رحلة في قارب المجنون والبحر
نقد وتحليل: أركان حلبي
تاريخ النشر: 25/11/22 | 20:06رحلة في قارب المجنون والبحر
للشاعر: وهيب نديم وهبة
نقد وتحليل: أركان حلبي
يحق لي ككل مسافر في هذه الدنيا الغريبة أن أبحر في قارب المجنون، لأصارع أمواجًا وتيارات في بحر عائم بالفكر والتأمل، عائم بالسخط والكراهية، عائم بالحيرة والقلق والحلم الضائع… يحق لي أن أصرخ وأتكلم وأعبر عن رأي حتى ولو القليل مما في نفسي وعقلي. شيء ما يدفعني إلى الأمام ويعطيني قوة المواجهة والمجابهة… وهيب نديم وهبة، ذاك الإنسان المجاهد في سبيل الإبداع وخلق ما هو جديد وقيم… وهيب، ذاك الحس الشاعري المبدع، الصريح والبسيط، البعيد كل البعد عن التعقيد والغموض، زهرة ربيعية أخرى تفتحت في روض الأدب… زهرة فريدة من نوعها، تعبق بعطر أدبي ساحر يجذب كل من يمر بها. زهرة تجذب كل من يمر بها ليلمسها ويتفحصها ويشبع من عبيرها الفريد…
كتاب المجنون والبحر فكرة إبداعية جديدة… ولأول مرة أسمع أن القصيدة “تمسرحت”… خرجت القصيدة من ثياب القدسية الشعرية وصعدت على خشبة المسرح (حتى لو كان مسرح الحياة) أمل جديد في أفق الأدب، تفتح أبوابًا جديدة وتبشر خيرًا.
المجنون والبحر… عنقود عذب ولكن مرة يكون حلو المذاق ومرة تكون الحبيبات دون طعم (لان الفكرة المتجسدة في أعماق النص… ان الحياة والمجتمع الذي نعيش فيه ويعيشه الشاعر، يخلط بين الطيب والشرير، بين المحبة والكراهية وغيرها)
وهيب يأخذنا جماعات في رحلة المجنون، عبر خطوط مجتمع مُركب ومعقد ومفكك، في حين يحتاج هذا المجتمع للوقوف معهُ وبجانبه، تتعامل معهُ القادة والوجهاء والزعامة السياسية، كما يقول في بداية الكتاب:
“قد يكون الجنون… في هذا الزمن بالذات، أكثر واقعية من الواقع الحياتي المعيش… وحقيقة حتمية مفروضة… وقوانين اجتماعية وسياسية تدق بعنف بصلابة على العقل والأعصاب… أصبحنا بحاجة إلى قضاة ولجان تحكيم… في ما بيننا من علاقة…”
كم يقهرني ويمقتني أن يسجن الخير بينما ينطلق الشر ليتحكم في ما بيننا فنفقد المحبة والعطف وحب المساعدة… ويفقد الإنسان الوفاء والغيرة على مصالح الغير، لان الأنانية والرفعة إلى أعلى، تضع هؤلاء في موقف حرج، فالوصول إلى الغايات أصبح سهلا وبسيطًا، ندوس على من حولنا، ونستغل ظروفهم، دون حساب لآلامهم، وبعد ذلك حتمًا نصل إلى الأعلى.
يقول الشاعر:
“هذا الوهم القاتل… الذي يجعل للمادة قدمين وكفين ويحمل الأرض… على كف هاوية.”
