قراءتي لرواية “أمل وعجز” للكاتبة ليلى عبد الله
بقلم: خالديه أبو جبل
تاريخ النشر: 12/03/23 | 13:04“أمل وعجز”
الصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع 2021
تقع الرواية في 299 صفحة من الحجم الوسط.
” عجزٌ وأمل”
هو عنوان جاء واضح مباشر واسع الدلالات ، فقد يقرأ المتلقي العنوان، فيعتقد أن الرواية تسرد حكاية
إنسان عاجز ، وقد يكون سبب عجزه إعاقة جسدية ما ، تحداها وانتصر عليها في نهاية المطاف، لكن التظهير الذي إحتل الجهة الاخرى من الغلاف ، يزودنا بنقطة الإنطلاق السليم ، ليضعنا أمام رواية
تحكي عن واقع الفلسطيني الذي أفرزته الظروف السياسية المتلاحقة والمتسارعة التي عصفت بالبلاد
قبل النكبة ومن بعدها النكسة حتى زيارة السادات
التاريخية لتل أبيب. كما كتب عبد الرحمن ياغي
“وهكذا خرجت فلسطين من قيود الحكم العثماني
الاستبدادي الإقطاعي ووقعت في شباك الاستعمار
الانكليزي، وصنيعه الاستعمار الصهيوني ومن وراء ذلك كله الاستعمار الأمريكي، لتكون نقطة ارتكاز يحافظون بواسطتها على مراكزهم الاستعمارية
في الشرق الأدنى”1*
بناء على هذا يكون العنوان قد شكل تساؤلا ، وخلق
انتظارًا للأجابة، فهل ترانا وجدنا هذه الإجابة في رواية رحبة بزمانها ومكانها ، بشخصياتها وأحداثها
التي جرت بانسيابية مرنة ومتدرجة، وكثُرت فيها المشاهد الحيّة التي يتمحور متنها الحكائي حول
شخصية “عمر”
(“إنّني الآن أملك قلبًا عاريًا، تساقطت أوراقه، ذبلت أزهاره، وجفت ينابيعه “. ضاقت به بلدته وضاقت به الدنيا، ولكنه ليس من النوع الذي يتقوقع، ويعيش
في مستنقع آلامه، فبحكم اطّلاعه، استطاع الخروج
من دائرته الشخصية إلى الدوائر الأوسع والأكبر.)
ص 20
انطلقت أحداث الرواية التي أرادتها الكاتبة، من هنا من الفصل الصغير الذي أعطته عنوانًا يتجاوب مع بدايته. وكانت قد ساقت قبله أربعة فصول صغيرة
تساوي 20 صفحة. استدعت في فصلها تقنية الاسترجاع ، حيث يلتف عمر مع زوجته وأبنائه
حول وجبة غذاء في ظلّ زيتونة، ليكون باب الحديث
قصة إحضار الماء من نبع في أرض مجاورة،
لتعود إلى ذهنه قصة أخيه الذي لقي حتفه من أحد
المهربين على الجبل الذي تسمرت عيناه في النظر إليه وهو يأكل مع عائلته، ليتدفق بعد ذلك سيل الأحداث من ذاكرته ، يسردها لزوجه وأبنائه.
ويحكي لهم مدى انتماؤهم للأرض ، واهتمام والديه بالزراعة ، وانصرافه هو للمطالعة، مُحاولًا استشراق عوالم المستقبل المتوقعة. وحكى لهم كيف تمّ زواج أخيه عارف لضمان استمرارية العائلة وتقوية جذورها ، وعن أخته آمنه الكفيفة التي
تقوم بأعمالها كالمبصرة بسبب نور بصيرتها
ودعم أمها ومساندتها. وفي حين لم يلق عمر رضى وموافقة على من اختارها قلبه للزواج منها- رغم أن الكاتبة لم تظهر لنا السبب بوضوح، وكأنها ساقت هذه الذريعة لتهيء لعمر القادم من الأحداث.
قرر عمر أن يجد منفذًا يحقق له بعض التوازن،
فقرر الإلتحاق بمن ذهبوا لمساندة الثورة في العراق
تحت لواء رشيد عالي الكيلاني، الذي استطاع أن يبلور الهم الوطني المشترك، ويُحذر من الخطر الانكليزي الذي يُمهد لتسليم أرض فلسطين لليهود.
تختزل الكاتبة الطريق الى العراق وقيام الثورة وخسارتها في صفحتين ، لكنها تُسهب في السرد عن طريق العودة ، فيجوب عمر الوطن العربي ،لبنان
سوريه وفلسطين ليرى بأم عينه هدوء الناس المنبعث
من انكسار وحزن وألم بسبب ثقل الحكم الاجنبي على أكتافهم.
