“وقد أمسى الحضور ضياعًا”
د. لينا الشيخ - حشمة
تاريخ النشر: 01/01/23 | 22:38قراءة تحليليّة تأويليّة في رواية “بدلة إنجليزيّة وبقرة يهوديّة” لسعاد العامري
هي رواية الحقائق التاريخيّة؛ التاريخ الذي لم نتعلّمه، التاريخ المفقود والوطن المسلوب. هي رواية الضياع؛ ضياع الحقّ والحقيقة، فكُتِبت لتنفيَ المقولةَ “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”(ص170). فإذا كان التاريخ يغيّب أوطانًا فالأدب يستعيدها، فالأدب إحياءٌ وبعثٌ؛ يستحضر الوطن، يُحضر ذاكرتَه ويبنيه من جديد. وإذا كانت كتب التاريخ للمنتصر فإنّ الرواية أقدر على حفظ الحقيقة، توثّق أحداثًا ووقائع تاريخيّة من التاريخ الفلسطينيّ بأسماء ووقائع حقيقيّة.
ليست الفكرة بجديدة، فهي رواية عن النكبة وعن يافا، لكنّها تنجح بجذب القارئ بحبكتها السلسة والشائقة. أخذت التّاريخ وحبكته بالفنّ الروائيّ بتماهٍ وانسيابيّة، فذاب الواحد بالآخر بعباءة الخيال بتناغمٍ محكمٍ. فالفنّ الروائيّ يأذن بحرّيّة أوسع في تمثيل الواقع وإعادة خلقه. كما أنّ اللّغة الروائيّة أكثر مرجعيّة ومطابقة للتّجربة الإنسانيّة. اعتمدت الكاتبة على الراوي العليم الكلّيّ، وبضمير الغائب الّذي يرتبط بالمتخيّل ويمكّنها من رؤية شاملة للأحداث، والإحاطة بعدّة أمكنة وأزمنة في الآن نفسه، والدّخول إلى أعماق الشخصيّات وكشف دواخلها وأفكارها وصراعاتها. وعلى الرغم من الألم والفقد إلّا أنّ الكاتبة لا تحرم قارئها من أسلوب السخرية والمفارقة والتهكّم و “شرّ البليّة ما يضحك”. ويأتي ذلك كآليّة ضروريّة للمقاومة والدفاع والتنفيس، وتفريغ التوتّر والقلق وألم الفقد.
قدّمت العامري يافا بأبعاد هندسيّة وطوبوغرافيّة دقيقة، وهي المعماريّة العارفة، حتّى تكاد الرواية أن تكون سردًا أمينًا للحياة التي عيشت فيها في تلك الفترة. كان للوصف قيمة أيديولوجيّة تتّصل بتجسيد يافا والحياة العامرة فيها بحلّتها النابضة المشرقة، فالوصف وسيلة اللغة في جعل المكان مُدرَكًا للقارئ. وقد وثّقت العامري معالمها التاريخيّة والجغرافيّة والطبيعيّة والأثريّة والمنظومة الاجتماعيّة، وكذلك الحركة الاقتصاديّة كزراعة البرتقال وتصديره وصيد الأسماك، ثمّ رصد الفروقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الحادّة التي كشفت عن الصراع الطبقيّ في المجتمع اليافاويّ، والمشهد السياسيّ في تلك الفترة، بما يتضمّنه ذلك من تنازع الأحزاب وخلافاتها وتوجّهاتها السياسيّة. حتّى العملة الفلسطينيّة لم تبخل بوصف شكلها. إضافة إلى التركيز على الحركة الثقافيّة والمشاهد الثقافيّة كدور السينما والمقاهي والنوادي وحفلات أمّ كلثوم. الأمر الذي يجعلنا نخلص إلى القول إلى أنّ العامري استحضرت يافا التي كانت أغنى وأكبر المدن الفلسطينيّة، يافا التي كانت ترحّب بالزوّار الغرباء، وهو ما أعطى يافا لقبها المستحقّ “أمّ الغريب”.
