قصة قصيرة يا خسارة… أنا وزير!
ميسون أسدي
تاريخ النشر: 03/02/23 | 8:59جلس شابان عربيان في أحد البارات في المانيا وقد تعتعهم الخمر. صادف أن دخل إلى نفس البار شاب أردني الجنسية، وجلس على حافة البار بجانبهما، وعندما بدأ الأردني يحتسي كأسه الأول، تنامى إلى مسامعه حديث دار بين الشابين واستأثر بلبه الفضول. قال أحدهم للآخر: من أين حضرة الأخ؟
فأجابه الآخر: أنا من فلسطين.
تفاجأ الأول وقال: أنا أيضًا من فلسطين… وضرب كأسه بكأس الآخر.
سرّ الشاب الأردني للتعارف الذي بدأ بين هذين الشابين مصادفة، وقرّر في نفسه أن ينضم إليهما بعد أن يتم التعارف الكلي بينهما، ولم يلبث قليلا، حتى عاد الشاب الأول وسأل الآخر:
– من اين أنت في فلسطين؟
– من مدينة عكا القديمة.
بدا على الشاب الاستغراب أكثر فقال:
– يا هلا، يا هلا، لا أصدق، أنا أيضًا من عكا القديمة.
وضربا كأسًا بكأس مرّة ثانية. فأسرع الأول وسأله:
– من أي حارة في عكا؟
فقال:
– حارة الشيخ عبد الله.
فما كان من الشاب الأول إلا وقام واحتضن الآخر وقال:
– غير معقول، أنا أيضًا من حارة الشيخ عبد الله… قل لي بربك، في أي عمارة تسكن.
فقال:
– في عمارة رقم 11…
عندها ابتسم الأول ونظر اليه نظرة صامتة مستطلعة قائلا:
– لا، لا يمكن هذا، أنا أيضًا أسكن في عمارة رقم 11… في أي دور تسكن؟
فأجابه:
– الدور الثاني.
فقال الأول:
– هل تتكلم بجد؟ هذا غير معقول، فانا اسكن في الدور الثاني، في أي شقّة في الدور الثاني؟
فأجابه الثاني:
– شقّة رقم ثلاثة.
قفز الأول فيما تبقى له من قوى الهبت فؤاده وأجاب:
– هذه أغرب صدفة في حياتي، فأنا أسكن في شقّة رقم ثلاثة؟؟؟
عندها، صدم الشاب الأردني الذي كان يسترق السمع اليهما وكاد يخر على الأرض، فتوجّه إلى البارمان وسأله عن هذه الصدفة العجيبة التي حصلت بين الشابين؟
فأجابه البارمان بصوت منخفض وهو يضحك:
– لا تلتفت اليهما، فهذين شقيقين يأتيان يوميًا إلى هنا منذ شهر ويثملان جدًّا، فالسكر يفعم قلبهما بهجة، ويدور بينهما نفس الحوار كل يوم. الأول اسمه حنا وهو يدرس في ألمانيا، والثاني اخوه الذي قدم لزيارته منذ شهر ونيف.
2
حنا ويلقب بـ “حنا السكران” هو ليس حنا التابع لأغنية فيروز المشهورة، لكنّه تصادف أن يحمل نفس الاسم مع اختلاف كبير بالفعل ونحن لا نعرف عن حنا فيروز سوى انه سكران ويبصبص على بنت الجيران، ولكن حنانا الذي يسكن في البلدة القديمة يختلف اختلافا كبيرًا وله مقوّمات أخرى غير السُكر الذي ميّزه في أواخر حياته.
درس حنا هندسة السيارات في ألمانيا وحصل على شهادة الماجستير، وعاد إلى البلاد ليعمل في مجاله في شركة كبيرة لتصليح وبيع السيارات، وبجانب شهادته حمل معه إدمانه على الكحول الذي كان يمارسه مع زملائه الجامعيين في المانيا.