ونصل لقمة رذالة الإنسان… ومواقفه (المشرفة)! حين يقول الشاعر لهؤلاء… بعد أن ثار البحر وهاج وفقدوا القيم:
“ليس من السهل، أصبحت النزاهة عارًا والدعارة علمًا والخداع تجارة والكذب مهنة…”
يتذكر المجنون “هالة” حبيبته، وأمله والنور الذي ينير دربهُ في هذه الحياة البائسة الجافة، يتذكرها ويتذكر الفرح ولكن:
“هالة دخلت مثل الأرنب البري في ذاكرة المجنون، وعاشت في شرايين الدم وركضت في حقول القلب الواسعة البيادر… جاءت بعد جفاف البحر، وموت السمك البحري على ضفاف اليابسة…”
ماذا تجدي المحبة بعد أن نفقد كل إحساس جميل… وتصبح الدنيا جفافًا وأوراقًا خريفية بائسة ذابلة… الكل في صراع… الكل يركض ويسرع بخطى تسابق الريح من أجل أكل الدنيا، دون حساب الضائع من عمر الإنسان، الكل يركض والدنيا كما هي مكانها، وكما قال الوهيب:
“وهذا السباق العنيف. كل واحد منهم يريد أن يأكل الدنيا، والدنيا كما هي…”
هدأ البحر والمركب يتابع المسير… ونحن في المركب فاغري الأفواه… مشدوهين… مما يجري حولنا، وما نجابه في طريق سفرنا في بحر المجنون… هو الزعامة والقادة والدعايات الكاذبة، والمناشير الملونة المزركشة. أصبحت رسائل أمل للبسطاء والفقراء الذين ينامون ويصحون على أمل تحقيقها، فالوعود كثيرة وإلى ما لا نهاية.
المهم أن يصل القائد لهدفه وطموحه، حتى ولو كان على حساب ضحايا عديدة من الأبرياء… ويتناسى الجميع المصائب التي تحل على قرانا من سرقات ومخدرات وانحرافات…
قالَ المجنونُ وهوَ يضحكُ، ويشتمُ ويبتسمُ:
“أترى هذا البرميلَ المقلوبَ؟
هذا عالمُكُم – عالمُكُم فارغُ المضمونِ…
وألف تاجر ممنوعاتٍ – مخدِّراتٍ، صفقاتٍ،
زعاماتٍ…
وصغارٌ تأتي وتضيع، تمارس لعبةَ الكبارِ.
أين أحلامُ الطّفولةِ – وربيعُ الْأغنياتِ،
وأمانٍ نبتَتْ في الْأفقِ البعيدِ…
في الخيالِ”
أين براءة الأطفال وابتساماتهم… أين الفرح الذي يطل من عيونهم… ماذا سيحل بهم وبشقاوتهم وضحكاتهم… ما هو أملهم ومستقبلهم؟ ما هو مستقبل هؤلاء “الأسماك” في هذا البحر الكبير العائم… فالسمك الكبير الجائع… يأكل الصغير :
المجنون: “أنا لا أحب السمك المقتول ولا العصافير الميتة، ولا الحمام المذبوح ولا الفراشات التي تعلق في شباك الأطفال، ولا الأسماك التي تعلق في شباك الصيادين”
ويعتذر شاعرنا للبحر ويطلب منه ألا يحزن، لأنه سيرحل إلى دنيا جديدة مليئة بالمحبة والسعادة والأمان…! سيرحل إلى دنيا شعارها الحرية والكل سواسية… لا أحكام فيها ولا قوانين، ولا قادة… ولا زعامة… معذرة:
صديقي البحر الجبار/ بكل هذا الكبرياء / وهذا الحب الناعم / هل تحزن أن أرحل؟
ما أجمل أن يشبه شاعرنا الحياة بالبحر الواسع والإنسان المجنون “بالسيد”… ويشبه لنا الشاعر حزن البحر على الإنسان، بقوله:
“يجمع البحر شريعة المجنون في زجاجات الأحزان،
ويقذف بها إلى الشاطئ بكاء عاصفة خرساء.
الآن تجلس هالة قرب متاع الرحيل
وتبكي بكاء عاصفة خرساء.”
ويسافر السيد ويجن البحر، فيقول:
” كنت أعرف، سيدي، زمن الغيبة،
زمن الحضور والغياب، وكنت أخاف!
ووحدي الآن – وأنتَ موتي.
أموت بعدك، سيدي. أين أنتَ!
جن جنون البحر صارخًا
بين الصخر وبين الصخر:
أين أنتَ… سيدي!”
مع انتهاء الحبة “الثانية عشرة من عنقود المجنون والبحر ” الحلقات. أتمنى أن أكون قد حققتُ ولو القليل من وصف ما أتحفنا به الشاعر وهيب نديم وهبة من الوصف المبدع للمجتمع وما يجابهه من صعوبات ورذائل، وانعطافات في هذا العالم المليء بالطرق الملتوية والشائكة.