فلسطين بحاجة إلى الوحدة ثم الوحدة لمواجهة المخاطر العاتية
د. جمال زحالقة
تاريخ النشر: 22/12/22 | 11:01في الوقت الذي تنتظر فيه القيادة الفلسطينية ردود فعل دول العالم على الحكومة الإسرائيلية الجديدة، الأكثر تطرّفا في تاريخ الدولة الصهيونية، فإن دول العالم لا تسارع في اتخاذ المواقف، وتنتظر أفعال حكومة اليمين المتطرف ورد الفعل الفلسطيني عليها. ويبدو أن النخبة السياسية الفلسطينية لم تستوعب بعد حجم التصعيد العدواني والاستعماري الإسرائيلي المقبل، وهي بالتأكيد لم تتخذ، حتى الآن، أي إجراء لمواجهة التحديات والمخاطر العاتية المقبلة. وإذا كانت المرّة الأخيرة التي طرحت فيها بجدية (نسبية) محاولة للتوصل إلى الوحدة الوطنية، كانت في التصدي لمشروع الضم المستند إلى صفقة القرن، وقد ذوت تلك المحاولة بسرعة بمرور خطر الضم الداهم بسرعة أيضا. هذه المرّة الأمور لا تقل خطورة، فالحكومة الإسرائيلية الجديدة تحمل مخاطر بوزن صفقة القرن، وربما أكثر، والحاجة الماسة للوحدة الوطنية هي مسؤولية تاريخية لا يمكن تجاوزها، وهذه الحكومة ومثيلاتها ستبقى لفترة طويلة.
الوحدة: من هنا نبدأ
من الناحية الموضوعية، لم يكن الشعب الفلسطيني بحاجة إلى الوحدة كما هو اليوم. صحيح هي استراتيجية لازمة لأي نضال تحرّر وطني فعال وناجع، كما فعلت شعوب كثيرة، أنشأت جبهات وطنية موحّدة للخلاص من الاستعمار، وفي الحالة الفلسطينية هي حاجة دائمة ما دام هناك احتلال ونظام استعمار وأبرتهايد. لكنّ هناك ظروفا ولحظات تصبح الوحدة مطلبا أشدّ إلحاحا وأكثر ضرورة. وما من شك في أن مواجهة حكومة اليمين الاستعماري الفاشي، هي تحدٍّ يستدعي الوحدة ويستدعي الدعوة لها باستغاثة.
في السنوات الأخيرة كانت هناك ضرورة للوحدة لتفادي أضرار الانقسام، فالقضية الفلسطينية مهمّشة وتزداد تهميشا، وإسرائيل تستغل الانقسام لخفض سقف التوقّعات الدولية، ولإقناع العالم بعدم جدوى مطالبتها بالعودة إلى المفاوضات والسعي لحل سياسي بالادعاء أن المشكلة ليست في مواقفها، بل بأن الفلسطينيين «غير موحّدين». كما أنّها تستغل الانقسام لإضعاف الشعب الفلسطيني وتكريس تجزئته والانفراد بكل قسم منه على حدة، ما يسهّل عليها حصار غزّة وقمع الضفة. أضرار الانقسام تتراكم وتزداد، ولكن استمرار الانقسام في ظل حكومة إسرائيلية بهذه الدرجة من الخطورة والتطرف، يعد نوعا من الجريمة بحق الشعب الفلسطيني، لا أقل.
