خلِّ عينك على بيتك (1)
تاريخ النشر: 06/05/14 | 11:52الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أمَّا بعدُ:
لقد جاءت الشريعة الإسلامية وأولت اهتمامها البالغ بالتربية الأسرية، واعتبرت الأسرة هي الحاضنة التي تشكل الحصن الحصين للأبناء والبنات، بتربيتهم على الفضيلة والأخلاق، وإعانتهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كما أمرنا الله تعالى أن ننقذ أبناءنا من جحيم الفساد، وسُعار الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، “التحريم: 6”.
جاء في تفسير القرطبي (18/196) قال مقاتل معقبًا على الآية: ذلك حق عليه في نفسه وولده وأهله، فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير وما لا يستغني عنه من الأدب وهو قوله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا).
فحذاري حذاري أيها الأب المربي الكريم أن تدفع ابنك إلى النار، فاجعل عينك وقلبك على ابنك وأهلك، قد تقول أيها الأب: أني لا ولن أبخل على أبنائي بشيء، وأفر لهم كل ما يطلونه بألسنتهم، من أجهزة خلوية ودراجة نارية وحاسوب، كما وأوفر لهم جميع الوسائل التقنية المتطورة، فالولد مواكب للعولمة في كل عصر.
أيها الأب المربي: ليس المهم أن توفر لأبنائك وبناتك كل ما يطلبونه، بل المهم مراقبتهم ومتابعتهم ومساءلتهم على كل ذلك، وإلا فإنك تدفعهم وتدفع نفسك وكل أهلك إلى الضياع.
أيها الأب الكريم: لقد أمرنا الاسلام وإياك أن نبدأ بتوجيه الأبناء نحو العبادات من اللحظات الأولى لسن التمييز من صلاة وصوم وحج وغير ذلك، كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِى الْمَضَاجِعِ) قال السيوطي: صحيح.
أيها الأب الكريم: فالمسلم داعية إلى الله تعالى لكل الناس، فليكن أولى الناس بدعوته أولاده وأهله من الذين يلونه، فالله تعالى عندما كلف الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة قال له: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) “الشعراء:214″، لأنهم أولى الناس بخيره ورحمته وبره.
فيا أيها الأب المربي يا صاحب الرسالة ويا صاحب الرعاية: قد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤولية رعاية الأولاد على الوالدين وطالبهم بذلك، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَاْل: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ). رواه البخاري ومسلم.
فمن واجبك أيها الراعي والأب العظيم أن تنشئ أبناءك وبناتك من الصغر على حب الله ورسوله، وحب تعاليم الإسلام، وتخبرهم أن لله ناراً وَجَنة، وأن ناره حامية وقودها الناس والحجارة، وإليك هذه القصة ففيها عبرة:
جاء في صفوة الصفوة لابن الجوزي (4/437-438) قال: “كان ملِك كثيرَ المال، وكانت له ابنة لم يكن له ولد غيرها، وكان يحبها حبّاً شديداً، وكان يلهيها بصنوف اللهو، فمكث كذلك زماناً، وكان إلى جانب الملك عابدٌ، فبينا هو ذات ليلة يقرأ إذ رفع صوته وهو يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) فسمعت الجارية قراءته، فقالت لجواريها: كفوا، فلم يكفوا، وجعل العابد يردد الآية والجارية تقول لهم: كفوا، فلم يكفوا، فوضعت يدها في جيبها فشقت ثيابها، فانطلقوا إلى أبيها فأخبروه بالقصة، فأقبل إليها، فقال: يا حبيبتي ما حالك منذ الليلة؟ ما يبكيك؟ وضمها إليه، فقالت: أسألك بالله يا أبت، لله عز وجل دار فيها نار وقودها الناس والحجارة ؟ قال : نعم، قالت: وما يمنعك يا أبت أن تخبرني، والله لا أكلتُ طيِّباً، ولا نمتُ على ليِّنٍ حتى أعلم أين منزلي في الجنة أو النار”.
وينبغي عليك أيها الأب الحبيب مراقبة أهلك من أبناء وبنات، وتبعدهم عن مواقع الفجور والضياع، وألا تتركهم يسرحون ويمرحون في زمن العصرنة والعولمة دون رقيب، ثم بعد ذلك تطالبهم بالصلاح، فإن الذي يزرع الشوك لا يحصد العنب، فالتربية السليمة للأجيال الناشئة لا تكون إلا في الصغر ليسهل عليهم في الكبر، وتتعوده أنفسهم، ويسهل عليك أيها الأب أمرهم ونهيهم، ويسهل عليهم طاعتك.
ولكن ينبغي عليك أيها الأب الغالي أن تكون رحيماً حليماً سهلاً قريباً غير فاحش ولا متفحش تجادل أهلك مع أبناءك وبناتك بالتي هي أحسن، بعيداً عن الشتائم والتوبيخ والضرب، إلا أن يكون الولد ممن نشز عن الطاعة واستعلى على أمر أبيه وترك المأمور وقارف المحظور فعندئذٍ يفضَّل أن يستعمل معه الشدة من غير ضرر.
جاء في فيض القدير للمناوي (5/257) قال: لأن يؤدب الرجل ولده عندما يبلغ من السن والعقل مبلغاً يحتمل ذلك، بأن ينشئه على أخلاق صلحاء المؤمنين ويصونه عن مخالطة المفسدين، ويعلمه القرآن والأدب ولسان العرب ويسمعه السنن وأقاويل السلف ويعلمه من أحكام الدين ما لا غنى عنه ويؤدبه على نحو الصلاة وغير ذلك، خيرٌ له من أن يتصدق بصاع؛ لأنه إذا أدبه صارت أفعاله من صدقاته الجارية، وصدقة الصاع ينقطع ثوابها، وهذا يدوم بدوام الولد والأدب غذاء النفوس وتربيتها للآخرة.
فالعقاب التربوي، والضرب غير المبرح، وسيلة لاستقامة الولد، لا أنه مرادٌ لذاته، بل يصار إليه حال عنت الولد وعصيانه.
والشرع جعل نظام العقوبة في الإسلام وذلك في الإسلام كثير كحد الزاني والسارق والقاذف وغير ذلك، وكلها شرعت لاستقامة حال الناس وكف شرهم.
وفي مثل هذا جاءت الوصية عن الرسول صلى الله عليه وسلم معلماً الأب ردع الولد:
روى الطبراني (9/152)، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عَلِّقُوا السَّوْطَ حَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُ الْبَيْتِ) والحديث: حسّن إسنادَه الهيثمي في “مجمع الزوائد” (8/21)، والألباني في صحيح الجامع (4022).
فتربية الأولاد تكون ما بين الترغيب والترهيب، وأهم ذلك كله إصلاح البيئة وهي المؤسسة الأسرية التي يعيش بها الأولاد بتوفير أسباب الهداية لهم وذلك بالتزام المربيين المسؤولين وهما الأبوان.
هذا وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بقلم: الدكتور الشيخ ضرغام صالح