قصة قصيرة “رحت اصطاد صادوني”
ميسون أسدي
تاريخ النشر: 28/02/23 | 20:37كنت اجري تقريرًا صحفيًّا تلفزيونيًّا عن الصيادين في أحد أقدم وأهم موانئ فلسطين التاريخية. العديد من سكانها اعتاشوا على صيد الأسماك. وصلت المدينة في الصباح الباكر، كما أوصوني. التقيت بالعديد مِن أهل البلد وبأعمار مختلفة، منطلقين إلى البحر برأسِ مرفوعة والبسمةُ تملأ الوجوه. لا تزعجهم الشمس التي تسفح الوجوه فتزيدها احتراقًا. يطيبُ للصغار والشباب منهم القفز إلى الماء كالأبطالِ، كالأسماك التي لا تعيشُ بدون البحر، ينتعشون فترتد إليهم الحياة بجمالها.
1
اخترت أحد الصيادين طويل القامة قوي البنية، شعره الطويل الجميل منسدل على كتفيه، تعابير محياه ساخرة وكلماته مقتضبة وحادّة. له عينان كبيرتان وصوت عميق وحركات ثابتة متزنة. وهو من عشاق البحر ونسيمه العليل. التقيت به في مقهى بقرب ميناء الصيد. فهمت لاحقا بأنّه يصيد السمك من أجل الترفيه والمتعة، لا من أجل مكسب اقتصادي، وعلى حد تعبيره: الصيد هو من أجل البقاء.
أول ما لفت نظري في هذا الصياد بأنّه يملك قاموسا كبيرًا من الشتائم، لا يدع أحدا من المارة دون أن يخاطبه ويشتمه، كما يبدو أنّه يعرف الجميع والجميع يعرفونه. الأغرب من ذلك، أنّ جميع المحادثات كانت تتضمن الشتيمة، والطريف أن كل من يحدّثه يردّ عليه بشتيمة مكملة، والأفظع منها، الطرفان ينهيان حديثهما بود. كأنّ الشتائم لم تصدر أبدًا. سألت الصياد:
– من أين لكم كل هذه الشتائم وكيف لا تغضبون من قائلها؟
سرح الصياد بخياله وكأنّه يمخر عباب البحر فأجابني وهو يبتسم:
– نحن تلاميذ ماري العبدة.
وسألته: من تكون ماري العبدة؟
أحسّ الصياد بالهناء يملأ جوارحه حين دنا منه أحد معارفه وقال له:
من بعيد اعتقدت أنّك امرأة…
فأجابه: وأنا كذلك، من بعيد اعتقدت أنك رجل.
ضحكا الاثنان، ثمّ عاد ليجيب على سؤالي قائلا:
في الماضي، كان يمنع الأطفال من الشتائم، حتّى لو كان أهاليهم يقومون بذلك، فما هو مسموح للكبار غير مسموح للصغار. كان الأهالي يحاولون جاهدين أن لا يشتموا أمام الأطفال. كانت تبدو شتائمهم مؤدبة نوعًا ما، وهناك أمثلة على ذلك، لكن ماري كانت مختلفة، لا تعمل حسابًا للكبير أو الصغير. تشتم على سجيتها شمالا ويمينا وفي كل الاتجاهات. بسبب سمنتها الزائدة كانت قليلة الحركة وسيرها لا يتجاوز الذهاب والإياب من البيت إلى بسطتها. عرف الصغار بأنّها لا تستطيع الجري أو ملاحقاتهم إذا تطلب الأمر، وفي نفس الوقت كانوا يستمتعون لسماع شتائمها الإباحية فيقتربون من بسطتها على مسافة قريبة نوعًا ما، حتّى تتمكن من سماعهم ويتمكنون من سماعها ويبدؤون باستفزازها، وعندها تطلق ماري قذائفها التي تصيب الأمهات والآباء والجدات وجميع الأقارب. طبعًا، لم تزعج هذه المسبات ذوي الأطفال، لأنّهم يعرفون أن ماري لا تعتدي على أحد وما شتائمها إلا تسلية ودفاعًا عن النفس.
