قراءة في “رواية مريم مريام”
بقلم: مصطفى عبد الفتاح
تاريخ النشر: 07/12/22 | 14:55الهوية ثمرة الأزمنة في هذا المكان
قراءة في “رواية مريم مريام”
مريم مريام، ليست مجرَّد رواية ابطالها يعيشون الواقع، يبحثون عن ذواتهم المُعذَّبة والمُهدَّدة، يبحثون عن الانسان في داخلهم، يبحثون عن هويتهم القومية والوطنية والمدنية، فيتوهون في لجج الحياة، يبغون حياة دافئة مُطمَئنَّة فيزداد ضياعهم، إنَّه كتاب مفتوح على قضية شعب، بكل تفاصيلها الدقيقة، وبكل تشعباتها الكبيرة والصغيرة، تبدأ صفحاتها منذ فجر التاريخ وتنتهي بصراع مرير لم تنته فصوله بعد، تبدأ من مدينة صفورية الوطن والتاريخ والعراقة، وتنتهي في صفورية الوطن الجريح الباحث عن هوية وانتماء وجذور. فأي رواية هذه واي راوٍ مُلهَم هذا الذي استطاع ان يحمل هذا الكم الهائل من عمق في المعلومات السياسية والاجتماعية والفكرية والفلسفية، ومن احاسيس ومشاعر، تعيد الوطن اليك، وتعود انت اليه، فتعالوا نتعرف معا على كاتبها:
إنَّه المُناضل، الاديب، الكاتب، الشَّاعر، المُفكِّر، الروائي، القاص، كميل أبو حنيش، شخصية استثنائية، يستنهض الفكر، ويصور الواقع بكل تفاصيله، ناضل بكل ما اوتي من قوة من اجل حريَّة شعبه وتحرره، وكان سلاحه الأوَّل ايمانه الخالص بعدالة قضيته، حمل دمه على كفه وانطلق، حتى دخل السجن بتسعة مؤبدات، لم تثنه عن حقه في الاستمرار في نضاله بالوسائل المُتاحة امامه وامام الأسرى، البطون الخاوية، والكلمة الصادقة، فكان صوت كلمته الصادقة الحرَّة اقوى من صوت الرَّصاص، اعتقل عام 2003 ولم يترك للقيد أن يغيّر اهداف حياته، أصدر العشرات من المطبوعات، المختلفة والكتب الأدبية ومنها ، “خبر عاجل”، “الكبسولة”، “جدلية الزمان والمكان”، “مناخات ماطرة”، ورواية “مريم مريام” التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا اللقاء، فله ولجميع من معه، تحية حب ووقفة عز وشموخ، لهذا الأسير الاديب الرائع، ولجميع اسرى الحرية، في سجون الاحتلال، نشعر بما تشعر به وما تعانيه، من عذابات السجن، بقولك من على صفحات التواصل” أتطلع نحو سماء الذَّاكرة متفحصًا ما حلَّ بها بعد هذا العمر من الرحلة مع القيد، فأرى صدوعًا خفيفة تُنذر بالخطر، واخشى من اتساعها لتتحوَّل إلى ما يشبه الثقب الأسود الذي مِن شأنه ابتلاع كل شيء عنده، قد لا أجد ذاتي”. سلامة ذاكرتك، وعطائك، فانت مفكر وموسوعي، ندعوك إلى المزيد من العطاء.
