سينمائية رواية “وجع لا بد منه” لعبدالله تايه
د. صافي صافي
تاريخ النشر: 07/01/23 | 10:44رواية “وجع لا بد منه” للأديب عبدالله تايه طويلة نسبيا، صدرت عام 2022 عن دار الكلمة للنشر والتوزيع في غزة، تقع في 276 صفحة من القطع المتوسط، يختمها عبدالله بسيرته الذاتية الطويلة تبين فيها دوره في الثقافة منذ بداياته، حتى أن مواضيع دراسته العليا، هي في الإعلام الثقافي، فهو من المؤسسين للحالة الثقافية والإعلامية الفلسطينية.
ما لفت انتباهي في هذه الرواية، هو سينمائية النص، وكلما قرأت جزءا، تساءلت: لماذا لا يحوّل هذا العمل الأدبي إلى فيلم سينمائي. الرواية هي رحلة لمجموعة من الأشخاص العائدين إلى غزة من مصر، السائق هو حمادة، الرجل الطيب الذي جمع زبائنه من المطار، ومن الفنادق، والبيوت إلى معبر غزة. الزبائن هم من الرجال والسيدات، منهم من عاد من تركيا، بعد أن فقد الأمل بالبحث عن عمل في أوروبا، ومنهم من عاد من رحلة العمرة، ومنهم من جاء من رحلة العلاج من المرض الخبيث، أو من إصابات نتيجة المواجهات المختلفة، أما العربة فهي قصة أخرى، فهي شخصية مثلها مثل غيرها في الرحلة المضنية. عددهم سبعة: أربعة رجال وثلاث سيدات، بعدد أيام الأسبوع، بعدد طبقات الأرض، بعدد طبقات الجو، بعدد دورات الطواف، بعدد سبعة، الرقم المقدس في الديانات والعادات والتقاليد.
نتعرف على معالم هذه الشخصيات بدقة بالغة، فسليم حميدوش المصاب في ساقة لمشاركته في مسيرات العودة، والحاج علي الغمري العائد من العمرة، والشاب فادي المظلوم الذي حاول الهجرة للبحث عن عمل، وعاد، والشاب إبراهيم الوالي، وعزيزة النادي المصابة بالسرطان، وفوزية سلمان المتزوجة في مخيم جرش، ومريم المتزوجة من عضو في جيش التحرير الفلسطيني.
غزة التي لم يخلق مثلها في البلاد/ البلاء، هي الجاذب والمنفر، هي وجهة نظر العائدين إليها، ورغم الألم، والمواجهات، والبطالة، وشح الموارد، والضيق، تظل وجهة نظر أهلها والحالمين بها، يعودون إليها وهم يعرفون كل هذا وأكثر.
“وجع لا بد منه”، هو وجع هذه الرحلة الطويلة التي استمرت يومين، من القاهرة إلى غزة، واستغرقت أكثر لبعض المسافرين الذين جاءوا من الحجاز أو تركيا. وبدل أن تكون رحلة فيها الجمال والمتعة، كانت رحلة عذاب، عذاب الرجوع إلى الوطن، إلى غزة، فإذا كانت هذه تحمل كل هذا التعب والألم، فكم سيستغرق الزمن وما يرافقه من تعب للرجوع إلى يافا مثلاً؟
استغرقت الرحلة يومين، يومين؟ نعم، يومين كاملين، لكن تعبهما تعب سنوات وعقود من التشريد، والتهجير، واللجوء، والمخيم، والبحر، والحصار، والجوع، والكفاف، والامتداد الاجتماعي وتقلصه. هل للوقت معنى؟ إنها الحياة، حياة القهر والمعاناة، حياة الحواجز، والمواجهات، والحرب، والقذائف، والطيران، والدمار والانفتاح على السماء، والشرطة والاعتقال، والسجن، والزنازين، والسجن الكبير، والتنقل والتكيف من أجل غد أفضل، لكن لا غد أفضل. هل يطمح الإنسان العيش في السجن؟ هل يكون خيار الفرد العودة إلى السجن؟ نعم. إنهم أهل فلسطين، إنهم أهل غزة بالتحديد.
الحواجز العسكرية الأمنية، ليست في غزة فقط، إنها أيضاً في الطريق إلى غزة، حاجز يتلوه حاجز، تنتهي من تفتيش لتدخل إلى تفتيش آخر، تخلى العربة من زبائنها، ومن شنطها الكبيرة منها والصغيرة، ويفتش كل جزء منها، كل شيء، بما في ذلك الأشياء الخاصة جدا، تنزل الشنط من أعلى العربة إلى أسفلها، يتم نعفها من أولها إلى آخرها، لتعود بعد مشقة أعلى العربة، يطوحها الهواء الساخن نهارا، والبارد ليلاً، وهي تئن، كما يئن الذين داخل العربة. إنها رحلة الشقاء، يحتملون ذلك ليعودوا إلى الوطن.