ليعود الى بيته متسربلا ظلام الليل
بعد أن كانت عكا استراحة مسافر له في بيت
أقارب أبيه ايامًا معدودة هيأت لسعاد ابنة العم أبي خليل أن تقع في حبّه ، ويكون أبوها في منتهى المثالية إذ يقترح على عمر الزواج بها، ويتنصل عمر من هذا الموقف بحجة أنه مطارد وحياته غير مستقرة، يعود ، وفي طريق عودته أيضا يلتقي بالشاعر الفلسطيني ابن عنبتا عبد الرحيم محمود
صاحب بيت الشعر ،
المسجد الاقصى أجئت تزوره ….أم جئت من قبل الضياع تودّعه
والذي ألقاه على مسامع الملك سعود بن عبد العزيز حين زار القدس.
إذن يعود لبيته ليُريح قلب أخته آمنه ويسعد به قلب أبويه، لكنه لا يسلم من المطاردة فيختار اللجوء الى كهف قريب يأوي إليه ومن ثم يعود للتنقل ،ويتم إعتقاله في سجن عكا ، ويتاح له الهروب عندما خططت مجموعة صهيونية لتهريب سجنائها ،
وتكون الفرصة سانحة لهربه أيضا، ليبدأ مشورًا جديدا بين المدن الفلسطينية ، من عكا ليافا وإلى الخليل، حيث عائلة العم أبو شاكر التي استضافته
فترة لا بأس بها وتشابه الموقف بما حدث له في عكا
فهنا قد وقعت سارة بحبه، وأيضا اقترح أبوها أن يزوجها له ، لكنه اعتذر بلباقة وعاد الى بلدته،
ليعيش نكبة وحرب ال 48، بعدما عاش خسارة ثورة ال36، لكن وقع هذه الهزيمة جاء أعتى وأصعب ،حيث توفي أباه حين لم يستطع تحمل المصاب الجلل ، وتحمل الشعور بالخذلان من أنظمة الفساد العربية، والخزي من أنفسهم كيف لم يستطيعوا حماية أرضهم وعرضهم.
هذه الوفاة تسببت في عمى الأم _ وكأنها ترفض رؤية الواقع الجديد الذي قلب موازين حياتهم_لتصبح هي وابنتها في ذات الكفة من الميزان.
يلتقي عمر أثناء مكوثه في يافا بنصر المجند في الجيش الانجليزي ، تنشأ بينهما صداقة متينة
بعد تأكد عمر من إخلاص نصر لوطنه وأنه يعمل من الداخل ضد الإنتداب الانجليزي
وتنشأ علاقة مودة واحترام للخالة أم سليم التي آوته
في غربته في بلد أم الغريب يافا.
كما قلت في البدء أحداث الرواية كثيرة جدا، فيها يتزوج عمر ويصبح أب لخمسة اطفال، ويضطر للعمل لدى اليهود، ومرت أيضًا على مجزرة كفر قاسم وحرب ال56 وعصر العزة والكرامة في زمن عبد الناصر والوحدة السورية المصرية ، ظهور قوة الحزب الشيوعي اليساري الذي يرى الشباب فيه متنفسًا لأفكارهم، وإشباعا لتمردهم، وموطنًا لأحلامهم، حتى يصبح مجرد الانتساب له جريمة أمنية يُعاقب عليها بالسجن ، ونكسة ال67 ، وفاة عبد الناصر ، حرب ال73 ، استشهاد صديقه نصر برصاص جنود الاحتلال وهو يدافع عن أرضه، يوم الأرض الأول الخالد 76,,زيارة السادات لإسرائيل77.
وهنا تتوقف الرواية حيث يطبق اليأس بيديه الباردتين على زمام التفكير ، ويحيلُ عمر إلى إنسان معزولٍ عمّا ومن حوله، عن الوجود الراهن والتاريخ الغابر،
يأت الموت بكل ما يعنيه من خواء وعدم.
لا بد وأن ليلى العبد الله قد كرست وقتا طويلًا لتُعدّ رواية تحمل هذا الكم من الأحداث، تستوحي من أجوائها نفس المقاومة الطويل، وعطر الأمل.
وقد استطاعت أن تجعل القارئ” متورط” مع الرواية
بكافة أحداثها وشخوصها وزمانها ومكانها، واستبقاء شعور الترقب قائمًا لديه من خلال عملية توليف بارعة بين عدة بدايات روائية تتداخل الواحدة في الأخرى بشكل فني جميل ومتماسك. واختيار لحظة التوتر حتى النهاية شرط ربطها بالإستهلال. لكنه من ناحية أخرى يجد نفسه متورطًا في العثور على نهاية لهذه الرواية.
خاصة وأن نهاية الرواية جاءت مفاجئة وقد تكون صادمة، في موت عمر بهذه الطريقة، في حين ان الحركة والمثابرة ظلّت ملازمة للرواية على امتدادها بين علّوٍ وهبوط حسبما تقتضي المرحلة،” وحسبما أوحت لوحة الغلاف بغيمها الدائم الحركة، وآثار القدم المضيئة الماضيّة في سيرها بإصرار، والنبات الأخضر الذي يشّق الارض بصعوبة ، لكنه أبدا لا يبقى تحت التراب .