يقع القارئ بإرباك من عتبة النص الأولى، مريم مريام رواية ثنائية الاسم واللغة، فما الذي يقصده الكاتب، اسم مريم له الكثير من الدلالات، فمريم العذراء تقول بعض النصوص التاريخية أنَّ صفورية مكان احداث الرواية هي مسقط راسها، وما دير القديسة حنة الا اسم والدة مريم العذراء، ما هو الا شاهد على ذلك. وقد تكون مريم مجرد اسم مشترك لكلا الشعبين العربي واليهودي، وقد يكون رمز للعفة والطهر والنقاء. وربما ما ذكرته الرواية ان مريم هو اسم فلسطين الأول، ولذلك كان مشتركًا للعربية والعبرية. فهل هي رحلة البحث عن الهوية، وتزداد حيرة القارئ بصورة الغلاف الذي يحوي عذراء صفورية الرومانية وابنة صفورية العربية، وشجرة تين تحمل الكثير من الثمر خلف قضبان سجن بيضاء، فهل ذلك مؤشر الى الاحتلال ام الى الأفكار المسجونة التي تبحث عن متنفس ومخرج لها خارج الزمان والمكان؟ فإلى اين يريد ان يأخذنا كميل أبو حنيش في روايته التي تبدأ من هنا؟
وقبل الولوج الى عالم الرواية تطالعنا، مقدمة للرواية، كثيفة المعاني والدلالات، عن صفورية والنكبة واللجوء الفلسطيني، للصديق المحامي الحيفاوي حسن عبادي، يطرح فيها سؤال المليون” ما هو الأصعب ان تنظر اليها “الى صفورية” صباح مساء وحرمت منها، ام ان تكون لاجئا في الشتات وكلاكما تحلم بالعودة اليها؟” ص 6. عزيزي حسن احييك على مشروعك الرائع “لكل اسير كتاب” و “أسري يكتبون” وأخيرا كتابك الجديد الرائع” الكتابة على ضوء شمعة” وهذا التواصل بين كلمة الاسرى والعالم الخارجي، أتمنى ان تكون انطلاقة للوصول الى عالمهم، لدعمهم والوقوف الى جانبهم ليس فقط على مستوى الافراد وانما أيضا على مستوى المؤسسات، لتستطيع ان تدعمهم لتضيء لهم عتمة السجن، انهم من هناك يحاولون انارة قلوبنا فدعمنا لهم، ليس فقط لأنهم يستحقون وهم يستحقون، ولكن لان هذا واجبنا الأخلاقي والإنساني والوطني، وهي مهمة وطنية وإنسانية واخلاقية من الدرجة الأولى فشكرا لك أولا ولكل من ساهم في دعمهم، رابطة الكتاب الأردنيين، والاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين الكرمل 48 .
ولنعد الى رواية مريم مريام، اللافت فيها، هذه اللغة السلسة الواثقة، والموثَّقة بالمعلومات الدقيقة التي يقدمها لنا الكاتب بأسلوب، مبسَّط عميق، واثق بدقته، وبتفاصيله الصغيرة، لم يترك شاردة او واردة الا وطرحها امام القارئ، ليجعله يشعر انَّه هو بطل الرّواية هو السَّارد وهو صاحب القضية.
تتحدث الرواية بصيغة المُتكلم، على لسان إبراهيم او ابرام، وابراهيم هو الحفيد لمريم العربية ومريام اليهودية، وابن لإلياس او إليَّا الصفوري الفلسطيني ابن الشهيد محمود ، وامه هي شولاميت او سلام، اليهودية ابنة آدم وميريام من مستوطنة تسيبوري المُقامة على أنقاض صفورية العربية، وقد سُمي بهذا الاسم إبراهيم “اسميناك على اسم جدنا ابراهام كي تكون جسرًا للمحبة والسلام، يسمو عن بحر البغض والاحقاد التي ما انفكت تعكّر اجواءنا الصافية” ص 91 وإبراهيم نفسه يطرح لنا ملخص الرواية، وما علينا الا الدخول في تفاصيلها ” في الناصرة، مدينة يسوع وحاضرته الجليلية كانت صرختي الأولى في الحياة. امي شولاميت، أو سلام كما يناديها ابي. شولميت اليهودية ابنة مريام، الناجية من المحرقة “الهولوكوست” النازية، وزوجة آدم جدي الذي سقط في اشتباك مع الفدائيين عام النكسة. وابي الياس او اليا، كما تناديه امي ابن مريم العربية، ابنة قرية صفورية المُدمَّرة، واللاجئة في حي الصفافرة قرب النَّاصرة، وزوجة الشهيد محمود الذي سقط دفاعًا عن صفورية في عام النكبة. وشقيقتي عنات ابنة شولميت من زواج سابق. اما انا فاسمي إبراهيم كما يناديني العرب وابرا، كما تناديني امي وبقية اقاربي واصدقائي اليهود.” ص 16 – 17.
