كي لا ننسى أسرى الحرية الفلسطينيين
جواد بولس
تاريخ النشر: 24/03/23 | 10:20علّق الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال الاسرائيلي ، مساء يوم الاربعاء الفائت، اضرابهم عن الطعام، وذلك إثر وقف الاجراءات العقابية والتعسفية التي كان قد بدأ المسؤولون في “سلطة مصلحة السجون الاسرائيلية” باتخاذها في حقهم، وتطبيقها وفق أوامر وزير ألأمن القومي في حكومة بنيامين نتنياهو الوزير ايتمار بن جفير.
لقد كانت مسألة الصدام بين الحركة الفلسطينية الأسيرة وادارة مصلحة السجون أمرًا متوقعًا؛ لا سيما بعد أن أعلن الوزير بن جفير ، منذ اليوم الأول لتوليه منصب وزير الأمن القومي، وهي الوزارة المسؤولة قانونيًا عن سلطة مصلحة السجون في اسرائيل، أنه سيعمل فورًا على تغيير ظروف معيشة الأسرى الفلسطينيين داخل المعتقلات، وأنه لن يتركهم يعيشون بنفس الظروف والشروط التي “ينعمون” بها على حساب الدولة. ووفقًا لأوامر بن جفير، بدأت سجون الاحتلال بتنفيذ سياسة قمع استفزازية جديدة تمثلت باتخاذ مجموعة من الخطوات القمعية مثل تحكم ادارات السجون بكمية المياه التي يستخدمها الأسرى وتقليص مدة الاستحمام بحيث يسمح لجميع الأسرى الاستحمام في ساعة محددة من ساعات النهار؛ حتى انهم وضعوا الاقفال على الحمامات المخصصة للاستحمام في بعض اقسام بعض السجون. ومن ضمن الاجراءات القمعية لوحظت عملية تزويد الأسرى بخبز وبطعام رديئين، ومضاعفة عمليات الاقتحام والتفتيش التي كانت تنفذ أحيانًا بمصاحبة الكلاب البوليسية وبالقاء القنابل الصوتية.
والى جانب الخطوات القمعية بحق الأسرى، شرعت الحكومة الاسرائيلية بسن مجموعة من القوانين التي تستهدف المساس بحقوق الاسرى الاساسية، مثل قانون حرمانهم من تلقي العلاج الطبي واجراء العمليات الطبية داخل السجون، وكذلك مصادقة اللجنة الوزارية التشريعية داخل الحكومة على مقترح قانون يقضي باعدام الأسرى الفلسطينيين الذين نفذوا عمليات مقاومة ضد الاحتلال خاصة تلك العمليات التي انتهت بالقتل.
ولّدت سياسة القمع الاسرائيلية الجديدة لدى الأسرى قناعة بأن حكومة اسرائيل الحالية، وعلى خلاف السياسات في الماضي، عازمة على شن حرب شاملة ضد الحركة الفلسطينية الاسيرة، وهي مدفوعة، هذه المرّة، برؤية أيديولوجية عنصرية واضحة ومغايرة عن جميع تجارب الحركة السابقة؛ فاليوم تستهدف هذه الحكومة العنصرية القضاء على جميع منجزات الاسرى الفلسطينيين وتقويض قواعد الصراع بين الأسير وسجّانه والتي كانت تحكمها ضرورات محافظة جميع الأطراف على حالة “الوضع القائم” . فما اعلن عنه بن جفير لا يمكن فهمه الا كقرار بهدم جميع التفاهمات السائدة داخل السجون منذ سنوات طويلة، وتغيير مكانة أسير الحرية الفلسطيني، من مقاوم ضد الاحتلال يتوجب على اسرائيل، كدولة احتلال، ان تكفل وتؤمن له جميع الحقوق الاساسية وفي طليعتها حقه بالعيش بكرامة وفي ظروف انسانية كاملة، الى مجرد سجين/عدو يحق لسلطات السجن قمعه وحرمانه من العيش في ظروف انسانية. لقد استوعبت الحركة الاسيرة حقيقة ما يستهدفه بن جفير وحكومته، فهو لا يستهدف المس بحقوق الأسرى الحياتية المكتسبة خلال معارك نضالية طويلة خاضتها أفواج المناضلين الفلسطينيين الأوائل ولغاية أيامنا هذه، وحسب، بل إن قصده الاساسي يتمثل بضرب كيانية الحركة الاسيرة الفلسطينية والغاء شخصيتها الجامعة وما يعنيه هذا الوجود داخل السجون وخارجها؛ فهي عمليًا الجسم الفلسطيني الأبرز الذي حافظ دائمًا على عوامل معادلة الصراع الواضحة التي أبقت الاحتلال دائمًا كعنوان للتناقض الأساسي وللصراع الوجودي الفلسطيني، وقد حافظت على ذلك حتى عندما التبست المعادلات خارج السجون وداخل أقاليم الوطن.
