سلمى جبران: قراءة تفاعليّة في رواية “رحلة إلى ذات امرأة” للكاتبة صباح بشير
سلمى جبران
تاريخ النشر: 19/03/23 | 8:33صدرت رواية “رحلة إلى ذات امرأة” للكاتبة صباح بشير في الأيّم القليلة الماضية عن دار الشّامل للنّشر والتوزيع في نابلس، وتقع في 237 صفحة من الحجم المتوسّط.
بطلة الرواية حنان تسرد أحداثها بضمير الأنا. لغتها جميلة وجمالها عفويّ ينبع من خلق جوّ يشكّل عامودًا فقريًّا للأحداث بتصوير مقنع، يفوق بمشاهِدِه فيلمًا رائقًا، يدمج بين الواقعي والمتخيَّل، فوصفت الناس الذاهبين إلى أعمالهم ومصالحهم ” شعرتُ بنبضهم ووقع خطاهم على الطريق” ص12. لغة الرواية لم تختبئ وراء الاستعارات ولم “تحرّر نفسها بالاستعارات”، بل كانت استعاراتها وكناياتها تلقائيّة طبيعيّة منسابة. أمّا فصل “نثار الذكريات” فإنّه يلفّ الرواية بشعاع يُغري القارئ بشعور، وكأنه يقوم بكتابة الرواية بنفسه.
أرض الرواية ومكانها مدينة القدس وضواحيها، وهذا ليس مؤشِّرًا ولا إثباتًا، على الإطلاق، بأنّ الرواية سيرة ذاتيّة، بل هو دفع هذه الأجواء القدسيّة إلى نصّ ونشرها وتعلية شأنها.
تركّز الكاتبة على التقاليد الاجتماعيّة بذكاء فائق حين ذكرت المثل الشعبي: “البنت الحرّة مثل الذهب في الصرّة” ص19، وبعدها ذكرَتْ القيود الاجتماعيّة والفروض القاسية الملقاة على كاهل البنت منذ ولادتها والتي تمنعها من التفكير، فأين الحريّة؟
أبرزت الرواية أيقونة الأمّ في شرقنا والتي تستخدم أداةً لاضطهاد وإسكات البنت، ص22-23 ” كانت أمّي تحتضنني في حبس أمومي يسعدني”، وارتسمَتْ على وجه أمّي علامات القائد الذي لا بدَّ أن يُطاع.”
شخصيّة غادة، الأخت المتسلّطة الحسودة، تقرّب السرد الروائي من الواقع وتحيل مسألة الأخوّة وقرابة الدم إلى أيقونة صدئة. وشخصيّة غادة أيضًا تمثّل النتائج النفسيّة الكارثيّة على البنت بسبب القيود والفروض المجتمعيّة التي تجعلها جارية، يُحسب لها مظهرُها فقط، وتُمنع من التفكير الحرّ.
مشاهد الحقد والعنف والظلم الذي يمارسه “الغرباء”، من ناحية رسّخت حب الأرض في نفوس الناس، ومن الناحية الأخرى لم تترك مجالًا ولا حيّزًا للتفكير الجماعي والفردي الحرّ. إن التداخُل بين المشاهد الاجتماعيّة والسياسيّة تباعًا وأحيانًا في نفس الفصل، زاد الطين بلّة، وجعل التقاليد والفروض أقسى وحجّرها في مكانها.
ص42-43 برزت صورة الأمّ المسيطرة على أولادها وعلى زوجها البسيط الهادئ وقليل الحركة، فأعادت إلى ذهني قضيّة “العقليّة المضطهَدة” التي بحثها عالِم التربية باولو فريري وملخَّصُها أنَّ المضطَهَد يضطَهِد.
بعد انصراف أهل عمر عندما زاروهم لخطبتها، قالت حنان ص44 “نعم انصرفوا، ولكنَّ وجوههم بقيت تلوح أمامي، بثرثرتهم وأفواههم التي أراها تتحرّك، ولكن دونما صوت يُسمع، رأيتُهُم في سقف الغرفة وأنا مستلقية على السرير أحاول يائسة أن أغمض عينيّ وأخلد للنوم، فأدورُ يمينًا ويسارًا لأجدهم على جدران غرفتي، وجوهًا ثرثارة تلتفّ حولي”. هذا المشهد درامي أليچوري ينفع نصبًا تذكاريًّا للحرّيّة الميّتة.
