الغربة والخُردلّه .!
قصة بقلم : يوسف جمّال - عرعرة
تاريخ النشر: 03/11/22 | 16:12بلادي وان جارت علىَّ عزيزة وأهلي وان ضنوا علَّ كرام
تعابير وجهك وأنت تخوض غمار معاني هذا البيت الشعري
ومدلولاته ما زالت مخطوط في ذاكرتي ..
كنت – يا معلمي – كأنك في معركة تحدّي , أحياناّ تعلو وتشتد
نبرات صوتك , حتى تجعلنا نشعر أنك تقودنا الى معركة مصيرية ,
وأحياناَ تستكين فنشعر أنك تطوف فينا في رحاب الوطن .
كنا نشاهد صوره على الألوان والتضاريس , التي كانت ترسمها
كلمات ومعاني القصيدة على صفحات وجهك .
حملت معي صورك ورنين صوتك وأنت تلقي القصيدة الى كلِّ
محطات سفري ,
كانت لي حلم في ساعة حنين .
ومْضة ضوء في موجة ظلام .
ذكرى تزورني في ساعة يأس .
ملجأ التجئ أليه في حالة ضيق ويأس !
وسأحكي لك في رسالتي هذه, قصة جدتي .. القصة التي تأبى إلا
أن تزورني بين الحين والحين .. مرة تأتي إليَّ حاملة معها أوجاع
الغربة , ومرة تأخذني الى ذكرياتي مع الوطن , فأقضي أوقاتاً
ممتعة معها..
رجع أبي من الروحة, بعد شاهد عصابات اليهود تقترب من
حقول البلد وتهدِّد الفلاحين .
وصاح بها وهي “قاعدة ” على لجن الغسيل :
– يا رشيدة حضِّري حالك .. أنتِ وألأولاد !
– لوّين بدنا نروح يا أبو حسين !؟
كانت هذه المرة الأولى , التي تسأله عن أسباب أوامره لها
وطلباته منها .
فصرخ بها والغضب يتفجَّر من عينيه :
الى جهنم ! بنا نرحل! بنا نلحق الّي رحلوا من قبلنا .
اليهود قرَّبوا على البلد يا رشيدة!
كانت هذه المرة التي يجيب على سؤال توجهه اليه .
فتركته, وهجمت على أبنائها , واحتضنتهم وصاحت به :
– أنا وأولادي لن نترك هذا البلد !
– رشيدة ! زعق من “قحف ” رأسه كالمجنون..
انتفضت, وقرِّبت أولادها على صدرها أكثر , جاعلة من ظهرها
جدار حديدي يحميهما منه .
– طيِّب .! أنا بسبقكم .. ولما بلقى دار تأوينا , برجع آخذكم .!
قال بعد ان استنتج انه لن يستطيع زحزحتها عن إصرارها
.
“ممكن لما تشوفي اليهود” تقتنعي” .! أكمل وترك البلد .
ولم يرجع ..
لا أدري .. لماذا قرَّرت ان أحكي لك قصة أخرى من
قصص جدتي ..
ربما لأنها اختارت البقاء , وأنا اخترت ان أرحل لأعيش في بلاد
المهاجر.
ترعرعت, أنا وأبناء جيلي , في وطن تشوَّه حتى أصبح
غريباً عنا ونحن غرباء عنه ,” يتشَّرمح” ويتقطَّع وينزف كل
يوم أمام أعيننا وفي نفوسنا, وشعرنا أنه تحوَّل الى دائرة من حبل
“مصيص” تلتفُّ حول أعناقنا , تضيق شيئا فشيئا, حتى باتت
قريبة من خناقنا!
فرحلنا الى بلاد تدمن فيها على كاسات لعلها تنسيك الغربة ,
فتعيش فيها سكران , فإذا صحوت تعود الى متاهات الشتات .
كان معي ابن عمي ..
“ذَهَبتْ ” القروش التي كانت معنا في أيام قليلة , فطردنا صاحب
“الوكر” الذي استأجرناه لنبيت فيه ورمانا في الشارع .
وأصبحت حاويات القمامة, هي مطعمنا الذي نأكل منه , لم
نكن الوحيدين الذين يقصدون هذا المطعم “السخيّ” , فقد تعرَّفنا
هناك على الكثيرين – من الذين مثلنا ..
