قراءة في كتاب “حروف من ذهب” للأسير قتيبة مسلّم
صفاء أبو خضرة| الأردنّ
تاريخ النشر: 15/11/22 | 7:30حروف من دحنونٍ ومرمر
كيفَ يُمكن لنصّ أن يمنحنا حياةً جديدة، نصٍّ خرجَ مخبوزاً بنكهة الحُرية والأمل والشُّموس المُتطلّعةِ صوبَ الأُفقِ البَعيد..؟
ابتداءً من الإهداء نجدُ الأثر الذي يجذبنا نحوَهُ الكاتب قتيبة مسلم، ولن أقول الأسير؛ لأننا أمام كاتبٍ لهُ أجنحة أراها تخرجُ به من عتمة الزنزانة ليلاً تُحلّقُ فيه في سماءٍ عالية ليتنشق رائحة البلاد، رائحة اللوز والياسمين، يُسلّمُ على أحبتهِ من بعيد يُداعبُ أحلام أطفالهِ ويعود هانئاً بالشعر..
ذلك الأثر، أثر جرحٍ عميقٍ، سكين الطغيان والاحتلال المسمومة بالحرمان والوجع والفقدان، في تلك العتمة وببعض السطور منحنا الكاتب رواية كاملةً عن كلّ ذلك، أمهِ التي حُرمَ من دفئها والتعاطي مع حنانها ورأفتها بسبب السجن، وأولادهِ الذين كبروا وحرم من ترقب ملامحهم وهي تنمو وتنضج، وكانت الزنزانة حاجزاً عن احتضانهم وضمهم، وزوجةٍ حرم من تزيين ليلاتها بالياسمين… ذلك الحرمان الذي لم يُقايض عليه قتيبة علاقتهُ الحميمة مع الوطن وأنّ كلّ ذلك حتى روحه فداء له… من هُنا نجترّ حجم التضحية التي لا رياء فيها وعظمة الرسالة التي لم يكفّ عن التنويه إليها في نصوصهِ.
وفي بعض أبيات من من قصيدة “هذا المساء” التي أهداها الى الشهيد جهاد العالول تتجلّى شمسٌ لا كسوف لها يقول:
يا راحلاً نحو السماء تقودُنا نجماً وشمساً للحياةِ تعودُ
خطفوكَ نسراً والرجولةُ أثمرت نهراً بشعبِ الثائرينَ تجودُ
ورصاص من قتلوك عار دائم وكفوفهم يوم القيامة سودُ
نعم، شمس الشهداء والمجاهدين لا كسوف لها… وتشرق من جهةٍ واحدة هي فلسطين… ويتكرر اسم الشمس في أغلب نصوص الكتاب ما يدلّ على تعاطي الكاتب مع الأمل الذي ينبعث من الأشعة التي تمنح الأرضَ الحياة مثلها مثل الماء والهواء، لكنها تتغلب على كل ذلك بمنحها الدفء وفي مقطع يقول:
مسافرون نحو الشمس
نشيع الجنازات وتحمل الأكف الأجساد تسابق الريح خطانا
من هُنا ينبئنا قتيبة بأنّ الموت ليسَ موتاً كما نعرفهُ، بل كما يراه هو ورفاق الجهاد والدفاع عن الوطن، إنّما حالة سفر إلى الدفء والنور وحياة أخرى يتحقق فيها عدل السماء…
ولا يخلو الديوان -رغم محاولات الكاتب أن يمنحنا صورة مختلفة عن الأسير الصورة التي أصرّ في أغلب نصوصه أن يشكلها لنا كمرآةٍ مصقولة من الأمل والعنفوان والقوة، من مظاهر يضعف فيها كبشريّ وكائن لم يكن يوماً أسطورياً أو إلهاً، إنما بشر يحنّ الى المرأة ويعتبرها ملاذهُ وسكينتهُ، يحنّ إلى ذاته، وإلى نفسه بكامل بشريتها من ضعفٍ وحب وأخطاء وأشياء كثيرة ويتجلى ذلك في مقطع:
عشقاً لحبيبة عمري الأولى.. أهرب من نار الشيطان السوداء.. أكسر أنياب الوسواس الخناس.. أسحق شهوة جسمي.. ضعفي.. أحزاني أترفع على اللذات الـكبرى والصغرى.. أتحول في قيدي وطناً يمشي نسرًا تحمله الريح أعانق مأساتي.. جرحي.. وعذابي وأعانق قدري نحو الشمس أعانق صورة حبي.. أعانق لمستها…
يمتاز الكتاب بسلاسة اللغة وصفاء الصور الشعرية، عادَ بنا إلى أسلوب السبعينات في النصوص النثرية من حيث الأسلوب الخطابي والتوعوي بصيغة خطابية منفعلة… كما وتعددت صيغ الخطاب تميّزت أغلبها بالجمع بـ “نحن”؛ تنويهاً أنهُ ليس وحده في كل ذلك العذاب والحرمان، إنما معه على دربٍ واحدٍ ومصير واحد كلّ رفاق السلاح والجهاد.
أمنياتي لجريح الحبّ، كما ختمَ في وصف نفسه في آخر نصوص الكتاب، الحرية العاجلة له ولجميع أسرانا البواسل.
*** قراءة في كتاب “حروف من ذهب” للأسير قتيبة مسلم (مداخلة في ندوة “أسرى يكتبون” في رابطة الكتاب الأردنيين يوم الأحد 13.11.2022)