أحضرت العامري يافا كاشفة عن مدى التعلّق الشعوريّ والارتباط الوجدانيّ بها كمكان فلسطينيّ. أوَ ليس الأدب الفلسطينيّ؛ الاسم الذي يرتبط بهويّة المكان، يرصد الإنسان الفلسطينيّ بحياته المرهونة بالسلب والفقد والتغييب؟ لا يمكن للفلسطينيّ أن يعيش مكانه دون أن يربطه بوعيه بزمن النكبة وأثرها وتداعياتها. إنّ المكان عنده هو فلسطين بنكبتها وتاريخها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، طبيعتها وجغرافيّتها، أرضها وبحرها، قراها ومدنها، فلّاحها وناسها ولغتهم وتراثهم. وهي بعد كلّ هذا هي الحياة ومعناها وكينونتها؛ حياة الناس وسلوكهم وعاداتهم وتقاليدهم.
ولمّا عاش الفلسطينيّ حالة خاصّة يتفرّد بها، بسبب نكبته وقيام دولة أخرى على أرضه وبهويّة أخرى، فهي الكتابة عند العامري طريقتها في التعاطي مع هذا الواقع؛ ففي الأدب شهادة ووثيقة. حين سُلبت حياة الفلسطينيّ لم تعد له إلّا ذاكرته يؤكّد من خلالها على وجوده. وبات الحكي عن الوطن المغتصب أفضل الطقوس لمواجهة الفقد. يمسي الحكي وفعلُ السرد بعثًا لحياة سُلِبت، وانتقامًا من السلب والتغييب والتهجير، وضدّ الصمت والمحو والغياب. وتمسي الكتابة آليّة توثيقيّة تكشف من خلالها ذاكرة شعب؛ فما أضاعه التاريخ تعيد نسجه وبناءه لتعيد سرده وتوثيقه. في اللغة تبحث عن الحقيقة وترسّخ الحقّ.
إنّ المكان البديل الذي يفرض على الإنسان قسرًا لا يمنح الإنسان الشعور بالهويّة ولا بالسكينة والاستقرار والانتماء، فالفلسطينيّ الذي يضطرّ إلى الهجرة واللجوء إلى مكان غير مكانه لا بدّ لشعور الفقد أن يساوره، فلا يستطيع الانفلات من قبضته وتبقى عيناه موجّهتين نحو بيته المفقود. فتعود سعاد ليافا لتبحث عمّا فقده والدها، واعدة نفسها بالكتابة عن فقدانه. وهذا ما تؤكّده عتبة الإهداء: ” إلى أبي، واللّاجئين جميعهم الذين قضوا في الشّتات منتظرين العودة إلى الوطن”(ص5). لكنّ القدر يأخذها لتسمع قصة فقد أخرى، هي قصة صبحي وشمس، مثلما تكشف في عتبتي الرواية؛ على الغلاف الخارجيّ: “رواية مقتبسة من قصّة حقيقيّة”، ثمّ في عتبة أخرى: “ملاحظة الكاتبة: هذه الرواية مبنيّة على مقابلات شخصيّة، أجريتها سنة 2018 مع صبحي (88 عامًا) المقيم الآن في عمّان، وشمس (85 عامًا) المقيمة في يافا”(ص7).
