قراءة في رواية مريم مريام للأسير كميل أبو حنيش
حسن عبادي/حيفا-صفورية
تاريخ النشر: 04/12/22 | 15:59يسعدني أن أكون ثانيةً في صفوريّة للمشاركة في ندوة ثقافيّة مغايرة، حيث كانت المرّة السابقة لإطلاق ومناقشة رواية “عوده ستّي مدلّلة” لصديقي مصطفى عبد الفتاح، واليوم لإطلاق رواية “مريم/مريام” للأسير الحرّ كميل أو حنيش.
تحدّث صديقي الأديب صبحي فحماوي في روايته “سروال بلقيس” عن فلسطين وأيّام الزمن الجميل الحاضرة في ذاكرة اللاجئين، كلّ الوقت، فصالحة السمراء تتحدّث عن أيّامها الجميلة في صفّورية، في بيت حجر نظيف وعِلِّيّة مُطلّة على بحر عكا تحرسه بيّارة، أيّام الدراسة والموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة، والنشيد الوطني الفلسطينيّ، وحمدة تستذكر زوجها الشهيد وذكريات تلك الأيام وبلقيس تستحضر تلك الأيام على أمل أن تعود…قريبًا.
قال عاشق صفورية، المرحوم طه محمد علي: “صفورية هي من صنعت منّي شاعرًا”.
في الخامس من شهر كانون الأوّل عام 2018 رافقت إيفا(سميرة) حمد الزعتريّة بطريقنا خروجًا من الناصرة فسألتني عن بلدة صفّورية فركنتُ السيارة لنطلّ عليها وتساءلتُ في أذنيها: “ما هو الأصعب، أن تنظر إليها صباح مساء وحُرمتَ منها أم أن تكون لاجئًا في الشتات، وكلاكما تحلم بالعودة إليها؟”.
وحين قرأت رواية “تذكرتان إلى صفّورية” لصديقي الروائي سليم البيك تساءلت: لماذا يكتب الجميع عن صفوريّة؟ ووجدت الجواب حين قرأت رواية مصطفى ثانيةً، لأنّها الجنّة المفقودة.
تركَت ستّي مدللة قريتها صفورية قسرًا، هُجّرت إلى لبنان وعادت متسلّلة لتسكن في قرية كفر-مندا الواقعة على مرمى حجر من صفوريّتها، تنتظر تحقيق حلمها بالعودة. خذلها الجميع فهرِمت، أرادت أن تستنشق هواء بيتها وحديقتها … هواء صفورية. وصيّتها، وهي على فراش الموت، تسلّم مفتاح البيت الصفّوري لحفيدتها قائلة: “خذي يا صغيرتي هذا المفتاح، إنّه مفتاح بيتنا الكبير” حالمة بأن تُدفن هناك، مثلما فعلت الجدّة رُقيّة (بطلة رواية الطنطوريّة لرضوى عاشور) حين التقت حفيدتها على الجانب اللبنانيّ من السلك الشائك، تناولتها من فوق الأسلاك، قبّلتها، قامت بنزع المفتاح من عنقها، مفتاح دارهم في الطّنطورة الذي ورثته عن أمّها لتعلّقه بدورها على رقبة الطفلة، وهي تصرخ بصوت عال: “مفتاح دارنا يا حسن. هديّتي إلى رقيّة الصغيرة”.
حين أخبرت كميل عن اللقاء في بساتين صفورية انفعل جدًا وهمس لي: “حلمي أن تُطلق روايتي الصفوريّة على أراضي صفورية، وها هو اتحاد الكتاب الفلسطينيين الكرمل-1948 يحقّق له حلمه ليُفرحه فرحة منقوصة، وكم كان يرغب أن يكون بيننا.
هذا اللقاء لم يأتي من فراغ؛ بدأنا في الاتحاد مشروعنا التواصليّ مع الكلّ الفلسطيني، وأقمنا حفل إطلاق لديوان “أنا سيّد المعنى” للأسير ناصر الشاويش على أراضي قنّير المهجّرة في ذكرى يوم النكبة وها نحن نلتقي اليوم، فعلًا لا قولًا، فعلًا وليس شعارًا رنّانا ولا خطبة عصماء، بل لُبنة أخرى في مشروع متكامل.
