مقطوعة أدبية مستوحاة من كتاب ميسون أسدي “شكاوى المبدعين”
بقلم: ناحوم يتسحاق
تاريخ النشر: 12/03/23 | 20:45أود أن أبدي رأيي المتواضع في القصص المدونة بكتابك من شكاوى المبدعين.
قررت أن أعبر عن رأيي بالكتابة على شكل قصة قصيرة، كل ما كتبته فيها مقتبس من قصصك المدونة فقط، والتي كان لها وقع في نفسي بعد قراءتها، وأضفتُ بضع كلمات معدودة ليس إلّا، لضرورة الدمج في الأحداث. جمعت العبارات التي أحببتها بشكل عشوائي ومبعثر، وقمت بترتيبها قدر ما أمكن لتشكل موضوعا، لأخذ العبرة والرسائل المراد إيصالها، ولشتلها في قاموس ذاكرتي.
اليك بعض مما اخترته على شكل ما يشبه القصة في صفحات معدودة:
***
تلقفتني بغتة وجهارة رمقتني بنظرات غضب، وصاحت بصوت أضفى عليه انفعالها تهدجا ملحوظا، وجهها وجه ملاك الموت في صفرته، تغشو سحنتها سحابة من الكآبة، متدينة ومغلفة بأطر اجتماعية عديدة، اقتربت وقالت بنحنحة جافة: كان أسلوبك متقطعا غير متواصل لم تبثي الدفء في قلوب الأطفال، لقد وضعتني في جو مطير من الإهانات والملاحظات السلبية لأنني رفضت التطوع، تلاشت من وجهي أمارات السعادة، شعرت أن قلبي يختلج بين ضلوعي، والوهن في روحي وجسدي.
جررت نفسي بقوة، وقد خرجت عن طوري، أصبحت كآلة تتحرك بطريقة ميكانيكية منزوعة الأحاسيس والعواطف، لم يكن بحوزتي كلام، أخذت أتلعثم وأتعثر بالكلمات، أقرأ باضطراب واهتزاز، كنت كمن يتلظى على الجمر حتى لكدت أختنق، بل كنت منقبضة ولم أفلح بالتواصل مع الأطفال، انفطر فؤادي من ملاحظاتها نتيجة تحريضها الأرعن بغير حق، كل ذنبي أنني رفضت التطوع.
توجست شرا لم أسمع مثل هذا الصوت فائق القباحة، كان صوتها يجلجل عاليا وحادا كالشفرة، صاخب يقرقع كالتنك، عدائي إلى أقصى حد، الذئاب تعوي في أعماقها، أم الفهد امرأة طويلة القامة عريضة المنكبين، لها جسم الفيل وقوة الثور ونشاط النمر، تتدثر بعباءة الدين، بتعيين قبلي وشعارها المصلحة العامة، ونبذ المصالح الشخصية، تطلق قهقهة كأنها نهيق حمار.
لم أفهم بكلمة واحدة، أنستني اين كنت في حواري، بدوت هادئة مثل بوذا، خجلت الكلمات في اعماقي، خرجت كأنني أنجو بنفسي من أتون سدوم وعمورا، اختفيت كأنوار سفينة تتوارى في الأفق، رأيت شهادة تقدير باسمي وليس هناك من يقدمها لي، تركتها لتذكرهم بأنني كنت هنا بشخصي وليس بطيفي الذي مر دون أن يلاحظوه “إذا كان رب البيت بالدف مولعا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص!” (المتنبي)
المدير أبو رابوص، رجل مؤدب لدرجة الغباء، لا يسمح لنفسه ولو للحظة أن يكون على سجيته، أبو رابوص بدا عليه مظهر الخبير المتضلع، حدجني بنظرة استهجان، فاغرا فاه ذا الشفتين الرطبتين، ينتعل صندلا لا يناسب كفتي قدميه، بدا لي أنه يتربص بنا كالجن، ويجثم على صدورنا بسلوكه المتعجرف، فقد أخرسنا جميعا، وقد صلينا في الحر، وهو ينعم بالبرودة، شخص مستفز، صلف، مغلف بتهذيب طقوسي زائف.
