حول المجنون والبحر / وهيب نديم وهبه / شرفة تطل على بحر الحياة
كتبَ: فاضل جمال علي
تاريخ النشر: 13/11/22 | 18:42بعد قراءة (المجنون والبحر) شعرتُ بحاجة إلى الاستراحة الطويلة، لترتيب الأمور، وبناء نظام وهيكل للمبني الغني الذي يطرحهُ أمام القارئ.
وهيب نديم وهبة يطرح نموذجًا وجدانيًا عاطفيًا يجيش بالشاعر إلى حد أل (كاؤوس) ويترك المجال لكل قارئ على حده لكي يضع التسلسل المنطقي لهذا العرض اللامتناهي، أنهُ يتناول الحياة على مصاريعها، الحياة الممسرحة بذاتها ولكنه يحاول مسرحتها أو إعادة مسرحتها من خلال رؤيته غير الموضوعية وهذه أل (غير الموضوعية) أو (اللاموضوعية) هي المحور المنطقي لهذا الواقع (اللامنطقي) الذي نعيشه ومسرح هذا الكتاب هو، أيضًا، مستحيل فهو الخط الرفيع الدقيق والوهمي الذي يفصل بين البحر واليابسة… بين الصحراء والغابة… بين الواقع والخيال… بين الحياة والموت.
فلا حاجة إذن إن نتجادل حول محاولة وهيب (مسرحة القصيدة العربية) أو أن نقارنها بأعمال (أحمد شوقي) وغيره، لأن وهيب أراد أن يكون لكل قارئ مسرحهُ الخاص به خلال تعامله مع هذا العمل الأدبي.
كما أن الحلقات الأولى كانت تمهيدية لتسلسل ألحدثي الفعلي، ففي الحلقة السابعة وحتى الثانية عشر نلاحظ وجود الحركة بشكل بارز، وتطور ألحدث حتى ألنهاية… كما أن النهاية بحد ذاتها ليست أحادية الأبعاد مما يترك الأمل بعد خضم الحوار الذي هو قلب هذا الكتاب… وهو اختار قاصدًا أن يُبوّب الفصول باسم (حلقة) وليس (مشهد) كما يقتضي العمل المسرحي… وكان هذا الاختيار بعيدًا عن الصدفة…
كما انهُ لم يفصل بين المجنون حينا وهو الخارج من شخصية المجنون إلى دور المؤلف حينًا أخر… وهو يتكلم مرة باسم المجنون، وتارة أخرى يتكلم عن المجنون باسم وهيب… وهذا الحوار المميز والمناورة التي تتسم بالحرب والحب، بالصدّ والردّ، بالفراق والوصال هي محور الكتاب. وهو عمليًا يجري الحوار مع هالة – التي ليست بحاجة إلى تعريف – مرة كالمجنون ومرة يتدخل من الخارج… في هذا الحوار ويحاول تقييمه من جديد وإعادة النظر في مواقف المجنون، وفي الواقع هذا (الديالوغ) هو بين وهيب والمجنون… أي بين وهيب وبين نفسه… وهو إذن (مونولوغ) صيغ بأداء فني جميل إلى حد الم الاعتراف بدنيوية هذه الحياة… الظالمة والمضطهدة… ولكن سلاح وهيب تجاه دنيوية هذه الحياة ومسرحها الدائم المتواجد في كل زمان ومكان هو شاعريته المتجسدة في كيان هالة… وهي النور كما نعرف أو دلالته… فهو يدخل المسرح (صافي العقل والوجدان) كالطفل البريء وينتهي إلى التراب… الرحلة من الولادة إلى الموت… من ظروف الصفر إلى ظروف الصفر لذلك تبرز المعركة على ملء الحياة بالمعنى ذلك المعنى الذي يعطي للحياة مبررًا لاعتناقها وعدم التنازل عنها كما جاء عند (فكتور فرانكل)
لهذا نذكر “ت. س. اليوت” الذي تحدث عن الحدث وعن السرد الذي حوله وقال أن الكاتب يطرح الحدث من أجل التشويق إنما ينبغي صيد القارئ بواسطة الجمل الجانبية التي يكتبها هنا وهناك… وهذا يظهر عند وهيب إذ أن تصريحاته المهمة حسب رأيي تأتي من فمه هو وليس على لسان المجنون… وهذا يظهر بصورة واضحة في الحلقة الأولى الممهدة لدخول المسرح الفكري للكتاب.