وما دامت الكاتبة قد جعلت نصّها في قالب الفنّ الروائيّ الذي يعتمد على الخيال وليس الحقيقة فإنّه لا يمكننا الحديث عن مطابقة حرفيّة ودقيقة بين ما كان حقيقة وما سرد في الرّواية. وهنا تكمن براعة الكاتبة بنجاحها بأن تحبك الحقيقيّ بالخياليّ، أن تعيش عصرًا ليس عصرها، وتدرسه بتفاصيله وتغور في أعماق الناس، ساعية لتجاوز عائق البعد الزمنيّ. أمّا نحن فنتساءل: ما هو الحدّ الفاصل بين الخيال والحقيقة؟ أيّهما الحقيقيّ وأيّهما المتخيّل؟ هل قصّة الحبّ هي الحقيقيّة أمّا قصّة البقرة والبدلة فليستا حقيقيّتين؟ أو أنّ البدلة حقيقيّة أمّا البقرة فلا؟ وهل صبحي اسمه صبحي فعلًا؟ وهل شمس هي شمس؟
برأيي، رغم أنّي لا أستبعد شيئًا في هذه الحياة حيث بات الغريب هو المألوف، بأنّ الكاتبة اختارت أسماء غير حقيقيّة، وذلك لإخفاء هويّة صبحي وشمس الحقيقيّتين والحفاظ على خصوصيّتهما، فجعلت اسمي صبحي وشمس من دلالة المعنى ذاته، بمعنى الإشراق والنور والأمل. أو قد يكون اسم صبحي حقيقيًا لكنّها استقت منه اسم “شمس” للحبيبة حتّى تؤكّد ضياعها، أي ضياع شمس، والشمس رمز الأمل. ولمّا كانت شمس هي يافا فإنّها توحي إلى ضياع يافا الجميلة الناصعة المنيرة العامرة بالحياة، فضياع الأمل؛ الأمل باستعادة شمس/يافا. وهذا ما تشير إليه العبارة: “مع سقوط يافا وسقوط سَلَمِة واختفاء فلسطين لم يبق لديه أيّ أمل في رؤية شمس من جديد”(ص181).
باعتقادي عدم السماح لوالدها بدخول بيته في يافا فعودته ذارفًا دمع الفقد جعلها تتعامل مع النكبة من منظور شخصيّ دون أن تغفل القضيّة الكبرى، أن تقرأ التاريخ من خلال تجارب إنسانيّة خاصّة بالإنسان العادي، ومن خلال شؤون حياته اليوميّة والممارسة اليوميّة والهموم الصغيرة، وبلا شعارات سياسيّة فضفاضة، ودون أن تغفل الإنسان والحيوان وكلّ التفاصيل الصغيرة التي قد تنسى خلف الجرائم الكبرى. لذا تقول في الرواية: “النظر شرقًا كان يعني رؤية مدينة أشباح وأناس محطّمين ورجال ونساء مسنّين تركوا وحيدين، وحصان جائع، وقطط تموء، وكلاب ضالّة، وركام المنشيّة، والأسواق الخالية والمحالّ المغلقة والبيوت المنهوبة والفيلّات المسروقة”(ص196). هكذا تسبر أغوار الفقد، فقد الناس لحياتهم العاديّة وتفاصيلهم اليوميّة التي قد لا يعيرها آخرون أيّ اهتمام لانشغالهم بالعناوين الكبرى. وإذا لم تكن حياة الناس بهذه التفاصيل فبماذا تكون إذًا؟! أمّا صبحي، مثال الفلسطينيّين، فلقد عاش الهزيمة كلّها، وكان شاهدًا عليها كلّها، وخضع للتجربة كاملة بنفسه.
