دراسة لديوان (( لو ينطق الشَّمال )) للشَّاعر الدكتور نديم حسين
بقلم : الدكتور حاتم جوعيه – المغار - الجليل
تاريخ النشر: 10/11/22 | 8:18( الدكتورحاتم جوعيه ) ( الدكتور نديم القاسم )
مقدمة : ألشاعر والاديب المرحوم الدكتور “نديم حسين” من سكان قرية الرامة الجليلية وسكن فترة في قرية عسفيا – قضاء حيفا . حاصل على شهادة الدكتوراة في الطب وعلى شهادة البكالوريوس “B.A” في موضوع الفلسفة واللاهوت وعلم النفس.
يكتب الشعر والمقالات الادبية والسياسية والدراسات النقدية منذ اكثر من أربعين عاما. نشر الكثير من انتاجه الشعري والنثري في معظم صحف ومجلات البلاد، وكما عمل محررا في اكثر من جريدة ومجلة محلية، مثل: صحيفة “الميدان” و “الاخبار” وغيرها.
اصدر العديد من الدواوين الشعرية والكتب النثرية التي تضم العديد من المقالات التي نشرت سابقا في مختلف الصحف المحلية . ومن الكتب والدواوين التي اصدرها: 1- ديوان لو ينطق الشمال . 2- ديوان روح السكر الآتي . 3 – ديوان حاوليني مرة اخرى . 4 – فتوى لعين فاطمة. 5- يونس يهذي روحه . 6- مرايا الغريب.. وغيرها. وسأتناول في هذا البحث احد ديوانه الشعري ” لو ينطق الشمال” وسأركز الدراسة على بعض القصائد من هذا الديوان.
مدخل : الشاعر والأديب خالد الذكر الدكتور “نديم حسين”كان يحظى بشعبية وشهرة واسعة النطاق محليا، وقد كتب عن دواوينه الشعرية الصادرة العديد من الادباء والنقاد المحليين وأقيمت له عدة امسيات تكريمية وهو أهل لكل تكريم وحفاوة نظرا للمستوى الابداعي لديه وعطائه الغزير والمميز جماليا وفنيا.
اذا نظرنا من ناحية شكيلية لكتابات الدكتور نديم الشعرية نجده يكتب شعر التفعيلة الموزون، والشعر الكلاسيكي “العمودي” ويكتب ايضا القصيدة النثرية الحرة..وقد ابدع في جميع هذه المجالات.
وجميعنا يعرف ان الدكتور “نديم” يمتلك ثقافة واسعة في جميع المجالات العلمية والادبية، ويتقن عدة لغات اجنبية ، كما انه مطلع على معظم الادب الغربي ” الاجنبي” وعلى الادب العربي جميعه (القديم والحديث).
يتناول نديم في كتاباته جميع المواضيع: الوطنية والسياسية، والانسانية والوجدانية والفلسفية وحتى الغزلية والوصفية احيانا.
ولغة نديم في الشعر الحديث قوية جدا وجميلة ومتينة وجذابة للقراء . وهو يركز على القافية ويستعمل قوافي متعددة ويتفنّن في كيفية ترتيب القوافي ، ويستعمل كثيرا التوظيفات الدلالية والرموز والايحاءات الجديدة والومضات الخلابة حيث أبدع بشكل مميز عن باقي الشعراء المحليين.
إن قاموس الدكتورنديم حسين الشعري واسع جدا ويختلف كثيرا كما ذكرتُ عن قواميس وعالم وخيال الشعراء الآخرين، فهو بدوره لا يكتفي أو يرضى بالقوالب الشعرية الجاهزة والمهيأة، ولا يأخذ اشياء أكل الدهر عليها وشرب او صورة وفكرة معينة مستهلكة ومستعملة كثيرا فيطورها كمعظم الشعراء القدامى والجدد.. بل العكس تماما، فكل ما يكتبه نديم هو جديد ومبتكر، وكل عبارة او جملة شعرية يكتبها في اية قصيدة له لا نجد شبيها لها او تقاربا عن غيره ابدا من ناحية نوعية الفكرة والتصوير البياني والبلاغي والاستعارة والابتكار. انه موغل جدا ومتعمق في التوظيف الدلالي وفي تطوير المفردات اللغوية والبلاغية وفي خلق ووضع الرموز والتشبيهات العميقة الجليلة والجميلة وفي اسدال هالة جميلة على شعره من الغموض والابهام المحبب والساحر. وكل من يريد فهم شعره بتوسع يجب ان يكون على مستوى عالٍ من الثقافة والاطلاع، ويكون ملمّا بجميع المواضيع والثقافات ودارسا للادب والتاريخ جميعه الغربي (الاجنبي) والعربي – القديم والحديث. ولكنه حتى الآن لم يأخذ حقه كما يجب من حيث الشهرة والانتشار على المستوى العالمي – فجدير بشعره ان يترجم للغات اجنبية عديدة ويدرّس في كل مكان.