لكن موت عمر في النهاية ، صوّر موت الأمل!( ولا أعتقد ان الكاتبة قصدت ذلك حقًا)
اتساءل لماذا ؟وقد أعطت الكاتبة لبطلها اسم عمر
تيمنا بالعمرين ، الخطاب والمختار ، لما لم تُبقِ
رمزا مضيئا للأمل وجعلت الموت يختم روايتها،
وروايتنا كشعب لازالت قائمة ومقاومة وتقدم التضحيات الكثيرة لأنها تحيا على أمل!
أمّا في استشهاد نصر فقد كانت رسالة متينة لأبنائه
ولأجيال قادمة، وهذا ما يثبته التاريخ ، ونحن نرى ما يحدث لأهلنا في النقب ونشاهد مدى تحدياتهم؟
كثرة الأحداث التي مرت عليها الكتابة بهدوء ، كسطر في صفحة مولية الأهمية لتنقلات عمر بين البلاد والحوارات التي كانت تدور بينه وبين الآخرين ،
في حين أن كلّ حدث قد يُفرد له رواية، فلم أشعر كقارئة بصعود حادٍ لتوتر حقيقي على مدى الرواية
أكثر من استشهاد نصر في النقب، وقد كان له من اسمه نصيب، فهو وإن مات، فقد قضّى شهيدا،
وفي الشهادة نصرٌ، ونصرٌ قريب …
وهنا أميل للقول أن معظم شخوص الرواية هم أبطال ، حتى وإن كان مرورهم هادئ، فهم مقاومون.
لم تُحِط الكاتبة عمر بحدّة تلك المطاردة ، لتعطيه المصداقية لتنقله الكثير هذا. بمعنى أنه لم يواجه الخطر وجها لوجه بحدّة وشراسة.
أبدعت الكاتبة في وصف معيشة الشعب الفلسطيني
بعد الاحتلال واضطراره للعمل في ورشات البناء
العائدة للمقاولين اليهود ، والعمل كأجيرين في أرض
كانت بالأمس القريب أرضهم ، تمنيت لو أن الكاتبة
انطلقت بروايتها من هنا لتنبش الوضع الأجتماعي والنفسي والاقتصادي والسياسي للإنسان الفلسطيني
في هذه الفترة المظلمة من الزمن…
ظهرت قدرة الكاتبة على الكتابة السلسة العميقة البسيطة، والتي تُشعر القارئ في أحيان كثيرة
أنه أمام شاعرة مرهفة الحس مثقفة تملك أفقًا رحبًا نقيًا، كما ظهرت معرفتها بأحداث الرواية وشخوصها معرفة كُليّة عميقة ، غلب على سردها الضمير الغائب
حيث تدخل إلى أعماق الشخصية لتلامس أفكارها وأحاسيسها، حيث ظهر خطاب الشخصيات بصوتها،
فقد تدخلت الكاتبة في صياغة الحوار على امتداد الرواية، مما جعل المتلقي لا يسمع الا صوتا واحدا في الرواية ، فقد لا يُذكر أي تغيير في مستوى السرد
في الرواية ، لكي يتناسب مع مستوى الشخصيات
الفكرية والثقافية والاجتماعية.
هذا عدا عن اختلاف اللهجات التي كان من الممكن أن تُضفي حميميّة للرواية فالبطل تنقل ما بين الخليل ويافا وعكا ومنطقة مرج اين عامر ، عدا العراق وحلب ودير الزور.
كان من الممكن أن تكون جامعة لهذه اللهجات جميعها
مع تبسيطها وتقريبها لبعضها البعض،
وبالاجمال لو كانت لغة الحوار تميل قليلا للمحكية.
ملاحظة أخرى ، استغربت انقطاع دور الأم وابنتها آمنه في آخر الرواية ، وكنت أفضل أن تخصهم الكاتبه عن طريق بطلها عمر بمزيد من الإهتمام
وتستحقانه
أثارت اهتمامي التساؤلات الوجودية المشروعة
التي ساقتها الكاتبة في السرد ، والتي تدل على عمق الكاتبة على سبيل المثال : والبشر ، أليس البشر أهم من الحجر؟”137
في النهاية هي رواية ليلى العبد الله الأولى
التي جابت بها الوطن العربي وحكت عن الكلّ الفلسطيني بقلم صادق نقي ينزف وجع الجرح الفلسطيني الذي فتقته كثرة النكبات والخيبات،
والخيانات ، حتى لم يبق للفلسطيني غير مقاومته
وقلمة.
أبارك للكاتبة ليلى عبدالله روايتها الأولى والتي تُبشّر
بأن لها أخوات على الطريق، وأُحيّي هذا القلم الرشّيق
العذب الجميل ، والفكر المثقف الملّم بشكل مذهل
بكلّ صغيرة وكبيرة مرت على الشعب الفلسطيني
ووطنه فلسطين.
مراجع:
*1_ د. محمد خليل ،كتاب مرايا في النقد والأدب والثقافة،
مظاهر الحياة في فلسطين قبل النكبة، ص15
خالديه أبو جبل
الجليل الفلسطيني
12/3/2023