اختار الكاتب صفورية، القرية الفلسطينية المهجرة والتي قامت على انقاضها مستوطنة تسيبوري التي سكنتها جدته مريام، في حين هُجِّرَت جدَّته مريم الى الناصرة حيث أُقيم حي الصفافرة الواقع على مرمى حجر من قريتهم صفورية، على أمل العودة اليها، الامل الذي لم يتحقق الى هذه اللحظة. ويبدو انَّ صفورية بموقعها التاريخي وجمال مناظرها، وخصب ارضها وسعتها التي تمتد شمالا حتى سهل البطوف والى أراضي شفاعمرو غربا وجنوبا موقعها قد جذب العديد من الكتاب لتكون مكان احداث رواياتهم عن النكبة، بالإضافة لأسباب أخرى،” رأيت بحزن بيوت المستوطنة وسكانها الغرباء وبضعة بيوت عربية في صفورية” ها هي صفورية اذن: ارض الحكايات والاحلام والاحزان المكبوتة، ليس في وسعي الا الخشوع بحزن” ص 71، وقد كنت واحدا منهم حيث صدرت لي روايتي “عودة ستي مدللة” التي تشبه الى حد بعيد الجدَّة مريم العربية في روايتنا هذه، والتي لم تطق ألم اللجوء البعيد الى المنافي خارج الوطن، فعادت لتعيش على مرمى حجر وفي قلبها حنين لا ينضب للعودة الى قريتها المدمرة القريبة من مكان سكناها في كفر مندا القرية العامرة باهلها.
وهكذا يطرح ابرام نفسه ليبحث عن هويته وتناقضاتها فسؤال الهوية القومية والوطنبة والمدنية يؤرق الكاتب والسارد خلال جميع فصول الرواية، فيقول عن حقيقة ضياعه في تعريفها: “بطاقة تعريفية فسيفسائية، هادئة وبسيطة، ثرية بهوياتها وآلامها. هوية تتمازج فيها دماء الجلادين مع دماء الضحايا، وحكايات الغرباء مع الأصليين. وها انا كما ترون ثمرة هذا التمازج الغريب، أجد نفسي تائها في هذه التعددية المتشابكة بأزمتنا، واوجاعها، وامالها، وفجائعها، وثرية بكل أنواع الجنون والحماقات التي لا حصر لها.” ص 17.
يحاول كميل الذي يتحدث بلسان إبراهيم السارد، وفي هذا الوضع الملتبس في بداية روايته، يحاول ان يكون حياديا، عله يصل الى فهم التناقضات الحاصلة وفهم الصراعات القاتلة داخل الاسرة الواحدة وبين الاسرتين العربية واليهودية لعله يصل الى فهم او الى حل يرضي الجميع دون ان يعيش هذه التناقضات التي فرضتها عليه القضية بكل ابعادها ، ولكي يكون موضوعيا وصادقا ويضع القضية بكل تفاصيلها امام القارئ بمنتهى الموضوعية في بداية الرواية فانه يعطي جميع الشخصيات الفرصة ان تتحدث عن نفسها وكل يطرح رؤيته وموقفه بكل شفافية ووضوح، لكي يصل هو الى الأجوبة التي تريح روحه المعذبة وتهدئ من روح الثورة الداخلية المشتعلة في روحه المعذبة فيقول ” بيد اني كنت اود ان اتسرب الى أعماق جدتيَّ لتجيبا على تساؤلاتي وتطفئا ظمأ روحي المعذبة” ص 63.
وفي خضم هذه الأجواء الملتهبة، والتي تحمل في طياتها تاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني، ووجهات النظر والمواقف المختلفة والمتشعبة” اليهود يعربونني، والعرب يهودونني، وانا لا اعرف من انا” ص، 96، يطرح الكاتب الأسئلة الصعبة، ويبحث لها عن حلول، ومنها:
قضية اللجوء في الوطن، والعذاب المستمر يوما بيوم وساعة بساعة، كما عبرت عنه الجدة مريم في انتظار العودة الجماعية الى صفورية رافضة الرجوع الفردي الى بلدها، وهنا يبحر الكاتب في المعنى الحقيقي للوطن والانتماء والهوية.