وبالاضافة الى التوظيفات الدلالية والرموز في شعره نجد عنده بشكل مكثف العناصر الجمالية والفنية المتكاملة والعذوبة والطابع والنكهة الخاصة التي يتحلى بها شعره والجاذبية المتميزة الاخاذة – حيث كل انسان يقرأ له فيقرأ بشغف وبتمتع حتى لو كان ثقافة الشخص محدودة وسطحية لان كتاباته جميعها لها اريج وسحر خاص، وهذا هو الشعر السامي والراقي والناجح الذي يواكب الاجيال وتطور الشعوب . فشعرهُ يتجاوبُ
ويتناغم مع متطلبات وتطورات العصر من جميع النواحي الموضوعية والفكرية ، والجمالية اسلوبا وتوجها وتجديدا الخ… وفي تقييم فلسفة الحياة.
فكل ما يكتبه حديثا ومبتكرا، فكل قصيدة يكتبها نجدها تختلف كليا عن سابقتها: في موضوعها وتوجهها ومعانيها، وكل قصيدة له عبارة عن عالم بحد ذاته مليء ونابض بالحياة والجمال والمعاني العميقة ومترع بالابعاد الفلسفية والنظرات الانسانية والشطحات الصوفية والعناصر الجمالية والفنية. وكما ان روح الدعابة والفكاهة والطابع التهكمي الساخر تتماوج في الكثير من قصائده.
ولنختر نماذج من شعره، يقول في قصيدة بعنوان: “ودمتم سائلين” – صفحة 9 : (متى اراك مقلعا/ عن ذاتك المشاكسة/ يا صاحب القضية/ لكي تنام ليلة/ على فراش راتب شهري/ والراتب الشهري يا مناضلي الكريم/ مواظب وموجع حاسم/ كالعادة الشهرية .
والراتب الشهري/ كالمخبر السري/ مثابر/ وصامت كالعادة السرية!. ) .
ويقول ايضا: جيم جواب/ جفت دناني يا بني سكر/ ونامت فوق مسراها الثواني/ ما نلت خبزا رغم كدّي!
سيدي/ يا حارس الافران/ مني ومن اقراني/ ما ذقت ملحا رغم مدي.
ويقول: يا بني سكر هلا/ من كان منكم/ ليس يرعى حق جار.
يا ايها الصغار/ من كان منكم/ يرفع الاكباد فوق رمح جاهلية وعار.
ويقول ايضا: يا بني خمر هلا/ قطعتموا رزقي/ فهل ستقطعون بعد ارزاقي/ لساني/ وجف من ذنوبكم شرياني.
والقصيدة طويلة وهي تهكمية ساخرة وجريئة وواقعية يعالج فيها الشاعر عدة قضايا انسانية وسياسية واقتصادية، ويستعمل فيها الكثير من الرموز والتوظيفات الدلالية الجديدة، مثل: يا بني سكر، بني خمر، ونطفة الاوثان. وينتقد في هذه القصيدة بشكل عام الذل والخنوع والتواطىء من اجل الراتب الشهري “المعاش”.
وأما في قصيدة “من المحابر للحراب” ص 41 وهي قصيدة كلاسيكية على بحر الكامل والقصيدة تهكمية ساخرة وكوميدية نوعا ما، فيتحدث فيها عن موضوع الزعامات التقليدية الرجعية المتخلفة والقيادات السياسية التي تفتقر لكل المقومات القيادية من: فكر ثاقب راجح ومبادئ وقيم وحب الناس والنظرة للدمقراطية والوعي الثقافي والسياسي والحس الوطني والمبادئ والكرامة والمثل والالتزام القومي والوطني والمبدئي والانساني.. إلخ..
يقول في القصيدة:
( وجماعة “زعماؤها” ارض يبابْ = خون وحمقى لا ضمير ولا ثوابْ
فمعمّم تحت العمامة دِمنة = ومحكّم في الحكم لعنته صواب
ذا مستشار “أهبل” مستثقف = ذا قنصل يقعي على عتبات باب
وموظف “عال” شهادته خنا = صمم على خرس على هبل وناب
وترى “الزعيم” كظل قامته كبا = وصفيق وجه كان انسانا وتاب
ومفتش واش يفاجئ أمه = بوشاية عن ضرعها سبتا وآب )..إلخ … انها قصيدة جريئة وواقعية، موضوعها من صميم واقعنا العربي المحلي ويصيب فيها كبد الحقيقة. والقصيدة عنيفة جدا وحادة وجيئة ومعانيها واضحة ومفهومة، فيتحدث الشاعر عن الوشايات والفساد الموجود والمتعفن في جميع الاجهزة والاطر الثقافية والسياسية والتوظيفية.. وكيف ان بعض الذين يتبوّؤون المراكز والوظائف والامتيازات وغيرها في عدد من المجالات والاطر والتنظيمات والاحزاب والمؤسسات هم اناس انهزاميون رجعيون بائعو ضمائرهم ووجدانهم يفتقرون للاخلاق والمبادئ والكرامة، فينالون المراكز والوظائف حتى الصغيرة والحقيرة منها عن طريق الفساد والرشى والكذب والزيف والخداع، وفي تخريب بيوت الغير وبخيانتهم وعمالتهم لوطنهم وقوميتهم. والقصيدة جميلة تهز المشاعر والضمائر الحية، ويشوبها بعض التشبيهات والاستعارات البلاغية الجديدة المبتكرة والجميلة.
