احتجاز جثامين الشهداء: وجه آخر لعنصرية الاحتلال، وتعبير عن انحطاط أخلاقي وقيمي
الدكتور: عمـر رحـال
تاريخ النشر: 18/03/23 | 7:03بعد أفول الاستعمار الغربي، قد تكون (إسرائيل) الدولة القائمة بالاحتلال ، هي الدولة الوحيدة في
العالم ، التي تحتجز جثامين الشهداء ، كسياسة ممنهجة مبنية على أسس عنصرية تعكس
انحطاطاً أخلاقياً وقيماً وموقفاً غير إنساني يندى له الجبين . فما زالت دولة الاحتلال تعتقل
جثامين الفدائيين والأسرى منذ بدايات سبعينيات القرن الماضي، أمثال الفدائيين شامخ عز الدين،
وحمدان رأفت، ودلال المغربي ، والأسرى أنيس دولة، وبسام السائح، وكمال أبو وعر، وناصر
أبو حميد، والعشرات من الفدائيين الفلسطينيين والعرب.
ومن أجل تنفيذ هذه السياسة العنصرية واللاإنسانية أعد الاحتلال مقابر الأرقام وثلاجات الموتى
لاحتجاز جثامين الذين استشهدوا أثناء تنفيذهم عمليات فدائية ضد أهداف إسرائيلية، أو استشهدوا
في الأسر داخل سجون الاحتلال، أو من تم اغتيالهم على يد قوات الاحتلال.
دولة الاحتلال تحتفظ بأربع مقابر للأرقام يدفن فيها شهداء فلسطينيين وعرب وهي، مقبرة
الأرقام المجاورة لجسر "بنات يعقوب" وتقع في منطقة عسكرية، عند ملتقى الحدود الفلسطينية –
السورية – اللبنانية، غالبيتهم ممن سقطوا في حرب عام 1982، وما بعد ذلك. ومقبرة الأرقام
الواقعة في المنطقة العسكرية المغلقة بين مدينة أريحا وجسر دامية في الغور، وهي محاطة
بجدار، معلق فوقه لافتة كبيرة كتب عليها بالعبرية: "مقبرة لضحايا العدو". ومقبرة "ريفيديم"
وتقع في الغور. ومقبرة "شحيطة" وتقع في قرية وادي الحمام، شمال مدينة طبريا الواقعة بين
جبل أربيل وبحيرة طبريا، وغالبية الجثامين فيها لشهداء معارك منطقة الأغوار بين عامي
1965 – 1975.
احتجاز جثامين الشهداء يرقى لجريمة دولية وفقاً للقانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان،
والمعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، حيث تُلزم تلك الاتفاقيات الاحتلال بتسليم الجثامين
إلى ذويهم بشكل فوري، وذلك استناداً للمادة (17) من اتفاقية جنيف الأولى، والتي ألزمت
أطراف النزاع التحقق من أن الموتى قد دفنوا باحترام وطبقاً لشعائر دينهم وفي مقابر تُحترم،
وتُصان بشكل دائم. والمادة (120) من اتفاقية جنيف الثالثة، والمادة (16) من اتفاقية جنيف
الرابعة، تلك المواد التي تؤكد صراحة على ضرورة احترام كرامة المتوفين، ومراعاة طقوسهم
الدينية خلال عمليات الدفن عبر تسليمهم إلى ذويهم، وكذلك قرارات لجنة الأمم المتحدة لمناهضة
التعذيب . ومع ذلك ما زالت دولة الاحتلال تدير الظهر للقانون الدولي باحتجازها (389) جثماناً
لشهداء فلسطينيين وعرب، منهم (256) جثماناً محتجزين منذ عام 1967 فيما يعرف بمقابر
الأرقام، كما تحتجز (133) من الشباب والنساء والأطفال في ثلاجات الموتى منذ عام 2015،
من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس المحتلة.
لم تتوقف مطالبة الفلسطينيين لسلطات الاحتلال بتسليم جثامين الشهداء لذويهم، ففي العام 2010
نجحت الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، في استرداد جثمان الشهيد مشهور العاروري
بعد سنوات من النضال القانوني أمام المحاكم بعد احتجاز دام (34) عاماً في مقابر الأرقام، وفي
العام التالي تم استرداد جثمان الشهيد حافظ أبو زنط بعد (35) عاماً من الاحتجاز وقد كان رفيقاً
للشهيد العاروري، وفي عامي 2013 و2014، جرى تسليم جثامين بعض الشهداء الفلسطينيين
قبيل استئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية آنذاك.
وكجزء من سياساتها العنصرية تجاه الفلسطينيين، أوغلت دولة الاحتلال في انتهاكها للقانون
الدولي، عندما أصدرت محكمة الاحتلال العليا قراراً في أيلول 2019 يجيز للقائد العسكري
الإسرائيلي احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين، ودفنهم (مؤقتاً) لأغراض استعمالهم كأوراق
تفاوض مستقبلية، وذلك بحسب المادة 133 (3) لأنظمة الطوارئ الإسرائيلية. هذا القرار
يتناقض مع قرار سابق للمحكمة ذاتها صدر في شهر 12/ 2017 ينصّ على عدم صلاحية
2
احتجاز الجثامين. قرار المحكمة العليا الصادر في العام 2019 يؤكد من جديد أن السلطة
القضائية في دولة الاحتلال هي شريك للسلطة التنفيذية في جرائمها.