تنجح الكاتبة بمعالجة النكبة بمستوى التجربة الإنسانيّة الفرديّة، والفقد الخاصّ، مخاطبة تعاطف الإنسان أينما كان من باب الفقد ووجع الفقدان، رغم ما في النكبة من خصوصيّة لا نجدها في أيّ مكان آخر في العالم. ولعلّ أقسى الموتيفات وأكثرها حضورًا في الرواية “الضياع”، ضياع يافا. وضياع يافا يؤكّد ما ذكرناه آنفًا من ضياع شمس، “فلم يكن حاضرًا في المدينة إلّا الغياب”(ص166)؛ مدينة كانت حاضرة فأمست غيابًا. وتصف الكاتبة الضياع على المستوى الفرديّ الشخصيّ بكلّ تفاصيله: “كلّ شيء ضاع! ضاع أفراد عائلته وبيته، ضاع حيّه وجيرانه، ضاع أقاربه، ضاع المعلّم مصطفى وكراجه، ضاعت المحرّكات التي أصلحها وتلك التي كانت تنتظره، ضاعت وظيفته وسمعته كأفضل ميكانيكيّ في المدينة، ضاع زبائنه جميعهم، الأغنياء ومتوسّطو الحال والفقراء الذين كانوا يدفعون أجورا مختلفة، ضاع النادي الإسلاميّ الذي كان يلعب فيه كرة القدم مع أصدقائه، ضاع أبناء حيّه الذي كان يسبح معهم، ضاع أصدقاء لعب الشدّة الذين كان يذهب معهم إلى صلاة الجمعة في الجامع الكبير وإلى المسيرات في ساحة برج الساعة، ضاعت المكتبة التي كان يستعير منها الكتب، أو ينتزع من مجلّاتها الصفحات التي تحوي فساتين الزفاف البيضاء من أجل محبوبته شمس، ضاعت مقاهي ودور سينما ومكتبات المدينة، ضاع روّاد مقهى التيوس، ضاع السياسيّون والمثقّفون روّاد مقهى الانشراح، ضاع تجّار البرتقال الأغنياء، ولكنّ المأساة الكبرى كانت أنّ شمسه ضاعت”، “ضاعت مدينته التي كانت تسمّى أمّ الغريب وأمست هي ذاتها غريبة. يافا عروس البحر اغتصبت وانتهك شرفها بكلّ ما في الكلمة من معنى”(ص166-168).
منذ أن أهدي صبحي بدلته الإنجليزيّة مكافأة له وهو يسعى للحفاظ عليها كي يلبسها في زواجه من حبيبته شمس. فتشكّل البدلة والزواج من شمس بالنسبة إليه ذاك الحلم الجميل الخاصّ الذي يعيش لأجله، لكنّ ما آلت إليه النكبة أضاع كلّ ما كان يحلم به: أضاع بيته وشمسه، أضاع يافا الجميلة، وبدلته الجميلة الفاخرة تمزّقت وتشوّهت وفقدت جمالها وهيبتها.
لا أعرف إذا كانت قصّة البدلة حقيقيّة، لكن من المؤكّد أنّ الكاتبة اختارت العنوان بعمليّة ميتاقصّيّة مدروسة، ويحقّ لي كقارئة أن أرى بها رمزًا ومعادلًا موضوعيًّا. فلماذا جعلتها عنوانًا لها؟ ولماذا جعلتها إنجليزيّة وليست من قماش دمشقيّ؟ ليس هذا عبثًا، بل إيحاء للانتداب الإنجليزيّ الذي حكم فلسطين، كلباس ارتداه الشعب قسرًا، وقرّر تقسيمها وفقًا لمشيئته. هكذا تمسي البدلة شكلًا لفلسطين الانتدابيّة. هي معادل موضوعيّ ليافا ففلسطين. وما يؤكّد ذلك ما قاله صبحي للكاتبة حين التقت به في نهاية الرواية وسألته عنها فأخرج خرقة رماديّة مخطّطة بالأحمر: “هذا كلّ اللِّي بقيلي من فلسطين”(ص308).
لقد أصرّت الكاتبة على وصف يافا بتلك الحلّة المتألّقة الجميلة المشرقة كالشمس، فوصفتها عامرة بالحياة والأناقة، مزدهرة فخورة، ورمزًا للتطوّر الحضاريّ والاجتماعيّ والثقافيّ. ويافا هي رمز لفلسطين، لكنّ يافا تحوّلت إلى جحيم، فالانهيار التامّ، فالسقوط، ثمّ “تحوّلت لبلد متنازع عليه”(ص193). يافا الجميلة المزدهرة سقطت فتهدّم جمالها وإشراقها كضياع شمس. وممّا يؤكّد أنّ البدلة رمز ليافا ما ورد في صفحة 194: “والتحقيق معه حول بدلته المتنازع عليها”، وفي صفحة 196: “فقد أصبح كلّ ما في حياته ملتبسًا ومتنازعًا عليه”. لقد كانت البدلة متنازعًا عليها مثلما كانت يافا، لتمسي البدلة الممزّقة رمزًا لفلسطين.