الحكومة الأكثر تطرفا
يخطئ من يظن أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة ستكون استمرارا خطّيا لسابقاتها، مع بعض التغييرات الطفيفة. الحكومات الإسرائيلية السابقة حملت مشاريع استعمارية وعدوانية وإجرامية بحق الشعب الفلسطيني، لذا فإن وصف الحكومة الجديدة بأنّها الأكثر تطرّفا لا يعني بالمرّة أن ما سبقها كان أفضل، بل للإشارة إلى حدّة مواقفها وإلى نواياها ومخططاتها المعلنة وإلى أنّه إذا أتيحت لها الفرصة فهي ستفعل أكثر من سابقاتها. وفي كل الأحوال فإن الكثير ممن يحملون صفة «الاعتدال»، ارتكبوا من الجرائم ما يفوق جرائم المتطرّفين، والذين هجّروا شعب فلسطين واستولوا على وطنه فعلوا ذلك وهم ينشدون «جئنا إليكم بالسلام»، أمّا الذين يصرخون «الموت للعرب»، فلم تتح لهم فرص كثيرة للتنفيذ، وفعلوا، حتى الآن، أقل من غيرهم. هناك من الوزراء الإسرائيليين من هم جدد، وتحدّثوا حتى الآن بلغة التهديد والوعيد والانتقام، ودعوا إلى سياسة أكثر وحشية وعنفا تجاه الشعب الفلسطيني، واليوم هم في موقع اتخاذ القرار وسيحاولون تنفيذ ولو جزءا من عقائدهم العنصرية والعدوانية. أما الرأي العام الإسرائيلي فهو أكثر تطرفا وأكثر استعدادا لتقبّل سياسات اليمين الاستيطاني ذي النزعات الفاشية. وتكفي، هنا، الإشارة إلى بعض مميّزات حكومة نتنياهو الجديدة، لتوضيح مدى خطورتها وتطرفها:
استمرار الانقسام في ظل حكومة إسرائيلية في هذه الدرجة من الخطورة والتطرف، يعد نوعا من الجريمة بحق الشعب الفلسطيني
أوّلا: دخول عناصر يمينية موغلة في التطرف لم تشارك في يوم من الأيام في أي حكومة إسرائيلية، بل كانت تعتبر عنصرية وكانت حتّى ذات صبغة جنائية وفق القانون الإسرائيلي، وهي مؤلّفة من تلاميذ الرابي مئير كاهانا، الذي أُخرجت منظمته عن القانون باعتبارها منظمة محظورة بسبب عنصريتها. ويقود هذه العناصر الوزير الجديد إيتمار بن غفير، الذي يستلم وزارة الأمن الداخلي، التي تحوّلت بناء على طلبه إلى «وزارة الأمن القومي»، ويجري تغيير القانون لمنح الوزير الجديد صلاحيات موسّعة وغير مسبوقة تجعله المسؤول المباشر عن عمل الشرطة بما يشمل سياسات التعيين والتحقيق والاعتقال والإدارة المالية، وتحديد الأولويات وكذلك مسؤولية مباشرة عن وحدات حرس الحدود في الضفة الغربية، وهي صلاحيات لم تكن بحوزة أي وزير سابق. ومما يوضّح عمق التغيير في عمل الشرطة هو أن بن غفير كان يأتي إلى الشيخ جراح ويدخل في نقاشات وحتى مشاحنات مع الشرطة. اليوم هو يعطيهم الأوامر! وشرطته ستكون مسؤولة عن القدس وما يحدث في القدس وستعمل وفق سياساته وما فعلته في السابق ستفعله غدا بوحشية متزايدة، وبتشجيع أكبر بكثير من القيادة السياسية، ناهيك من تهديد فلسطينيي الداخل، خاصة في منطقة النقب.
ثانيا: حزب الليكود، الذي يقوده نتنياهو أصبح أكثر تطرّفا من ذي قبل، وتغيب عنه تماما عناصر ليبرالية نسبيا (وبالمقاييس الإسرائيلية)، ويمكن أن نقول اليوم بأن حزب الليكود هو حزب يمين متطرّف، وليس حزب يمين تقليدي يحمل بعض المواقف الليبرالية. لقد أبعد الليكود بزعامة نتنياهو عن قيادته شخصيات يمينية لمجرد أنّها حملت بعض المواقف، التي اعتبرها معتدلة زيادة عن اللزوم، ومن هؤلاء: بيني بيغن، ودان مريدور، وموشي كحلون، وموشيه يعلون، وروبي ريفلين وآخرين. الليكود اليوم لا يختلف عن بقية اليمين المتطرف سوى بالتكتيك وبالأخذ بعين الاعتبار علاقات إسرائيل الإقليمية والدولية. وفي الحقيقة هو أخطر من غيره بكثير لأنّه قادر على تنفيذ مشاريع الاستيطان والتهويد والضم الزاحف، وتسويق إسرائيل دوليا كرمز للاعتدال والديمقراطية.
