تل أبيب تنتفض ضد اليمينيين وتجتمع على الفلسطينيين
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
تاريخ النشر: 06/03/23 | 6:21أخشى أن يُخدع العرب والفلسطينيون، وتنطلي عليهم الصورة وتسلب عقولهم المظاهر الخارجية الكذابة، فيظنون أن المظاهرات الشعبية الإسرائيلية تخدمهم، وأنها لصالحهم وقد تنفعهم، وأنها ضد نتنياهو وحكومته المتطرفة التي هي قاسية عليهم ومتشددة ضدهم، وأن المتظاهرين في شوارع تل أبيب وحيفا يتضامنون معهم ويؤيدونهم، ويريدون إسقاطه وحكومته لأنه يضر بالفلسطينيين ويضيق عليهم، ويضم في حكومته وزراء يمينيين متطرفين، يريدون انتزاع ما بقي في أيدي الفلسطينيين، ليموت حل الدولتين ولا يبقى أمل لهم بإعادة إحيائه وإقامة دولةٍ مستقلةٍ لهم.
الحقيقة هي خلاف ما ورد أعلاه تماماً، وعلى العكس مما يظن بعض الفلسطينيين والعرب، فالذين يتظاهرون في شوارع تل أبيب وحيفا إنما هم ضد نتنياهو شخصياً وحكومته وسياسته الداخلية، فهم أنفسهم الذين كانوا يصنفون بالأمس “بديل نتنياهو”، عادوا اليوم ليكونوا بديل نتنياهو وحكومته، لأنهم يرون أن حكومته تعمل ضد “شعب إسرائيل”، وأنها تضر بهم ولا تنفعهم، وأن سياستها تجاههم تورطهم وتخلق لهم الكثير من الأزمات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن تخوفهم الكبير من محاولات نتنياهو تصفية المنظومة القضائية الإسرائيلية، وتحجيم المحكمة العليا وتقليص صلاحيتها، وسحب امتياز “التغلب” الذي تتمتع به على قرارات الحكومة وتشريعات الكنيست.
يقف على رأس المتظاهرين في شوارع تل أبيب كلٌ من يائير لابيد وبني غانتس، الذين كانا ضمن تحالف يمين الوسط برئاسة نفتالي بينت أولاً ثم لابيد بعد ذلك، وهي الحكومة التي قتلت 235 فلسطينياً في العام 2022، حيث شكل هذا العدد من الشهداء أعلى مستوى منذ العام 2015، وهي الحكومة نفسها التي شرعت عشرات المستوطنات، وبنت آلاف الوحدات السكنية الجديدة، واعتقلت أجهزتها الأمنية آلاف الفلسطينيين وهدمت عشرات البيوت، وقامت بأفعال شنيعة جداً لا تقل عن تلك التي قامت وتقوم بها حكومة نتنياهو الحالية.
كما أن الذين يتظاهرون في شوارع تل أبيب وحيفا لهم ممثلون ونواب في الكنيست الإسرائيلي، ينتمون إلى أحزاب ما يسمى بيمين الوسط وأحزاب اليسار والعمل، نراهم تحت قبة الكنيست يتفقون مع تكتل الحكومة اليمينية المتطرفة، ويؤيدون القرارات التي يقترحونها ضد الشعب الفلسطيني.
وقد صوت نوابهم مع قرار سحب الإقامة من الأسرى الذين يثبت تقاضيهم رواتب شهرية من السلطة الفلسطينية خلال فترة اعتقالهم على خلفية تنفيذهم عملياتٍ قومية، وأيدوا مشروع قرار بن غفير القاضي بطرد عائلات منفذي العمليات التي يقتل فيها إسرائيليون، وأيدوا قرار هدم بيوتهم فوراً وبصورةٍ عاجلة، وأغلبهم يؤيد مشروع إقرار تنفيذ عقوبة الإعدام بحق الأسرى الفلسطينيين، بمعنى أنهم وحكومة نتنياهو سواء، يختلفون في شكل وهوية الدولة، ولكنهم يتفقون في كل ما يتعلق بالفلسطينيين وقضيتهم.
تؤكد الشعارات التي يرددها المتظاهرون، واليافطات التي يحملونها والتصريحات التي يطلقونها، أن مطالبهم داخلية فقط، فهي تتعلق بالشأن الإسرائيلي الداخلي، ولا يوجد ما يدل على أن للمتظاهرين مطالب سياسية تنصف الفلسطينيين، أو تطالب باحترامهم وعدم المساس بهم والاعتداء عليهم، بل إن الطرفين يشتركان في سياسةٍ واحدة ضد الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يجعل من التشدد معهم والمبالغة في استخدام القوة المفرطة ضدهم عامل وحدةٍ واتفاقٍ بينهم، علماً أن القوى المشاركة في المظاهرات لا تقتصر على الأحزاب السياسية، بل إن الجمعيات المدنية والحقوقية الإسرائيلية أكثر حضوراً وتمثيلاً منها، وهي التي تنادي بعلمانية الدولة، وسيادة القانون، ومحاسبة المدانين، ورفض توزير المتهمين.
كما اشترط منظمو المظاهرات على المواطنين العرب إن أرادوا المشاركة في المظاهرات، ألا يرفعوا الأعلام الفلسطينية، وألا يرددوا شعاراتٍ قوميةٍ، وألا يتجاوزوا سقف الدولة اليهودية، وأن يعلنوا تأييدهم لعلمانية الدولة وديمقراطيتها، وأن يكونوا ضمن التيار العام للمتظاهرين فلا يستفزونهم بقولٍ أو عملٍ، ولا يغضبونهم بشعارٍ أو تصريحٍ، وألا يكون لهم أي دورٍ في تحديد مسار المظاهرات ومخططاتها.
مما لا شك فيه أن الكيان الصهيوني يشهد أكبر مظاهراتٍ منذ أكثر من عشر سنواتٍ، وهذه المظاهرات خطرة ولها آثار بعيدة المدى على حياة الكيان المضطرب الخائف، وليس من المستبعد أن تكبر وتتسع، وتأخذ أبعاداً أخرى وأشكالاً مختلفة، وقد تصبح أفضل تنظيماً وأكثر مطالبَ، وربما لا تقوى حكومة نتنياهو على الصمود أمامها أو الثبات أمام استمرارها فتسقط وتنهار، وربما أيضاً يصم نتنياهو وشركاؤه المتشددون آذنهم، ويضربون صفحاً عنها، ويستمرون في سياستهم، ويصرون على إجراءاتهم الإصلاحية، فلا نُغَرَ بها نُخدع، فالثابت الأكيد أن الحكومة الإسرائيلية والمعارضة أياً كان شكلها وزمانها، ومهما اشتدت الخلافات بينهما، فسيبقيان يداً واحدةً ضد الفلسطينيين، وصفاً موحداً ضد حقوقهم.