وفي لوحة الغلاف نرى صبحي يجلس على حافّة البقرة وليس على وسطها كما هو مفروض، وذلك إيحاء لما تبقّى من فلسطين للفلسطينيّين. وهذا ما أوردته الكاتبة: “يقترح مشروع التقسيم منح أكثر من نصف مساحة فلسطين التاريخيّة للمهاجرين اليهود”(ص84). أمّا لماذا كان صبحي يحمل كتابًا فدليل على كونه مثقّفًا محبًّا للقراءة على الرغم من كونه ميكانيكيًّا، كإيحاء للحياة في يافا بأنّها كانت تنبض بالثقافة. فإذا كان الانتداب إنجليزيًّا والانتداب في معناه تعهّد دولة متمدّنة رعاية شعب متخلّف للنهوض به فإنّ الكاتبة تكذّب الادّعاء بتخلّف الشعب الفلسطينيّ بعد أن كذّبت المقولة “أرض بلا شعب”.
صبحي مثال لمن تشرّد، وشمس مثال لمن بقي، لكنّ ما بقي يحتلّه الضياع. أمّا البقرة فترتبط بشمس، ابنة “سلمة”، فتمّ تهجيرها وعائلتها من بيتها كغيرها من العائلات، ليلجؤوا إلى مزرعة خضار شرق اللد، وهناك عثروا على بقرة عرفوا من آخرين أنّها ملك لشخص فلسطينيّ هجر البلاد إلى الأردن، فما كان منهم إلّا ذبح البقرة لسدّ الجوع، فداهمتهم ميليشيّات يهوديّة لادّعاء أحد المستوطنين أنّهم سرقوا بقرته، فيعتقل والدها “خليل” وتختفي والدتها وشقيقها فتبقى شمس مع شقيقتيها متشرّدات حتّى تتبنّاهنّ أمّ محمود.
يردّد الفلسطينيّون “بقرة هولنديّة”، لكن ما شأن ذلك ببقرة يهوديّة؟ أعتقد أنّ الكاتبة حرّفتها للتهكّم والسخرية للتنفيس عن ألم الفقد وتخفيف حدّة قسوته. وهذا ما يفيد دلالتها وفقًا لقول إسماعيل: “أنا بعرف إنّه كلّ شي حوالينا صار يهودي، مدنّا وبيوتنا ومحلّاتنا ومستشفياتنا وبلدنا كلّها، بس ما عرفت إنُّه البقرة الهولنديّة برضو صارت يهوديّة!”(ص273). هذا يوضّح دلالة العنوان والغلاف: كلّ شيء أصبح يهوديًّا. كانت فلسطين تحت الانتداب الإنجليزيّ، وبعد التقسيم تحوّلت إلى يهوديّة، فضاعت وضاعت شمسها وجمالها وازدهارها وأملها.
قلنا إنّ الكاتبة لم تبقَ في المستوى العامّ للشعب الفلسطينيّ، بل انغمست بتجسيد العلاقات الإنسانيّة والاجتماعيّة وصراعاتها، متناولة عدّة قضايا تتطلّب صراحة وجرأة منها، حيث لم تخلُ الرواية من صراعات الحلال والحرام كالمثليّة، الدعارة، الوصف الجنسيّ والشتائم، علمًا بأنّ بعض القرّاء قد لا يروق لهم هذه الطروحات وقد لا يتقبّلونها، مفضّلين أن تبقى تحت التعتيم، وكأنّه لا يصحّ أن يظهر الشعب الفلسطينيّ إلّا تحت شعار النضال، كأيقونة ناصعة، لا كمجتمع يعيش فيه الناس بإنسانيّتهم، وبما يحملونه من خير أو شرّ، كأيّ شعب آخر.
