قراءة في كتاب رنين القيد ( للأسير الحرّ عنان الشلبي)
حسن عبادي
تاريخ النشر: 10/03/23 | 10:36تنهيدة مغايرة للأمل
إربد
عندما نتذكّر أنّ القضاءَ مصدرُ العدالة، ولربما وجبَ أن يكون عادِلاً وفق العُرف القانوني وما يحكمهُ دستور الدولة هذا لأنّ القضاء في كثير من الّدول لا يستند إلى الدين في تشريعاته وأحكامه.
أيّ عدالةٍ مرجوّةٍ من قاضٍ زائف يمارس سطوتهُ فيما لا يملك… ومحكمة صورية لا تُفرقُ بينَ طفلٍ وشاب ومسنّ، بل كلّ هؤلاء بالنسبة لأحكامها هم مشاريع حية للإبادة والقتل.
في رنين القيد نجدُ عدة وجوه للوجع، نجدُ مفرداتٍ لها مفاهيم أخرى غير التي نعرف، ومن ذلك أمثلة كثيرة منها:
ابتداءً من العنوان: فالرنين في اللغة يحملُ معانٍ عدّة، فأّيّها قصدَ عنان الشلبي في كتابه الذي بينَ أيدينا اليوم؟ ربما جميعها تصبّ في المجرى ذاته.
الرنين في المعجم اللغوي: الصياح عند البكاء والصوت الحزين وصوت الحمامة في سجعها وصوت المرأة في النواح والصياح وفيزيائياً هو عبارة عن ظاهرة تتلخص في استجابة جسم ذي تردد طبيعي معين لموجة صوتية ترددها يساوي تردد الجسم وطبيعياً هو تجويف أو حجرة داخلية بأبعاد مختارة تسمح بالتذبذب الداخلي الرنيني للأمواج الكهرومغناطيسية ذات الترددات المحددة.
الله يا عنان! من كلّ تلك المفردات والمعاني تفتق الألم، لكأنني أسمعُ احتكاك السلاسل في قدميك ويديك تتحول فجأة إلى عنقي تخنقني، تخرجُ بها صارِخاً في وجه الكون أنا هُنا. لا تنسوني كما نسيتني أمي بعد عدة جلطات دماغية… كم أوجعتَ قلوبنا عندما قلت: نسيتني أمي ولم يعد لي في هذا الكون ملاذاً ألجأُ اليه في حالات وهني وضعفي… فماذا تبقى لي في هذا العالم الظالم…؟
وفي مفهوم آخر كالانتظار: يحدث الوصول متأخراً وربما لا يحدث، فالوجبة المفضلة لديه التي أعدتها والدته يوم حادثة اعتقاله تحديداً انتظرتهُ وأشقاءهُ لكن أبداً لم يحدث وأن وصلَ وتناول منها لو لقمةً واحدةً، عاشت أمهُ هاجس الانتظار المستحيل أشرعت نوافذ الأمل لعودتهِ رغم المؤبد الذي حكم به واتخذت قراراً حاسماً أنها لن تعدّ تلك الوجبة إلا حينَ خروجه من السجن وكان الأمر مستحيلاً… لأن المؤبد حينذاك كان في انتظاره، كذلك الرسالة التي أرسلها لعائلته من داخل السجن يخبرهم فيها موافقتهُ على زواج شقيقته إلا أن الرسالة علقت مع عنجهية السجان ولم تصل في الموعد ما خلق ألماً شديداً داخله لأنه أيقن وقتذاك حجم القيد الذي يرن في روحهِ قبل أن يلدغ جسده ويقيد قدميه ويديه.