حنان تكتشف التناقضات الداخليّة عندها، ولكن بعد فوات الأوان، وهذا شأن من ينقصه الوعي الذاتي وحرّيّة واستقلاليّة القرار والقدرة على التفكير في كلّ نواحي حياته. والجريمة السياسيّة الأقسى هي إضافة طبقة إسمنتيّة على سطح التقاليد، وتمَّ قبولها لأنّ الجرائم السياسيّة نفّذها الغرباء. ص51 تحاول الجارة أمّ إبراهيم التغلّب على عسف وعنف الجمود العقائدي الاجتماعي، فهي” من تلك الفئة الصلبة والمقاومة، والتي دون كفاحها هي وغيرها سيسقط حصن المجتمع النظيف الآمن، ولكن… إلى أي حدّ ستصمد وكلّ البنادق حولها موجّهة إليها” ص51.
لغة الرواية حيّة، جمادها ينطق بأبعد من معانيها:” الأماكن أيضًا كالبشر لها أحضانها التي تهبنا الكثير من الحميميّة والدفء والحنين، إنّها لغة خاصّة لا يفهمها إلا القليل”. ص58 نفهم أن عمر وأمثاله من الرجال لا يفهمون الحميميّة التي تهبها الأماكن! ص63 “صديقتي ماري تحمل فكرًا واعيًا وعقلًا مستنيرًا” والإيحاء واضح.
إنّ الفروض الاجتماعيّة العقائديّة التي تربّت عليها حنان، ولم تستطع أن ترفضها أو تقاومها تغذّت من اضطهاد الغرباء كحجّة، ولو استطاعت أن ترفض وتقوى أمام هذا الطوفان لرأينا معظم النساء في نواحينا وبيئتنا القريبة والبعيدة، تنعم بالحرّيّة وبالروح المتمرّدة وبالفكر الواعي والعقل المستنير. وهذا ما جعل الجاهل، بدعم كلّ مرافق بيئته العائليّة والعقائديّة، يهزمها وينالها وينال منها دون ذرّة حب وعطف تجاهها. هل يقف سلاح المعرفة والثقافة أمام بنيان التقاليد والفروض التي بنتها قرون من عدم التفكير؟ بنيان التقاليد مبني على جبل يدحرج حجارته ويطلق ينابيعه في كلّ اتجاه؛ لكي يضرب المرأة ويجرفها ولا يبالي بوجودها، في حين أنّها بحاجة ماسّة لعائلتها ومجتمعها، فكيف لنا أن نلوم الضحيّة التي غرقت بهذه الينابيع وفقدَتْ القدرة على التنفُّس أمام التقاليد والعادات والفروض والعقائد ا،لتي تتربّع على عرش مجتمعها.
تسير الرواية في أربعة مسالك متوازية: حياة المرأة الفرد – حياة العائلة – حياة المجتمع وتقاليده وفروضه – والوضع السياسي العام في البلد والظلم والاضطهاد. هذه المسالك الأربعة تشكّل شارعًا تسير فيه الرواية، ويسير معها القارئ متعرّفًا على كلّ محيط الشارع.
وحياة حنان تحيطها أربع دوائر: الذاتيّة – العائليّة – التقاليد وفروضها الاجتماعيّة – والبلد والظلم والاضطهاد الواقع عليه. الموجات الديناميكيّة في الرواية تجعل منها مأساة وملهاة في حركة دائمة دائريّة وخطّيّة متزامنة. هذه اللولبيّة في دوائر انتماء حنان تتدفّق إلى الأمام في المسالك الأربعة المتوازية. والكاتبة صباح بشير نجحت ببثّ ضوء كاشف على داخليّة ذات المرأة الفلسطينيّة رغم الظروف المركّبة التي تعيشها، الذاتيّة والعائليّة والتقاليد والبلد والظلم والاضطهاد الواقع عليه، كلّ هذه المسارات تفاعلَتْ بطبيعيّة مذهلة. وكانت هذه التفاعلات تتقاطع وتتوازى برقصة غجريّة على الحبْل، وتنثر سحرها على اللغة والمشاعر والحميميّة التي تتجلّى في أعماق النفس، والكاتبة جعلَتْ تجلّيها ظاهرًا ساطعًا كالشمس. فكانت نهاية تراجيديّة دراميّة صاخبة التجلّيات، نهاية لا تشبه النهايات السعيدة ولا تشبه النهايات التعيسة وتدعو القارئ/ة إلى غزْل نهاية أخرى ودراما أخرى، تغلق الدائرة وحياة أخرى يكمن جمالها في معاناتها ويسطع “شروقها” من موتها
مباركة لنا ولك يا صباح بشير هذه الرواية وهذه التجلّيات الرائعة التي تليق بالنفس البشريّة الحرّة.