عكست المناكفات بين إسماعيل والد صبحي وعمّه حبيب شخصيّتين متناقضتين، فبينما كان إسماعيل جدّيًّا محافظًا دائم التذمّر، كان عمّه حبيب مرحًا خاليًا من الهموم، كما كانا ينتميان لحزبين مختلفين متصارعين. ولم تظهر شخصيّة إسماعيل بصورة إيجابيّة، بل كان دائم الانتقاد، وقد جعله تعصّبه الدينيّ والسياسيّ غير رؤوف بأخيه حبيب، معتقدًا أنّه على حقّ بأفكاره ومعتقداته، بينما شقيقه حبيب على خطأ، نافيًا حقّه بحرّيّة الاعتقاد والتصرّف، فيعاديه ويكفّره. كما استهزأ باهتمام ابنه صبحي ببدلته الإنجليزيّة، ووصفها بالتافهة. واختبأ عند مداهمة المليشيّات اليهوديّة، ثمّ انضمّ للمهرّبين الفلسطينيّين الذين أعادوا الناس مقابل أموال(ص191). أمّا حبيب فكان يهبّ دائمًا لمساعدة ابن أخيه صبحي كلّما احتاج نقودًا ومساعدة بخلاف والده. كان واحدًا من الأشاوس الذين دافعوا عن يافا، فوقع أسير حرب وأصيب إصابة بالغة. كان أكثر إخلاصًا وصدقًا وانتماء لوطنه. أمّا إسماعيل فكان ازدواجيًّا ينهب المال ويستغلّ الناس، ويتصرّف عكس ما كان يدّعيه من الدين والأخلاق.
وفي مقولة قاسية توضّح مدى التعصّب المجبول بالكره يقول إسماعيل: “يا ريتني خسرت أخ مش ابن”(ص192)، فتنتقد الكاتبة بلسان صبحي: “كيف يمكن أن يتغيّر كلّ شيء في حياته إلى الأبد وتبقى المناكفات العائليّة على حالها؟ كم كان قاسيًا ومربكًا اتّهام والده لعمّه حبيب وتحميله مسؤوليّة موت شقيقه جمال، ففي واقع الأمر كان والده إسماعيل هو الذي هرب واختبأ في البيّارة تاركًا حبيب وجمال وصبحي يدافعون عن البيت والحيّ، بعد أن تحوّلت إلى دمار شامل”(ص188-190).
ولم تتوانَ الكاتبة عن انتقاد موقف العرب حينها، فيقول أحد الرجال: “إنت وأمثالك عم بتستنُّوا أسيادكم العرب والجيوش العربيّة يوصلوا وينقذوا يافا. إنت شفت جندي عربي واحد أجا يدافع عن مدينتك؟”(ص202). على الرغم من ذكر الكاتبة بأنّ روايتها مقتبسة من قصّة حقيقيّة إلّا أنّ اعتمادها على الفنّ الروائيّ يؤكّد عنصر التخييل والخيال. وعليه، ينفي التوجّه السيميائيّ العفويّة عن النصّ الأدبيّ، فالشّخصيّات في السّرد هي أدوات تمثّل شرائح من المجتمع أو مجتمعات بكاملها أو أفكارًا وعقائد، أي لا يمكن أن تتوقّف الشّخصيّات عند تمثيل ذاتها لذاتها وبذاتها لأنّها كائنات سيميائيّة في وظائفها وليست حقيقيّة في أصلها. فإذا اعتبرنا صبحي وبدلته رمزًا ليافا فلعلّ الكاتبة قصدت بإسماعيل رمزًا للعرب الذين لم يدافعوا عن يافا، خصوصًا أنّ الاسم “إسماعيل” يوحي للنبيّ إسماعيل الذي لقّب بـ “أبي العرب”. من جانب آخر، تؤكّد الرواية على الغدر والخيانة، ففوّاز وسالم كانا عميلين للهاغاناة، وفوّاز هو من سرق بنطال البدلة ليقول صبحي بقهر: “أنا ليش مستغرب؟ شو الواحد ممكن يتوقّع من عميل ساعد عدوّه بسرقة بلده؟”(ص187).