بدا لي المدير الشاب الوسيم مهتما بملابسه المهلهلة، فيه شيء من التخنث، انعكست في سحنة وجهي أمارات الياس، لأنني حظيت بعدم مراعاة لي، أحنى رأسه دانيا مني، معتذرا يسال عن اسمي، نظرت إليه دون ردة فعل ولم أنبس ببنت شفة، لم أر مناسبا كشف نفسي وأشيائي امامه، وكل واحد من الحضور يحمي كرسيه بمؤخرته العريضة، لا أعرف أين اختفى الذوق الذي فضلوه على العلم! فكرت بالقيام والمغادرة بعد أن قدموا لنا شهادة، لا أعرف اين أضعها لكبر حجمها، فبيتي صغير لا يوجد فيه متسع لمثل هذا الحجم من الشهادات التقديرية.
بدأ الشيب يخط شعره كاد يأكلني بعينيه، وهو يغزل بأفكار دون ان يتملقني أو يحابيني، تكون مرة لقيطة ومرة لطيمة، في صدرها أتونا من الحب لكل من هب ودب، أجاب تحت قناع من الطيبة والبلاهة بحجج واهية بجدية مصطنعة: أستطيع أن أعطيك حبة من كل نوع، ولكن عليك أن تدفع ثمن الباقي…!
احسست بالغبن، شحب وجهي وارتج فكي الفجيع الخنوع.
قال البائع لقد طوقنا عنقك بأفضالنا، فماذا عدا عما بدا؟
مشيت الهوينة، مشية التائهة الشاردة وقفت لبرهة التقط أنفاسي، رجل قوي البنية صارم الملامح لاحظ أنني أتخبط واتعثر بأذيالي، لو كانت الآية معكوسة لكنت أسرع إلى مد العون.
مع بزوغ فجر جديد، أوقفت القلق الناخر في نفسي، أخذت أمارس طقوسي الصباحية والاستمتاع إلى أمور شتى تغني ولا تسمن، وللتعمق في اغوار نفسي، تفتق ذهني عن فكرة معينة، أخذت أرتشف من كوبي الدافئ، فغابت عني مشقة السفر وكل ما صادفته في رحلتي، ربما كان من الأجدى أن أكرس وقتي الثمين لإبداع جديد على نهارات آفلة، ولكن أين المفر؟ طيب يا صبر طيب!
كانت المربية مجدولين في غاية أناقتها، متبهرجة من أخمص قدميها حتى قمة رأسها، تبرج زائد معيق لعملها، حذائها ذو كعب عال حاد يعرقل مشيتها، جاءته مجدولين كأنها تتفحص بضاعة معروضة للبيع في واجهة متجر، تقف أمامه بقامتها الممشوقة، تربض طول النهار بالملابس والتبرج، ولتبهرج عجرفة وترهات، هذا يعادل ما تقوم به راقصة التعري الملمة بمهنتها، حيث تخلع ملابسها على المنصة وأمام الجمهور، حتى تظهر مفاتنها، قالت له أتلاحظ كل هذه المناظر الطبيعية؟
أنت كريم ونحن نستأهل، تلعثم وانعقد لسانه لم يفه بكلمة، تنفث الدخان، زكمت أنفه رائحة غير مستحبة طأطأ رأسه، تقوقع وانكمش كالسلحفاة، وكاد يمسك بطيات قميصها ويفتته، ثم يسد فمها بقطعة منه، ثارت ناره ولم يقو على إخمادها فإباحيتها تخدش الأذن وتمتعض منها النفس، إن ما قالته ليس بأدب، بل قلّة أدب. عم الهدوء الحي تقوقع الكاتب في شرفته متوحدا مع الطبيعة، قلمه بيده وأوراقه مكدسة أمامه بيضاء خالية من الكلمات، كل ما فيها على درجة عالية من البهاء والصفاء، لماذا لا توحي لي الطبيعة الخلابة بشيء؟
ولم تسعفني شرفتي الجديدة، أشعر بالوحدة وأعاني الإرهاق والسأم!
أنت بحاجة إلى هذه الكلمة العظيمة: تصور لو كانت لك في هذه اللحظة حبيبة، تجلس معك على شرفتك الجديدة، تمسك بيدها، تنظر في عينيها وتشعر بعاطفتها وتحتضنها وتقبلها… ولكن أين أجد الحب؟ عزفت عن النساء وأصبحت أعاقر القراءة ليلا ونهارا.