سكنت ماري في طرف ساحة عبود. الساحة عبارة عن حارة تسكنها عدة عائلات أغلبهم ينتمون للطائفة المسيحية، نظرًا لوجود الكنيسة واوقاف مسيحية وبها عائلات من أصول اجنبية إيطالية ويونانية واسلامية. جاءت عائلة ماري إلى فلسطين من السودان. وقد سكن قسم منهم في القدس وعكا ومعظم افراد العائلة كانوا ذوي خلفية ثقافية لا بأس بها. اهتموا بتعليم جميع ابنائهم وقد وصل منهم الكثيرون الى مراكز مرموقة. ولأنهم من أصول عمالية وفلاحية فقد انتموا الى اليسار الفلسطيني، حتّى ان بعضهم تقلد مناصب عليا في الحزب الشيوعي الفلسطيني. تزوّج بعضهم من ذوات البشرة البيضاء، نظرًا لثقافتهم وجمال أصولهم السودانية، فنتج عنهم أبناء وبنات مع بشرة تميل إلى البياض أو إلى السواد؟
2
في زقاق قصير معتم في جميع ساعات اليوم، يصله قليلا من الضوء من طرفيه، فيستطيع المارون منه تلمّس الطريق بوضوح حتّى نهايته. في أحد طرفيه المضيء نوعًا ما، كان هناك حاصل على شكل عقد يدخل النور إلى أوّله ويبدأ بالتعتيم كلما تعمقت إلى داخله. الحاصل ملك للوقف المسيحي، فيه كانت تجلس ماري السوداء التي لقبوها أهل البلدة “ماري العبدة” وكانت تبيع الفول والترمس المسلوق مع توابعه من الملح والكمون… تضع أمامها على بسطة صغيرة وعاءين للفول والترمس وعلبتين فيهما التوابل وكومة من الأوراق المقصوصة من الجرائد وكتب ودفاتر.
معظم زبائنها من الشباب والأطفال. كانت تغرف في كاس تعتبره معيارًا، وثمنه عشرة أغورات وهو ثمن زهيد نسبيًا. لكن كعادتها لن يخرج أي زبون دون ان يسمع منها شتيمة طريفة تصيب بها احدى والديه فكان تقول: “قول لامك البخيلة الشرموطة تعطيك النقود مرّة ثانية وما تنسى تسلم عليها”.
3
تجاوزت ماري الخمسين من عمرها ولا أحد يعرف عمرها بالتحديد. أصيبت بالفالج والتوت شفتها العليا. لم تعد كالسابق فأخد حديثها يخرج مميّزًا، لأنّها تضغط على الحروف ويكون صاخبًا في جميع الأوقات، حتّى توصله للمستمع عندما تكون لوحدها.
معروفة ماري بين الجميع بطيبة قلبها وحبّها للناس، فلم تدع طفلا يدخل إليها ويخرج دون أن يأخذ حاجة ما، حتى لو كانت نقوده أقلّ من المطلوب، وحتى لو لم يكن معه نقود، كانت تملأ نصف الكاس وتعطيه للطفل.
عادة، يعم الحاصل الهدوء ولكن ما أن يمر أحد، ولا يهم من يكون، تتلقفه ماري التي تعرف الجميع صغارًا وكبارًا، فإذا مرّ دون أن يلقي السلام عليها أو يدخل لشراء بضاعتها، تناديه بصوت عال ومعوج اللسان: “ليش بتقولش مرحبا يا ابن القحبة …هيك علمتك إمك المنيوكة”.
العديد من النساء في جيلها لم يخجلن من التلفظ بالشتائم من خلال حديثهن، لكن ماري امتازت عنهم بأنّها تبدأ في الشتائم لتقول ما ستقوله فيما بعد. اعتبرها أهل البلدة، الملكة المتوجة للشتيمة دون منازع، وزاد حبّهم لها إثر ذلك. جعلت للناس في شخصها مغمزا وهزأة وضحكا.
4
رغم انني جئت إلى هذا الصياد للاستماع عن قصص البحارة، لكن ها هو يروي لي قصة لا تمتّ بصلة للبحر، بصراحة لم أستطع إيقافه أو تغيير الحديث. استمتعت بهذه المعلومات كثيرًا. في لحظة شرودي وانا أفكر بما سمعت، تنبّه الصياد لذلك، وقال مستدركا: اسمحي لي، فنحن لم نتحدث عن الموضوع الذي جئت من أجله، تفضلي واسألي… وما أن هممت بطرح أول سؤال إلا أنّه استدرك ثانية فقال:
– انظري من قادم إلينا.
رأيت سيّدة كبيرة في السن نوعًا ما، ولكنها قوية تسير في هدوء وحذر وهي تنظر أمامها وتلقي حولها نظرات قصيرة، وهي مفعمة بالشقاوة فسألته:
– من هذه؟
– انتظري وسترين، هذه أجدع وأعرق تلميذات ماري العبدة، اسمعي ماذا سيحصل…
فما كان منه إلا أن ناداها باسمها، كأنهما يتهامسان ويتناجيان وسألها:
– كيف حال هذا الذي عندك؟
انتفضت بحرارة وردّت بجدية:
– يسلم على هذا الذي عندك!
سارت السيّدة في حال سبيلها، وعدنا إلى قصص الصيادين التي لا تخلو من الشتائم، فكلماتهم صريحة والمضمون بيّن.