فكرة التواصل مع قرانا المهجّرة عبر الأدب والعودة، ولو مؤقّتة، ألهبت مشاعر الأسرى وخيالهم، ووصفها الأسير حسام شاهين “إنها فكرة جديدة وخلّاقة، ولا بد لي أن أشارككم ما أثارته في داخلي من تفاعل وتصورات، وما حرّكته من مشاعر.فصوابية الفكرة تشدك كثيراً، لأنها مبنية على أهمية ووجوب التفكير بأصحاب المكان، لا بالمكان نفسه مع عدم التقليل من شأن ذلك، وإنها تحثنا على تخيل حياة الناس الجميلة والبسيطة قبل الاحتلال، لأنها محاولة أخلاقية لإحياء زمن ما قبل النكبة بكل ما فيه من حياة، ففي هذه الفعالية الفريدة يتم إعادة أبناء قرانا المهجّرة إليها، وإعادتها إليهم، حتى وإن جاء ذلك عبر ديوان شعري أو رواية.
لقد تخيلتها لحظة زمنية فارقة، يصارع فيها التاريخ الفلسطيني كل من سرقوه، وحاولوا تشويهه لصالح رواية مختلقة، فالاستعمار يستطيع أن يزور المكان، لكنه، مهما بلغ حجم قوته ودهاءه لن يستطيع أن يزوّر حياة الناس، بكل منغصاته، وليس بمقدوره سلب روح المكان الذي ينبض بذكرياتهم، وقد فشل في ذلك فشلاً ذريعاً على مدار أربعة وسبعين عاماً”.
ها نحن اليوم نُحوّل صفوريّة المهجّرة إلى حلبة مصارعة، يتصارع فيها التاريخ الحقيقي والطبيعي مع التاريخ المزوّر والاصطناعي.
قلت لكميل حين انتهيت من قراءة مسودّة الرواية، وكان عنوانها المقترح “أرض السماء” وأحداثها “صفّوريّة” بإمتياز: “صفّوري يطلّ على صفّورية المدمّرة من حيّ الصفافرة النصراويّ، عادة يورّثها الجدّ للحفيد، لا تبعُد مرمى البصر، ولكنّها سُلبَت منه إثر النكبة؛ صفوريّة أجمل مكان في العالم، فردوسًا مفقودًا يحلم أبناؤه باستعادته يومًا ما”.
المنافي البعيدة ومخيَّمات الشتات مليئة بمن تَرَكُوا روحهم وديعةً على أرض الوطن، يعدُّون الأيَّام والسنين، ويعيشون هاجس العودة -عودةِ الروح الى الجسد. حنينٌ صاخب بالعودة إلى أسمائهم الأولى، يستيقظ الطفل فيهم وتسرقه أحلامُ اليقظة بعيدًا إلى مواكب السفن العائدة، لترسو على شواطئ يافا وحيفا محمَّلة بأفواج العائدين، يلاحقهم كابوسٌ مزمن: الخوف أن يغادروا هذه الدنيا قبل تحقيق العودة… كلٌّ إلى “صفُّوريَّته”.
إنَّها الأمل الذي يُحرِّك المشاعر ويُثير الشجون ويخفِّف من مرارة الغربة. إنَّها زيت المصباح الذي يُنير الطريق نحو الوطن. إنَّها الأمنية الحزينة التي يردِّدها أهلنا في المنافي والشتات: “تصبحون على عودة”، و”بالعودة”. حين سمعت الجدَّة مريم: “يا حجّة، عقبال العودة لصفُّوريَّة”، أجابت بلهفة واحتضان وقُبلة: “هذه أجمل أمنية أسمعها في حياتي، لم يقُلها لي أحد منذ سنوات بعيدة”.
نعم، لم ولن نرضى القبول بعودةٍ فرديَّة على شكلِ مِنَّةٍ من أحد. ولكلّ صفُّوريٍّ قبر ينتظره ليُدفَن في تراب الوطن… في صفُّوريَّة.
كُتب الكثير عن صفوريّة، وكُتب عن الكويكات والطنطورة والشجرة، وحبّذا لو يكتب أدباءُنا عن باقي قرانا ومدننا المُهجّرة لأنّه هناك ضرورة مُلحّة لدحض الرواية الصهيونية التي علّمونا إياها منذ الصغر. روايتنا الشفوية الصادقة مُهمّشَة ومُغيّبَة وآن الأوان لتدوينها، ولو عن طريق الأدب.
صفّوريَّة المشتهاة ما زالت تنتظر.
قلتها مرارًا وتكرارًا؛ تحرير البلاد بتحرّر كافّة أسرانا.
الحريّة للعزيز أبو حنيش وأسرى الحريّة.
***مداخلتي في حفل إطلاق رواية “مريم مريام” للأسير كميل أبو حنيش (دار الآداب اللبنانية) يوم الجمعة 02.12.2022 على أراضي صفورية المهجرة برعاية الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين الكرمل 48 وأهالي صفورية