أظهرت الكاتبة المجتمع الفلسطينيّ كأيّ مجتمع إنسانيّ آخر، بخيره وشرّه. أمّا أكثر ما أعجبني فهو نفي الأفضليّة الدينيّة. أمّا ما استفزّني هو القسوة التي عوملت بها أمّ محمود التي جازفت بادّعاء أنّ شمس وأختيها قريباتها كي تنقذهنّ من التشردّ والقتل فتبنتهنّ واعتنت بهنّ، إلّا أنّ مدير الأوقاف يصدر تعليماته بأخذ البنات منها: “ما بيصير تربّيهم أم يهوديّة، هادا مخالف للشريعة، ممنوع وحرام”(ص251). فأمّ محمود “رفقة” هي يهوديّة، علمًا بأنّ زوجها أبا محمود عربيّ ومسلم. فعلى الرغم من أنّ الأولاد في الشريعة الإسلاميّة يتبعون الأب إلّا أنّ مدير الأوقاف يقرّر إبعادهنّ عنها، متحجّجًا بأنّ الدولة لم تعد فلسطين، بل إسرائيل “وحسب قوانين الدولة الجديدة الأطفال بتبعوا أمّهاتم”(ص242). فتصرخ أمّ محمود بوجه الموظّف: “بس إنتو الأوقاف الإسلاميّة اللِّي عم بتعترضوا ومش الدولة الجديدة، شو اللّي صايرلكم؟”، “هذا جنون رسمي، الناس عم بنطردوا من بلادهم، من بيوتهم ومن مدنهم وقراهم ومزارعهم، والرجال عم بنسجنوا أو بيعدموا بدم بارد، والنساء بيغتصبوا، وآلاف اللاجئين الفلسطينيّين بيموتوا من الجوع والعطش، وكلّ اللِّي بيهمّك أنت والأوقاف تاعتك إنكم تاخدوا بناتي منّي لإني يهوديّة؟”(ص242-243).
وتكون المفارقة الأخرى حين تقول رفقة لزوجها: “فكرك بيكون أحسن إذا قلنالهم إنّه إحنا التنين شيوعيّين وملحدين؟” فيردّ عليها: “إنت انجنيت، حبيبتي؟ ما بتعرفي إنّه بالنسبة إلى الأوقاف إنُّه نكون أب وأمّ ملحدين أسوأ بكثير من إنُّه نكون أُمّ يهوديّة وأب مسلم؟”(ص244).