تركوا وطنهم وهاجروا الى بلاد جديده يبحثون فيها لقميْات , فلم
يجدوها إلا في حاويات القمامة . “فعلّمونا ” النوم في أنفاق
المترو, ومؤسسات الصدقة , والإغتسال من حنفيات الحدائق
العامة.
وسأحكي لك يا -أستاذ – قصة أخرى من قصص جدتي..
كان جدّي يرسم على الأرض دائرة كبيرة بواسطة عود من
أغصان الشجر , ويأمرها ان تبقى فيها ولا تخرج منها , إلا بعد
ان يعود من صلاة الجمعة في مسجد القرية .. فتطيعه وتمتثل
لأوامره , فلا تخرج منها إلا بعد ان يعود الى الحقل .
واستولى اليهود على الأرض , و وجدت جدَّتي نفسها تلقِّط
سنابل القمح والشعير من وراء الحصادين , كي تطعم أحفادها ..
وأشبعتنا من ثمرات الوطن : الخبيزة والعلك والفرفحينا
والعكوب والزعتر وأخواتها .
ودارت في البراريى تحتطب نار برد الشتاء ووقود طابون
الخبز, فذاقت المرَّ من العسكر , الذين كانوا ” يحمون” الشجر
والشجيرات ,”ويقتلون ” قوت الناس وأرواحهم .
كانت تقول لأمي : أنت خليكي عند الأولاد وأنا “بسرح ” ..
كانت تسرح لتجمع قتاة يومنا .
أنا- يا أستاذي- لا أريد أن أثقل عليك في تفاصيل كيف حققت
هنا في الغربة , كلَّ ما حلمت به :
شهادة جامعية , بيت في حارة راقية , زوجة أمريكية تعمل معي
في نفس شركة البرمجة التي أعمل فيها , أولاد رائعون ,
معارف وأصدقاء ..
ولن كلَّ هذا لم يشعرني بالسعادة .. لم أشعر بالرضا عن نفسي ..
ألهث لأحقق المزيد .. والمزيد . ولكني كلما حققت شيئاً , زاد
شعوري بالحزن والاكتئاب والغربة .
والآن – عرفت لماذا رويت قصة جدتي .!؟
هي .. وقفت متحدِّية ورفضت الغربة .. تحمَّلت كلَّ عذابات
ظلم المحتلين , ولكنها صمدت ورفضت الرحيل عن الوطن ..
غربة الوطن تحملتها.. ولكنها رفضت ان تعيش في غربتين ..
فثارت .!
سؤال واحد أدمنت أن الحَّ عليها أن تجيبني عليه , في السنوات
العشر التي عشت معها :
“ألم تخرجي من الدائرة ,التي رسمها لك جدِّي في الحقل .. ولو
مرة .!؟
وقبل رحيلها بأيام دخلتُ الى غرفتها , فأشارت ألي أن أقترب
منها.. وطلبت مني ان أدنو من الباب , لتتأكد من أن الجو خال لنا
,
وما من أحد قادم باتجاه الغرفة, ليدخل اليها فيفسد علينا خلوتنا ,
ولما قعدت الى جوارها , بدأت تحكي قصتها بهمس .. الى أن
وصلت الى الدائرة :
” نعم كنت أخرج من الدائرة .. كنت أنتظر جدَّك حتى يبتعد
عن , فأغادر الحقل وأمشي حتى أصل الى ” عين التينة ”
فأشرب من ميِّتها ” وألقِّط ” ضُمَّة خرْدلِّة و”أقرُطها” على
مهلي .. أنا – يا ستي- “بموت” في خردلِّة عين التينة !
روت الجزء الذي يحكي خبر خروجها من الدائرة , بعد ان شدَّت
رأسي وقرَّبت أذني من فمها , وخفَّضت صوتها الى الأقل من
الهمس , وكأنها تخاف ان يسمعها جدّي في تربته !
أتعرف – يا أستاذ – ماذا فعل بيَّ ابني سليم ابن السادسة أمس
,عندما خرجنا لنلعب في ساحة اللعب :
أوقفني على رجل واحدة , ورسم حولي دائرة , وبدأ يعدُّ
الثواني ليختبر مقدار تحملي .. بناء على المدة الزمنية الذي
أستطيع الصمود فيها على رجل واحدة في داخل الدائرة !
أستاذي- أما زالت “عين التينة” تنبت الخُردلِّة !؟
أنا ” بموت” فيها !