زبائن الرحلة رجال ونساء، كل له قصة، كل له رواية، لا تعرف بدايتها تماماً، ولا تعرف نهايتها، فهي مجرد مقاطع من حياة الفلسطيني، وكلما طالت الرحلة، انكشف كل منهم للآخر، فلم تعد هناك أسرار، وليس هناك خبايا. رحلة الفلسطيني جعلتنا عراة أمام بعضنا البعض، وأمام السائق، ابن العريش، وأمام الشرطة وحواجزها، بجنودها وضباطها. إنها رحلة العري، إنها أشبه بيوم القيامة، يود كل منهم إلى يصل إلى مقره، إلى بيته، ويودون أن يفعلوا ذلك جماعة، فأي تأخير لأي منهم، يؤخر الباقي، فالرحلة جماعية، وقضيتنا جماعية، ولا مجال للخلاص الفردي، نرحل معاً، ونعود معاً، وقلوبنا معاً. والسائق الطيب، يود ذلك ببساطته، دون تذمر، وكذلك العربة نفسها كجزء من النسيج الروائي.
تتكون الرواية من مشاهد، تستحق التوقف عندها، وكل مشهد أشدّ إيلاما من المشهد الذي قبله، مشاهد للطبيعة، وللناس، وللمسافرين، مشاهد الحوارات الداخلية، وحوارات الأشخاص، مشاهد الأحلام واصطدامها بالواقع، مشاهد المرض والتعايش معه، ومحاولة الخلاص منه، يهربون من ألم إلى ألم أخر، ومن حلم المراحل، إلى حلم العودة إلى غزة، إلى حلم العودة إلى الوطن الكامل. مشاهد تختلط بالحرارة، وبالرمال وبالهواء الساكن، وبالجوع وبالعطش. أحلام متقطعة بين النوم أو شبهه والصحو، بين آلام الظهر في الجلوس الطويل في العربة، وآلام النزول عند محطات ليس فيها سوى البؤس والمعاناة، بين الراحة المؤقتة، والبحث عن لقمة عيش مؤقتة هي الأخرى، والدعاء والصلاة. صلاة خالصة لوجه الله تعالى، عل الله يفرجها، لكنها لا تنفرج قريباً، فالعودة إلى أرض فلسطين، أو جزء منه، تبقى حلما وإن كان ناقصاً.
حاولت أن أعدد المشاهد التي التقطتها، فكانت:
المشهد الأول: رحلة حمادة السائق، وهو يجمع الزبائن من المطار والفنادق والبيوت في القاهرة.
المشهد الثاني: الرحلة حتى الوصول إلى المعدية.
المشهد الثالث: عبور المعدية.
المشهد الرابع: من المعدية إلى بالوظة إلى بئر العبد.
المشهد الخامس: قضاء ليلة في بئر العبد.
المشهد السادس: من بئر العبد إلى حاجز الميدان والعريش.
المشهد السابع: حاجز المساعيد، حاجز الريسة، معبر رفح.
إن الأمر بالنسبة لي ليست سهلا، لتصميم المشاهد، لكني حاولت أن تكون سبعة، بعدد ركاب العربة، وبعدد حكاياتهم، لكن يمكن أن تكون تسعة، بإضافة السائق، والعربة.
إنها رواية تستحق التحويل إلى مشاهد سينمائية، وتضاف إلى التغريبة الفلسطينية، فهي جزء من رحلة الرجوع، الرجوع الناقص، المزيف، الأليم. حاولت أن أجد مدخلا لقراءة الرواية، فلم أجد أفضل من هذا المدخل.
حاورت كثيرا من الممثلين، لتحويل نصوصنا الأدبية إلى مسرحيات وأفلام، وكانت الإجابات، أن من يتحكم بذلك هو المنتج، وأجد الآن بعد قراءة “وجع لا بد منه”، نصاً آخر، يستحق التوقف عنده، وتحويله إلى منتج مرئي مسموع.
إنه الوجع الذي لا بد منه، فالحرية لا تأتي وحدها، بل لا بد من جهد جاد، يرافقه الوجع الذي لا بد من دفعه، فإذا كانت شخصيات الرواية تدفع كل هذا الثمن من أجل العودة المنقوصة، فما بالك بحرية الوطن. لقد دفعنا أثماناً باهظة من أجل أن نعيش هذه الحياة التي نحياها الآن، والحرية لكل الفلسطينيين، تتطلب ثمناً أعلى. ربما يكون الثمن هو حياتنا.
إنه وطننا الذي فيه أهلنا وناسنا، وذكرياتنا، ومخيماتنا بكل ما فيها، “هذه العربة تنطلق مسرعة، ولا تصل، مثل أحلامنا، نظل نحلم بها ولا تصل، ولا نتوقف عن الحلم” (ص110)، “وهكذا نحن من سنوات طويلة بين ربط وحل، وشد وحزم، تمر بنا الأيام” (ص127)، “أن تكون في غزة خير من أن تكون خارجها” (ص221).
غزة الحياة، غزة المعاناة، غزة الوطن، غزة مفتاح آخر على كل الوطن، مثلها مثل باقي المدن الفلسطينية وأكثر.
الرواية ثيمة سينمائية، تستحق التنفيذ.