ثالثا: لدى هذه الحكومة برامج للسيطرة التامة على كل مفاصل الحكم، وعلى الدولة العميقة وعلى الجهاز القضائي والبيروقراطي في إسرائيل. وهذا سينعكس حتما في سياسات أكثر عنصرية، وفي تغييرات في برامج التعليم وفي مجال وسائل الإعلام وفي عمل الأذرع الأمنية. وكل التغييرات باتجاه واحد إلى اليمين واليمين المتطرّف العنصري والمحافظ. هذه ليست قضايا إسرائيلية «داخلية»، كما يروق للبعض أن يصفها، بل هي تحوّلات تصب جميعها باتجاه تنفيذ المشروع الصهيوني، بصيغته الأكثر عدوانية ونفيا للشعب الفلسطيني وحقوقه. الهدف واضح وهو جعل النظام الإسرائيلي برمته يخدم بسلاسة وبانسجام مشاريع الاستيطان والاحتلال والمصادرة واقتلاع الفلسطينيين. فالسيطرة على السلطة القضائية تتيح للمستوطنين أن يبنوا مستوطناتهم أينما يشاؤون والمحاكم ختم مطاطي لهم. أما جهاز التعليم الإسرائيلي فهو يتجه نحو المزيد من العسكرة وتحضير أجيال كاملة لارتكاب جرائم بلا رادع على أساس مبدأ «من يريد قتلك سارع بقتله»، وبرامج التعليم تغرز في أذهان الطلاب أن الفلسطينيين «يريدون قتلنا». التعليم الإسرائيلي يسير باتجاه أكثر انغلاقا وتشديدا على الهوية اليهودية، وأقل اهتماما بالقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتربية الجيل الناشئ في إسرائيل ستكون لها أبعاد استراتيجية على قضية فلسطين.
رابعا: هناك مباراة بين قادة الحكومة الجديدة من هو أكثر عداءً للشعب الفلسطيني، وبرامجهم المعلنة هي توسيع غير مسبوق للاستيطان، ومنح شرعية قانونية للبؤر الاستيطانية (غير القانونية وفق القانون الإسرائيلي نفسه) ومصادرة أراضي وهدم مبانٍ في القدس والضفة الغربية، وحتى ضم المستوطنات رسميا لإسرائيل، وانتهاز الفرصة إن سنحت بفوز الجمهوريين في الولايات المتحدة لضم حوالي نصف مساحة الضفة الغربية الى إسرائيل رسميا.
خامسا: تسعى بعض مركبات الحكومة الإسرائيلية الجديدة إلى السماح لليهود بالصلاة في باحات المسجد الأقصى وبالمكوث فيه لساعات أطول. نتنياهو لا يعارض ذلك مبدئيا، لكنّه يخشى رد فعل الأردن وحتى دول الخليج من أي تغيير جدّي إضافي في ما هو قائم في المسجد الأقصى. ما قد يحدث هو تغييرات متدرجة بخطوات «غير دراماتيكية» متراكمة، تسمح لليمين المتطرف أن يدّعي في الانتخابات المقبلة بأنّه أحدث تحوّلا في هذا المجال أيضا.
سادسا: ستأخذ الحكومة الجديدة السياسات القائمة إلى اتجاه أكثر تشدّدا، خاصة في قضية الأسرى حيث سيتولّى إيتمار بن غفير المسؤولية عن هذا الملف وقد أعلن وكرر الإعلان بأنه ينوي تضييق الخناق على الأسرى، ووقف ما سماه حالة «النعمة» التي يعيشون فيها. وكذلك ستزيد حكومة نتنياهو من ضغوطها على السلطتين في رام الله وغزّة بأساليب قديمة ومبتكرة.
الوحدة ثم الوحدة
السؤال الكبير، ويجب أن يبقى سؤالا لا أمرا مسلما به، هو هل ينطلق الرد الفلسطيني على الوضع الجديد، من مرتكز الوحدة الصلب؟ أم من قاعدة الانقسام الرخوة؟ الوحدة بحد ذاتها ليست ردّا، بل منطلقا للرد وللهجوم المعاكس. أما في غيابها فالأمور ستكون أكثر كارثية، لأن إسرائيل سوف تستغل الانقسام لإضعاف الشعب الفلسطيني وتسهيل الهيمنة على مصيره. في الحالة الإسرائيلية الجديدة الكثير من نقاط الضعف يمكن استغلالها، إذا لقيت من يستغلها. وإذا بقيت النخبة الفلسطينية المتنفّذة مشغولة بالانقسام، فهي لن تجد طاقات كافية لقيادة الشعب في المرحلة الصعبة المقبلة. الشعب لن يسكت، والشباب الفلسطيني اليوم في حالة تأهّب واحتقان واستعداد للنضال والتضحية، لكن الأصح ألا تبقى التضحية تعبيرا عن غضب فقط، بل يجب تسييس هذا الغضب قدر الإمكان وتوجيهه صوب أهداف التحرر الوطني الفلسطيني، وهذا يتطلّب الوحدة ثم الوحدة.