وقضية السلام واتفاقيات أوسلو التي تعتبرها مريم نهاية الحلم بالعودة” اليوم فقط أدرك أنى لن اعود اطلاقا الى صفورية، لقد تهاوى الحلم الكبير” ص 106.
قضية الهوية القومية، والوطنية والهوية المدنية، والهوية الإنسانية، يحاول ان يكون موضوعيًا ومحايدًا في بداية الرواية ليجد نفسه في جانب المظلوم، مع الحق والعدل والانصاف.” ما هي الهوية؟ وحدي سادرك انها انتماء انساني واخلاقي ووجداني قبل أي شيء اخر. اذن انا ابن المكان، فلسطيني عربي لا يعيب على نصف جيناتي اليهودية” ص 127. ويصل الى الحل الأمثل عن طريق صديقه الاعز أبو سريع الذي استشهد فيما بعد في الاحتجاجات ضد الاحتلال فيقول: ” الانسان ليس مجرد جين وعرق ودين وثقافة، انه انسان أولا وأخيرا. وعلى هذا الأساس يتعين عليه اتخاذ موقفه” ص 142. فيعتبر اليهودية دين وليس جين، فهو فلسطيني حتى النخاع حتى لو كان نصفه يهوديًا.
وعن الاغتراب وهي قضية تقض مضجع الفلسطيني في وطنه وخارجه، وقد تتفاوت درجة الاغتراب بين مكان واخر، بدرجة وعي المحيط لموضوع الهوية، فيقول” في الجامعة لم يساورني أي شعور بالاغتراب وتآلفت سريعًا مع محيطي الذي بدأت أنتمي اليه، وأردم بالتدريج تلك الهوَّة السَّحيقة التي كانت تفصلني عن معنى الانتماء لشعبي” ص 127.
ويصل الكاتب الى ذروة انتمائه الوطني والإنساني عندما يشرح له صديقه أبو سريع عن ماهية الوطن” الوطن مسالة ثقافيَّة واخلاقية ووجدانية، الوطن هو الإحساس بالمكان، بالتاريخ، وبالبشر الذين تقاطروا فوق ترابه هو الانحياز للهوية الإنسانية للحب وللعدل.” ص 146، ويخلص ابرام في نهاية الرواية بعد ان ماتت الجدات وتوفي الاب والام وبقي مع اخته عنات ليعرّف نفسه بعد كل هذه المعاناة والحياة الممزقة في سبيل اراحة النفس المعذبة والوصول الى الحقيقة والعدل والانصاف لكل من يسكن الوطن فيقول ” انا بؤرة التقاء الأزمنة والأديان والتاريخ والصراعات، انا الجسر الذي لو أمكنهما عبوره لكان التاريخ يدخل حقبة أخرى مغايرة” ص 234 وكأنه يقول انا اسمي فلسطين، انا فلسطيني وامثل كل ما فيها من تناقضات، انا أجسد ابونا إبراهيم، او ابرم ان شئتم، لو استطعتم ان يستروا على هدي تعاليمي لكانت صورة التاريخ مختلفة.
رواية رائعة، ابطالها انا وانت وكل فلسطيني يحمل حس الانتماء، فرغم أنك تقرا معلومات تعرفها وأماكن تعيش فيها وتعيش فيك وتعرفها بكل التفاصيل الا ان فلسفة الرواية تشدك من العنوان وحتى اخر كلمة، ألف تحية لكميل وقلمه النابض بالانتماء وبالمحبة والإنسانية. الحرية له ولجميع أسري الحرية
***مداخلتي في حفل إطلاق رواية “مريم مريام” للأسير كميل أبو حنيش (دار الآداب اللبنانية) يوم الجمعة 02.12.2022 على أراضي صفورية المهجرة برعاية الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين الكرمل 48 وأهالي صفورية.