واما في قصيدة بعنوان: “وصلت وما وصلت” ص 42 فيستعمل الكثير من التعابير البلاغية الجديدة والطريفة مثل: (طمي روحي)، قد اطلق طلق الصباح ريقه الشعاع، نحو جرح، عله يلتئم الجليل)
فجملة “اطلق ريقه الشعاع” لم يستعملها احد اطلاقا.. الخ
ومن قصائده الجميلة في هذا الديوان قصيدة بعنوان: “قام من بين الاموات” ص 64، وهي في ذكرى الموسيقار الكبير “سيد درويش” فيقول فيها: “من علم الكمان/ الاك يا مؤذن الالحان!
من اغرق الطاغوت في زوبعة/ مهزومة في قمقم الفنجان/ من علم النشيد كيف يوقظ السلاح في تثاؤب المضاهرة/ الاك يا معزوفة مفكرة/ ونغمة قديمة، قديمة معاصرة”.
يشير الشاعر هنا الى اغنية “بلادي بلادي” التي كتب كلماتها ولحنها وغناها “سيد درويش” بصوته، وكانت النشيد الوطني لمصر زمن الانتداب البريطاني وكانت تنشد وتغنى هذه الاغنية في المظاهرات ضد الانجليز في مصر وهي شعار للتحرر من حكمهم، كما اصبحت هذه الاغنية نشيدا وطنيا للفلسطينيين فيما بعد في نضالهم وكفاحهم.
فسيد درويش كما يراه الشاعر هو المعزوفة المفكرة والمدبرة التي تبرمج وتهيئ وتعبئ الصفوف من ابناء الشعب المصري للنضال السياسي ضد الاستعمار والاحتلال.
ويستعمل الشاعر التكرار اللفظي لتحلية الجمل الشعرية مثل: “ونقمة قديمة قديمة معاصرة” ففي تكرار كلمة “قديمة” يؤكد على المعنى ويضيف للجملة جمالا لفظيا.
والقصيدة هنا على وزن الرجز ووزن الكامل.
ويقول نديم في نهاية القصيدة:
“يا ايها العربي صوبت السلام/ على غزالة نغمة فأسرتنا شمم الكنانة انجبك/ شبق النخيل تقمصك/ وجع الجزيرة رددك / . وتلخصت قصص الخلافة قبلة/ لثمت يدك
صب الفرات ودجلة الخير الاغاني في صداح جمّلك!
واذا، اذا قل لي بربك من اكون لكي اجافي موعدك؟!
واسمح لدمعة مؤمن بولوج نهر من فنون خلّدك!
فلسيد آذاننا! ولكل مغبون على وجه البسيطة قاهرهْ! ) .
ولنكتف بهذا القدر من استعراض القصائد.
واخيرا: كنا نتمنى للصديق الكاتب، والشاعر والاديب القدير المبدع الدكتور نديم حسين العمر المديد والمزيد من العطاء الابداعي الشعري والنثري. وها هو الآن يرحلُ رحلنا عنا بشكل مفاجىء بعد حياة حافلة بالعطاء الأدبي الإبداعي تاركا وراءه إنجازا وإرثا كبيرا من الأعمال الادبية الإبداعية ..وقد كتبت أنا هذه الدراسة النقدية لديوانه ( لو ينطق الشمال) قبل أكثر من 12 سنة وأعيد نشرها الآن بعد وفاته إحتراما وتقديرا لهذا الإنسان العظيم والشاعر والأديب القدير والمُميز والصديق والأخ العزيز… وأتمنى من الأدباء والنقاد المحليين أن يهتموا أيضا بأدبه وتراثه ويكتبوا عنه المقالات والدراسات المطولة لأنه شاعر وكاتب قدير ومبدع من الدرجة الأولى – محليا وعربيا – وكتاباتهُ تستحق كل الإهتمام والإجلال والإحترام ..وإنَّ موته لخسارة كبيرة وفادحة للحركة الأدبية والثقافية ولكل محبِّي الشعر والأدب الإبداعي الراقي .. وبموته تفقدُ الساحة الادبية المحلية قامة أدبية باسقة وركنا هاما من أركان ثقافتنا المحلية .
( بقلم : الدكتور حاتم جوعيه – المغار – الجليل )