خُذيني من هنا.» (ص45)
وفي النص التالي من القصيدة (ص50) نجد رمزية البحر كممثّل للحرية وذلك بكون الحريّة لا تُعطى، بل تُكتَسَب:
هالة تنادي: «الحرية لا تأتي الينا.
نحن نذهبُ الى الحرية»
وأصابع المجنون تلعب في الريح
وتنادي: «نحن نذهب الى الحرية»
وعند هذه النقطة هناك إشارة أو تلميح (allusion) للقيود المفروضة على حرية المرأة في الشرق تحديدًا.
ومما يسترعي الانتباه أنَّ البحر كان يشكّل عند المتصوفين المسيحيين رمزًا للقلب الإنساني كمكان للعواطف، وبإشارتنا الى البحر أيضًا كموقع لصيد الأسماك، فإن عنصر القداسة النابع من التصوّف ولو جزئيًا يشير الى تلاميذ السيد المسيح في كونهم صيادي سمك حيث تجسّدت فضائل السيد المسيح في تلاميذهِ، والنص التالي يذكرنا برمزية القوة الديناميكية للبحر:
«انظر، سيدي»
نظرَ المجنون وهالة معًا…
شباك الصيادين تُفرش فوق الرمل
ارزاق الحياة. (ص64)
وقبل الختام، لن ننسى ان نتطرق الى الزاوية النفسية في التأويل الرمزي للبحر بكونهِ رمزًا للموت أيضًا عند العودة إليهِ وذلك بفعل اضطراب في اللاوعي. فمعلوم في رأي فرويد أنَّ ازالة التوتّر من جسم الإنسان هو اللذة التي تؤدي الى الثبات ومنه الى النرﭬانا وبعدها الى غريزة الموت كما أسماها فرويد، وفي الاقتباس التالي من القصيدة نجد المعنى الايحائي غير المباشر لهذهِ المعاني التأويلية:
المجنون: «أنا الهارب من الأرض الى البحر،
أحملُ الموتَ في جسدي، قميص الأخير،
وحينَ تدخلُ الحياةُ في شراييني تعلو أمامي
ألف خيمة وخيمة… والبحر ينظر بصمت.
لا أريد يا هالة الصمت والخيمة، ولا مساكن
المقابر. نصف العالم العربي، يا هالة، يعيش
في دور المقابر والخيام، وها هو البحرُ،
ينظر بصمت الأموات» (ص63)
وكان قد سبق للمجنون في فلسفته الحياتية الميتافيزيقية صفحة 62 من القصيدة قوله:
«إنّ الحياة غابة كثيفة الاشجار، وكثيرة
الأفاعي، تلدغ، تقتل وتميت…
اهربْ من الحياة الى الموت – لا تموت،
اهرب من الحياة الى الحياة – تمتْ.»
وخلاصة القول إن الاستاذ وهيب نديم وهبه بكونه شاعرًا فهو ليس انسانًا عاديًا كي يعبّر عن واقعه بصورته المباشرة الصارخة، بل يستعير من الأشياء والأساليب أقواها ليوحي بما يريد التعبير عنه. ولذلك لجأ في هذه القصيدة الى أسلوب فني ألا وهو الرمز، ولا سيما أنّ هناك رموزًا يستقر عليها ضمير المجتمع، وتترسب في أغواره، نتيجة معاناتهِ وتجاربه المتنوعة، أي يمكن أن يصل الانسان الشاعر بفنه وأساليبه الى حد الموقف من خلال التشكيل الجمالي الموازي للواقع. وهكذا قدّم الرمز في قصيدة «المجنون والبحر» عونًا أساسيًا للتعبير عن موضوعها لامتلاكه الطاقة الكافية لخدمة الفكرة التي تعاد على صورتها الحقيقية.
وأخيرًا، نتقدم الى الاستاذ الشاعر وهيب نديم وهبة بأطيب التمنيات بموفور الصحة والعمر المديد ودوام التوفيق والإبداع في عالم الأدب والثقافة .