تهدف دولة الاحتلال من خلال استمرار اعتقال (الاحتفاظ) جثامين الشهداء في مقابرها وثلاجاتها
إلى تحقيق عددٍ من (المكاسب) السياسية، ليس أقلها ممارسة الضغط على الفلسطينيين بشكل عام،
وعلى أسر الشهداء بشكل خاص وأيضا محاولة منها لردع الفلسطينيين عن مقاومتها، واستخدام
الجثامين كورقة مساومة في أي عملية تبادل للأسرى بين المقاومة والاحتلال، هذا إلى جانب
تحقيق مكاسب على الأرض من خلال إدخال قضية الجثامين في ملف المفاوضات واعتمادها
كورقة مساومة وضغط على المفاوض الفلسطيني لإجباره على تقديم مزيدٍ من التنازلات. وأيضاً
هي شكل من أشكال العقوبات الجماعية، وانتقام من الشهداء بعد موتهم، ومعاقبة ذويهم وعائلاتهم
ومضاعفة آلامهم، بمزيد من القهر، وحرمان ذويهم من إكرامهم ودفنهم وفقاً للشريعة. أي أنه
شكل من أشكال التعذيب النفسي للأحياء.
الأمر لا يتوقف عند احتجاز جثامين الشهداء فحسب، بل هناك سرقة لأعضائهم ، وتتعرض
جثامينهم لتجارب طبية، سواء من قبل طلبة كليات الطب في جامعات الاحتلال، أو من قبل
الأطباء الجدد الذين يخدمون في صفوف جيش الاحتلال. وفي أحيان كثيرة يستخدم الاحتلال
جاثمين الشهداء (كبادرة حسن نية) اتجاهنا، وهذا يتطلب من الكل الفلسطيني عدم التعامل مع هذه
السياسة إلا بالرفض، وعدم قبول الفكرة من أساسها.
إزاء هذا الصلف الإسرائيلي والانتهاك الجسيم للقانون الدولي من قبل دولة الاحتلال، ولمواجهة
هذه الفاشية، والانحطاط الأخلاقي والقيمي والسلوك المشين الذي تمارسه دولة الاحتلال تجاه
جثامين الشهداء وذويهم ، يتطلب الأمر من الكل الفلسطيني خطة وطنية بحيث تبقى هذه القضية
حيّة ومثارة على مختلف المستويات الرسمية والشعبية والإعلامية محلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً.
أما على المستوى الحقوقي والقانون الدولي، فيجب أن يكون هذا الملف حاضراً على طاولة
مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس حقوق الإنسان، وكل المنظمات الدولية
الحكومية ذات الاختصاص والعلاقة. هذا إلى جانب دعوة الأطراف السامية المتعاقدة على
اتفاقيات جنيف، لتحمل مسؤولياتها تجاه انتهاك دولة الاحتلال للقانون الدولي الإنساني، كون دولة
الاحتلال طرفاً باتفاقيات جنيف.
يمكن للسلطة الوطنية الفلسطينية أن تلجأ إلى القضاء الدولي، وفي مقدمة ذلك محكمة العدل
الدولية في لاهاي، وذلك من أجل استصدار قرار استئناسي من المحكمة حول مدى قانونية
احتجاز جثامين الشهداء من قبل دولة الاحتلال، استناداً للقانون الدولي، هذا إلى جانب ملاحقة
العسكريين والسياسيين في دولة الاحتلال أمام القضاء الدولي، وأيضاً أمام القضاء الوطني كلما
سمح الأمر في الدول التي تسمح قوانينها بذلك.
ويمكن أيضاً لمؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية أن تثير هذا الموضوع أمام الائتلافات
والشبكات والاتحادات الحقوقية الدولية الغير حكومية، وذلك من أجل قيام تلك المنظمات الدولية
بإثارة الموضوع أمام حكوماتها وبرلماناتها للضغط على دولة الاحتلال.
بالتوازي مع هذا البدء بحملة إعلامية من خلال إثارة هذا الملف على مستوى الرأي العام العالمي
، سواء من خلال المؤتمرات والندوات ومعارض الصور والمقالات لبناء رأي عام دولي مساند
لنا، يقابله حملة دبلوماسية رسمية فلسطينية على المستوى الدولي والإقليمي والعربي.
وعلى صعيد أخر، ومن أجل أن تنجح المساعي الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، لا بد من أن
نفكر بصوت عالٍ في ضرورة البناء على انجازات الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، من
خلال مأسسة هذه الحملة عبر مؤسسة وطنية تتبع منظمة التحرير الفلسطينية وباستقلال مالي
وإداري، ومجلس إدارة من المؤسسات الرسمية والحقوقية والإعلامية والأكاديمية ، وبخطة
وإستراتيجية قوامها ليس فضح ممارسات الاحتلال وسياساته العنصرية فحسب ، بل في
(تجييش) العالم للضغط على الاحتلال لتسليم جثامين الشهداء لذويهم.
3
في الختام، الرحمة لروح المناضل سالم خلة أبو زياد، الذي قاد الحملة الوطنية لاسترداد جثامين
الشهداء باقتدار وبإنكار للذات حتى النفس الأخير له، والشكر والامتنان والتقدير العالي للزملاء
والزميلات في مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان لجهودهم الكبيرة التي يبذلوها ،
ولحملهم هذا الملف الوطني وبشكل طوعي بمهنية قل نظيرها.