وهذه الازدواجية بين وهيب والمجنون ليست انفصامًا في الشخصية أو تعددًا لها، ولكنها بعض الانعكاس، والتأمل في مرآة الذات.
وانطلاقًا من هذا، فقد لفتت مشاعري هذه التصريحات الغنية كقوله:
هذا الْوهمُ الْقاتلُ…
الّذي يجعلُ للْمادّةِ قدمينِ وكفّينِ
ويحملُ الْأرضَ… على كفّ هاويةٍ.
أو حديثه عن العاشق المجنون الذي يخرج من ذاته ويفرش أوراقه فوق طاولته:
الْعاشقُ الْمجنونُ يفتحُ للْفرحِ الْآتي
كلَّ زجاجاتِ الْحزنِ، ويسكرُ، ويشهقُ…
ويهتفُ: “عاشَ الْفرحُ.”
“وبين ألغابه التي تنبت أشجارها فجأة!” أو البحر هذا الرمز، والمد والجزر، والماء وما يسبر من أغوار النفس…
والحركة المرئية وغير المادية هي إذن تلك الحركة المتوجهة من الخيال إلى الواقع وبالعكس… وهذه هي قوانين أللعبه… ووهيب ينصب ميزانه الشعري والنفسي ليقيس فيه الوزن النوعي لمقومات الحياة المادية… وهي في الواقع عملية فنية غير محسوسة! وهذا لا ينعكس في انتقال المجنون من البر إلى البحر وعودته… وتكريره لهذه الشطحة الروحية… وفي هذا الميزان يضع وهيب كل عوارض حياتنا نحن:
“مجرّدُ الْحلمِ جريمةٌ… نحنُ أمّةٌ مؤمنةٌ،
نؤمنُ بالْقضاءِ والْقدرِ، والْأجلِ الْمحتومِ”
هذا الموقف الذي يشتق منه الحدود… حدود الرحلة الشعرية الفكرية التي ترفض الحدود والقيود… إلى صراع حتمي… إلى قاتل ومقتول… وعدم إمكانية التعايش… أي الخروج والثورة والتصدى والتحدى على الإجماع العام “الكونسنزوس”… “الضغط يولد الانفجار” كما يقول المجنون العاقل الذي يتعذب ويثور وهالة هي الأرض التي تحاول أن تلائم نفسها لنزعاته بدون نجاح… وهي مظلومة إلى حد ما… هي الضحية في النهاية… وحتى معها لا يمكن الوصول إلى اتفاقيات تعايش… وهذه هي وحده الفنان الذي يعيش كجزيرة… كل إنسان هو تلك الجزيرة… كل إنسان مفكر ومرهف الشعور… والخروج من هذه الوحدة القاتلة هو عمليه الكتابة نفسها وهي ملاذ وهيب نديم وهبة، وهكذا هو يحاول إغلاق الدائرة…
إذن وهيب يعالج الموضوع شكلا ومضمونًا – ممارسة وفكرًا – ولذلك تظهر أحيانًا تفسيرات مختلفة بين مستوى الممارسة والفكر… وقد تركت هذه الناحية وعزوتها لأغراض وأهداف المؤلف… ورأيت أن أقوم بتقييم الكتاب كلوحة واحدة تمتلئ بكل ألوان الطيف الشمسي…
إشارات:
• فاضل جمال علي: شاعر فلسطيني لهُ إصدارات شعرية عديدة للأطفال… نال في عام 1996 وسام أندرسن من إتحاد أدب الأطفال العالمي في هولندا. لهُ إصدارات شعرية أيضًا للكبار ودراسات ومقالات نقدية واجتماعية وأدبية مهمة وعديدة.
• المجنون والبحر – الطّبعة التّاسعة – بالعربيّة والانجليزيّة – 2022.
• تمَّ تسجيل المجنون والبحر في مكتبة المنارة العالميَّة بصوت الإعلاميّة القديرة فادية نحّاس.
• الإصدار لعام 2022 لوحة الغلاف الرّسامة آلاء مرتيني.