كان حنا بعد عودته من العمل يحتسي الخمر حتى يفقد الوعي، ووصل به الحد إلى أنه في أحد الأيام، سقط من علو سطح بيته، وأصيب بعدّة كسور، ممّا استدعى علاج مكثّف لمدّة طويلة. وجر وراءه اذيال الفشل، عندها، قرّرت العائلة أن تدخل حنا في إحدى المؤسسات لعلاج الفطام من الكحول، بعدها، أخد حنا يتماثل للعلاج رويدا رويدا. وداخل المؤسّسة، شارك حنا في جلسات دعم للمدمنين، وهي عبارة عن حلقة يشارك فيها المدمنين الذين يتماثلون للشفاء ويتحدثون عن تجاربهم وما مرّوا به والأسباب وراء ادمانهم، وشعورهم بعد أن تماثلوا للشفاء.
لم يتوقع الأخصائي نفسي الذي كان يدير هذه الندوات أن يظهر من بين أفراد هذه المجموعات مدمن مع خلفية ثقافية وعلمية عالية مثل حنا السكران، وطلب من حنا أن يصبح واحد من موجهي المجموعات الداعمة للفطام وأن يقدم محاضرات تثقيفية تعليمية لطلاب المدارس والمؤسسات عن ظاهرة الإدمان وعواقبها، من خلال تجربته الشخصية، ووافق حنا على ذلك.
3
في فترة عمل حنا كمهندس في الشركة التابعة للسيارات الألمانية في البلاد، انتبه مدير الشركة ان بعض العمال يتناولون الكحول أثناء فترة استراحتهم. فقرّر منع شرب الكحول بتاتًا أثناء العمل وبأن المخالف للأمر سوف يطرد. لكن بعض العمال أخذوا يشربون الكحول بالخفاء ويخفون مشروبهم، بحيث لا يراهم أحد.
قرّر أحد العمال أن يخبئ زجاجة كحوله في سيفون المرحاض، وما أن فتح السيفون حتى وجد فيه زجاجة أخرى تحتوي على العرق، فعرف بأنها تابعة لحنا. وضع زجاجته بجانب زجاجة حنا وذهب اليه قائلا له بهمس: زجاجتي بقرب زجاجتك يا حنا فإيّاك أن تقترب منها.
أحب مدير الشركة شرب الكحول ولكنه حفاظًا على سير العمل طلب من الجميع، أن من يريد ان يحتسي الكحول ليكن بعد انتهاء الدوام.
في أحد الأيام تأخّر العمال في عملهم، وعندما انتهوا من الدوام، أحضروا بعض الأطعمة والمشروبات الكحولية وأغلقوا الباب الخارجي للشركة وأخذوا يتناولون ما لذ وطاب، فصادف أن مرّ مدير الشركة بذلك الوقت من المكان، ووجد بصيص من النور داخل الشركة، نزل من سيارته واقترب من البوابة الرئيسية، فوجد أنها مغلقة ولكن ليست بالقفل والمفتاح، فدخل ووجد العمال مجتمعون وأمامهم عدّة الشرب والطعام، عندها خاف العمال وصمتوا وكان على رؤوسهم الطير فصرخ المدير قائلا:
– ألا تخجلون؟
ونظر إليهم بنظرة غاضبة، ثمّ أردف قائلا:
– ألا تخجلون؟ تقيمون هذه الوليمة والمشروبات اللذيذة ولا تدعونني لأشارككم؟
عندها، انفرجت اسارير العمال وقال حنا وهو يرفع له الكاس:
– بصحتك يا مدير.
4
قدم الكاهن في طقس اكليل زواج حنا، لأشابين العريس كأس صغيرة من النبيذ، والاشابين كانوا أقارب حنا وهم سود البشرة مثله جاءوا من مدينة القدس شربوا الكاس وقالوا للكاهن:
– اين بقية زجاجة النبيذ يا أبونا؟
شعر الكاهن بالحرج والخوف منهما، فما كان منه إلا أن قدّم لهم الزجاجة كلها، فشربوها واخذوا يدورون حول العريس، كما تفعل القبائل الافريقية، يرقصون ويهتفون “إحنا عبيد من السودان”.
توفيّ حنا بعد أن استفحل عنده تلف الكبد وهو ما زال شابا، ولكن جملته الشهيرة التي كان يقولها عندما يثمل، بقيت تتردّد على السنة أهل البلدة القديمة بالتندر أمام الأصدقاء وهي: “فكّرت حالي ملك، بس يا خسارة، أنا وزير”.