آوى إلى فراشه، غشت وجهه سحابة من كآبة، قطب جبينه بعبوس، لا يوجد قراء للكتب إلا النزر اليسير، دون الكتب الدينية، كتب الطبخ وكتب الأبراج، وإن كان هناك من يقرأ، فإنه يطلب الكتاب هدية، سمع الورقة الملقاة تقول له: من أنت لتحكم إن كنت سأثير اهتمام القراء أم لا؟
أنثر كلماتك على بياض صفحتي، تناول الورقة من السلة وراح يمسدها بكفي يديه، فما شعر إلا ويمناه تستل القلم من جيب قميصه لتخط عليها كلمات حضرته لتوها:
“عجبتني كلمة من كلام الورق،
النور شرق من بين حروفها وبرق،
حبّيت أشيلها في قلبي.. قالت حرام،
ده أنا كل قلب دخلت فيه أتحرق”
كنت مغتمة فوق حدود الغم، وأنا أرتشف الشاي مع شقيقتي، حضر شاب غض العود جميل المحيا يدعى جريس، وهو معروف في قريتنا بأنه مسكين ودرويش من أطيب الناس وأدمثهم خلقا، يعاني من مشكلة التأتأة، عرض عليّ بيع الكتب في القرية فأعطيته بعض النسخ، توجه جريس إلى بيوت القرية متمتما بحركاته المتشنجة، هل تشتري مني هذا الكتاب أم أقوم بقراءته لك، فيقوم رب البيت بشراء الكتاب منه ليتخلص من قراءته، فباع جميع الكتب، ما أن سمعت اندلق فنجان الشاي على ملابسي بفعل الضحك.
كنت في صغري مثل فرخ البط القبيح مبعثا للضحك والسخرية، لأن المنديل الأبيض أبرز قبحي ومحاسن صاحبة الثوب الأحمر، حين همت بالنهوض من كنبة عالية، كغزالة رشيقة تجوب البراري، علق فستانها بمسمار صغير بارز من طرف الكنبة، أحدث المسمار مزقا بسيطا بفستانها الأحمر الذي تحبه، أخذت التعليقات تتوارد عل صاحبة الفستان كنباح الكلاب، وبات الناس يتناقلون قصة الفستان الأحمر، ويختلقون البراهين الدينية التي تحرم هذا اللون، غارقين في بحر من الفتاوى والتفسيرات التي لا قرار لها، وسط هذا الضجيج وقفت امرأة فقيرة تحدق وتصيح، ما المزق في فستانها إلا من فعل مسمار في أثاث بيتي القديم البالي حين تفقدها لحالنا، في زمن يبخل الواحد على الآخر ببضع لحظات، فهلا كففتم عن ظلمها بضلالكم، عزيزتي: “ليس الأثاث وحده البالي الذي أكل الدهر عليه وشرب ولم يعد صالحا لزماننا!”
رجل مرموق ارتد بتأفف إلى الوراء ليعتد بنفسه، حضوره بارد، يكاد يكون بلا أحاسيس، فتات الطعام تتطاير على حروفي، ولعابه يتناثر فوق كلماتي، قال متجشئا أسجل كل هفواتك بالقصة، فقد افتقرت إلى البراءة، محتدة بعض الشيء، ولا تدل على أي تحول أو تطور درامي، أو تغيير مؤثر على الشخصيات، ولا حتى على سير الأحداث، نهاية هذه القصة غير جذابة.
أسهب في تعداد مساوئ القصة، صعدت مني تنهيدة غضب عميقة، وباتت قواي الدفاعية منهكة خائرة، اجتاحتني نوبة من البكاء، وأنا أجر ذيل هزيمتي، هالي ما اكتشفت تبين لي أن الرسائل التي كتبتها لزوجي أشتم وألعن فيها الناقد الخبيث، كنت قد أرسلتها بطريق الخطأ إلى الناقد نفسه.
***
صغت هذه القصة التي تبدو كوليد مشوه، من الحكايات التي سردَتها المبدعة ميسون أسدي في كتابها من شكاوى المبدعين، لكي أقوم بحفظ المفردات التي استخدمتها في إبداعها بالكتابة.
فالنتيجة إذا: واحد/ صفر، لصالح الكاتبة ميسون أسدي!!
أين اختفى الذوق الذي فضلوه على العلم!!
تحياتي وتقديري
ناحوم يتسحاق- القدس
شكرًا لك. كتابة ممتعة حقا ، قراءة ممتعة.