أمّا مريم الأمّ المسلمة “الخرسا والطرشا” التي قرّر مدير الأوّقاف أن تربّي شمس وأختيها، والتي جعلت بيتها حظيرة حيوانات، حيث كانت رؤوفة بكلّ حيوان متشرّد، فلم تكن أمًّا قادرة على رعاية البنات، حتّى قام أبو محمود بعد شهرين بتهريبهنّ وإعادتهنّ إلى حضنه وحضن أمّ محمود. ولا شكّ أنّ العبرة بقول الكاتبة: “إنّ التعاطف الإنسانيّ وحده، وليس الدين أو القوميّة، قادر على أن يغزو القلوب”(ص244). ولا شكّ أنّ هذه القضيّة تدفعنا للتساؤل: هل إذا ولدت الأمّ مسلمة أو مسيحيّة أو يهوديّة تكون أكثر أمومة لمجرّد أنّها مسلمة أو مسيحيّة أو يهوديّة؟ إنّ الإنسانيّة والأمومة لا علاقة لها بالدين. وإضافة إلى ذلك، أكّدت الكاتبة أنّ القضيّة ليست بين العرب واليهود، وذلك من خلال ما أكّده جدّ صبحي بأنّ “العرب واليهود كانوا يعيشون بسلام قبل مجيء الإنجليز والصهاينة”(ص105). والدليل على ذلك شخصيّة أمّ محمود اليهوديّة التي أظهرت حبًّا وتعاطفًا مع العرب، فكانت تدور على البيوت بعد أن تطبخ الأطعمة فتوزّعها على الكبار والمسنّين والمحتاجين ممّن تبقّى في المدينة المهجورة، إضافة إلى اهتمامها باللاجئين. الأمر الذي يثبت أنّ الإنسانيّة لا دين لها ولا قوميّة. وقد أكّدت الكاتبة ذلك بشخصيّة “هنرييت” المسيحيّة كذلك، فلم تأتِ بها عبثًا، بل جعلتها السبب بإيجاد شمس وإعادتها لحضن والدها، فبدت شخصيّة إنسانيّة، مظهرة انتماءها لوطنها. أمّا الأمّ خديجة التي انهار وطنها فلا تزال تفكّر بعروس مسلمة لابنها أمير، رافضة عروسًا مسيحيّة(ص279)، أمّا الأسوأ أنّها “لا تريد عروس فلّاحة، لأ لأ الله لا يقدّر”(ص279). أمّا مريم “الخرسا والطرشا” والتي كانت موضع سخرية فقد أحبّت الحيوانات باحثة بينهم عن الحبّ والأمان. وما قالته أخت شمس يوضّح مأساتها: “يمكن لإنّه الحيوانات همّه الوحيدين اللّي ما كانوش يضحكوا عليها”(ص249)، فيضيف الموظّف مؤكّدًا: “يمكن هي صَحْ في النهاية، لإنّه الحيوانات ممكن تكون أكتر إنسانيّة من أكترنا”(ص250). إنّ كلّ هذا يعكس المفاهيم والقناعات والعادات والتقاليد التي سادت، ولا تزال تسود حتّى الآن في مجتمعاتنا العربيّة، والتي من شأنها أن تصدّع لحمة المجتمع الواحد، وتعزّز الصراعات الطبقيّة الاقتصاديّة والدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، فلا تتوانى الكاتبة عن انتقادها ونبذها، داعية للإنسانيّة الراقية والتعاضد والتسامح بين أبناء الشعب الواحد.
هكذا أضاءت العامري بهذه الشخصيّات وعلاقاتها فيما بينها، إضافة إلى شخصيّة الأرملة الشابّة “أمّ زهرة” وهاني الرجل المثليّ، الوجه الإنسانيّ للشعب الفلسطينيّ دون تجميل، فرصدت نكبته وآلامه وفقده وضياعه وضياع وطنه. كما كشفت عن قضاياه الإنسانيّة، بخيرها وشرّها، والتي قد نراها في أيّ مجتمع إنسانيّ آخر، منتقدة أولئك الذين ينهشهم التعصّب الدينيّ والاستعلاء الطبقيّ، مؤكّدة أنّه شعب متعدّد الطوائف والأديان والانتماءات السياسيّة والاجتماعيّة، داعية لإعادة النظر في مفاهيمنا وأخلاقيّاتنا، واحترام هذه التعدّدية، واحترام الإنسان للإنسان دون تفرقة. فنحن أحوج ما يكون لاحترام الحرّيّات الفرديّة والتضامن والتعاطف الإنسانيّ والتسامح وقبول الآخر ونبذ التعصّب والطائفيّة، فلا نفترق ولا نفرّق. وهنا نؤكّد أنّ الحبّ والأخلاق والخير والشرف والإنسانيّة والوطنيّة لا دين لها ولا قوميّة، ولا أفضليّة لأحد على غيره إلّا بأخلاقه وإنسانيّته.