وفي الوقع الزمني هنا يصبح الزمن فجأة عدواً لدوداً لعنان، الزمن الذي يسرق منه أجمل اللحظات وأجمل اللقاءات والمناسبات، وتمثل ذلك بقوله: “لماذا لم أختصر كل ذلك وأرسل رسالة أهنئها عبرها بالعرس الذي أجهل موعده؟ أو ربما بالمولود الجديد؟”
وفي جملة أخرى تجلّت الصورة أكثر صورة تكسّر الزمن على عتبات العبث “كان قد مرّ أكثر من شهرين على إتمام عقد القران وإقامة العرس عندما وصلت رسالة تهنئتي بخطوبة شقيقتي ما يزيد هذا المشهد الهزلي وجعاً هو أن رداً لرسالة واحدة لم يصلني، لم يرد أحد على رسائلي…؟”
وفي الأرقام، كيفَ لحكمٍ من عشرين عاماً أن يخلق سعادةً لا تقاس بثمن، حيثُ يكون له نهاية وربما نافذة مشرعة لا بدّ من أن يدخل إليها الضوء ولو بعد حين، قدم والدهُ البشرى بالعشرين قبل أن ينطق القاضي المحتلّ بالمؤبد ليتكسر زجاج نافذة الأمل الوحيدة ويبقى الضوء عالقاً هناك في السماء البعيدة. تمثل ذلك في قول عنان: “عندما دخلتُ إلى القفص تفاجأت بوالدي يقف مبتسماً فرحاً يشير لي بيده ويهمس بصوت خافت: “عشرين”
وفي المساومة: مساومة الألم بألمٍ آخر، كأنْ يستطيب الأسير عنان للحظات اعتقالُ شقيقه ليتمكن من لقائه، وأن تساوم أمهُ اعتقالها مقابل السماح لها بزيارة عنان بعد الحكم عليها بالحرمان من الزيارة مدة سبع سنوات.
في الجوع: وهنا توقفتُ كثيراً عندما قرأت في الصفحة 73 “جوع كافر”، عندما قال عنان: “كيف يشتاق المرء إلى ما تنازل عنه بمحض إرادته وأبى الاقتراب منه؟” رأيتُ في هذا النص المعركة الحقيقية التي لم ولن ينتصر فيها السجّان، لأنه ببساطة تم إسقاطه عن عرش الحكم وصارَ محكوماً بإرادة أسير محكم القيد.
في الأبوة: وقد تمثلت في جملة: “لم أنس ذلك اليوم عندما تحولت إلى أبٍ حليم وقوي وحنون دون أن أنجب أي طفل، أب لوالديّ اللذين صغرا فجأة وكبرت أنا ألف عام ويزيد”، أيّ عدسةٍ ستلتقط هذا المشهد عندما تتم سرقة الزمن بنجاح، لدقائق معدودة تلتقط الصورة الجامدة تلمع فيها اللهفة العارمة والفرح الممزوج بالخيال والحلم والحب، يخال الى الناظر أن اليدين ترتجفان والملامح الدامعة المتحايلة على الابتسامة، من هنا تبدلت ملامح الجمود وتساقطت أوراق الساعة ليهربوا جميعاً من الصورة كلّ إلى زاويته يذرف دمعةً حارة ولزجة.
في رنين القيد ترتعشُ اللغة رغبةً في الانعتاق من الألم، تتجلى الذكريات معلنةً ثورتها رغم سادية المحتل ورغم القضبان الحديدية والتنكيل والتعذيب الجسدي والنفسي للأسير، في رنين القيد ثمة دمعة هاربة من نصيب كل من يقرأ سطور الكتاب.
تحية إكبار وإجلال لأسرانا جميعاً. وتحية كبيرة مني للمبدع الحر دائماً عنان زاهي الشلبي الذي أتقنَ رسم الوجع وأبدع في خلق ملامح جديدة للغة، شكراً لعنان الذي خبأته أمه في ذاكرتها الغائبة وليته يسمع صوتي أخيراً بقولي: الأمهات لا ينسين. إنهنّ يقفن على بوابة الانتظار ويتنهدنَ طويلاً…
***مداخلة في حفل “رنين القيد” للأسير عنان زاهي الشلبي الأحد الموافق 26 شباط 2023 في رابطة الكتاب الأردنيين/فرع إربد