اكتب مقالتي قبل نشر جميع تفاصيل آخر اللقاءات التي تمت بين قيادات الاضراب والمسؤولين في مصلحة سجون الاحتلال؛ فوفقًا لبيان مقتضب صدر في ساعة متأخرة من ليلة الاربعاء اعلن عن تعليق الاضراب الذي كان مقررا أن تخوضه الحركة الاسيرة مع بداية حلول شهر رمضان. تبقى للتفاصيل أهميتها طبعًا، لكنني أستطيع اليوم أن أهنئ قيادات الحركة الأسيرة على ما حققته لغاية الآن ؛ ففي وحدتهم التي عبروا عنها بجدية وبصرامة واضحتين سجّلوا نصرًا على سجانهم، مع انني أعرف طبعًا أن الأمور تبقى دائمًا محكومة بخواتيمها؛ اذ لا يمكن فهم تراجع ادارة مصلحة سجون الاحتلال عن مواقفها العدائية المعلنة،حتى لو كان ذلك تراجعًا جزئيا أو مؤقتًا، بعيدًا عن موقف الحركة الاسيرة التي تصرف قادتها، هذا المرة، بحكمة نضالية وحدوية صارمة. فالطرف الاسرائيلي قرأ من دون شك مضمون “ميثاق وعهد قيادة اضراب الحرية والشهادة ” الذي وقعة، في الحادي والعشرين من هذا الشهر، كل من الأسير عمار مرضي ممثلا عن حركة التحرير الوطني الفلسطيني، والاسير سلامة قطاوي ممثلا عن حركة المقاومة الاسلامية، والاسير زيد بسيسي ممثلا عن حركة الجهاد الاسلامي، والاسير وليد حناتشة ممثلا عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والاسير وجدي جودة ممثلا عن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين؛ والأسير باسم خندقجي عن حزب الشعب الفلسطيني، وفيه يعلون باسم جميع الأسرى “نحن الموقعين أدناه ممثلي الحركة الاسيرة، والمستأمنين على قيادة اضراب الحرية او الشهادة، نعلن أمام الله وضمائرنا وشعبنا والتاريخ اننا نخوض هذه المعركة على قلب رجل واحد ، وسنكون فيها صفاً واحداً وجسماً موحّداً ، وأن يكون وقف هذه المعركة أو تعليقها بقرار جماعي دون تفرد أو انسحاب، وألا يصدر خلال هذه المعركة أي تصرف أو اجراء فردي أو فئوي دون قرار جماعي حسب الأصول، وأن نبذل غاية الجهد لانجاح هذه المعركة بوقف الاجراءات المستهدفة لنا، وتحقيق مطالبنا المتفق عليها من قيادة الاضراب. وعلى هذا نعطي عهدنا وغليظ ميثاقنا ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ويتحمل جزاء نكثه”. فمن يقرأ هذا الاصرار، ويسمع عن شروع هؤلاء القادة، ومعهم القادة أحمد سعدات ومروان البرغوثي وغيرهم، يعرف أن الحركة الأسيرة تعالت عن انقساماتها الداخلية وقررت ان تستعيد مجدها ومكانتها كبوصلة في زمن التيه وكضابطة لايقاعات النبض الفلسطيني الوطني خاصة عندما يمرض الجسد وتضعف مجساته الأخرى. لقد كان أول من قرأ أهمية هذا الاعلان ومآلاته المحتملة المسؤلون في ادارة مصلحة سجون الاحتلال.
وكيلا يكون كلامي مجرد أمنيات عابرة، أؤكد على أن أبناء الحركة الأسيرة القابعين اليوم وراء قضبان القمع والقهر، هم أولاد وأحفاد لمناضلين سبقوهم في بناء صروح العزة والكرامة، وقد فعلوا ذلك بالنضال والتضحيات والاضرابات التي حصدت الأرواح والأسى. ففي العام 1970 استشهد الأسير عبدالقادر أبو الفحم في أضراب سجن “عسقلان” وهو أول شهداء الاضراب عن الطعام في سجون الاحتلال. وتلاه اضراب عام 1976 في عسقلان ايضًا حيث استمر لمدة 45 يومًا. ثم كان اضراب سجن نفحة في عام 1980 وفيه استشهد الأسيران راسم حلاوة وعلي الجعفري والتحق بهما الأسيران أنيس دولة واسحق مراغة. ثم عرف سجن “جنيد” اضرابين في عامي 1984 وعام 1987 حيث شارك فيه ثلاثة آلاف اسير ودام لمدة عشرين يومًا. أما في العام 1992 فقد نفذ الأسرى اضرابًا عرف باسم “ام المعارك”، شارك فيه نحو سبعة آلاف أسير واستمر لمدة 19 يوما واستشهد خلاله الأسير حسين عبيدات. لن استرسل برصد سلسلة الاضرابات التي خاضها الأسرى الفلسطينيون، وهي حقًا كثيرة، وشكّلت علامات فارقة سجلها هؤلاء المناضلون على صفحات التاريخ وخلال مسيرة كفاحهم في سبيل الذود عن الكرامة الفلسطينية وعن مكانة الحركة الأسيرة بكونها رأس حربة مغروزة في صدر سياسات القمع والقهر الاسرائيلية، وراية متقدمة في ميادين الاشتباك اليومي مع مصلحة سجون الاحتلال بصفتها ابرز وكالاته الناشطة.
لا أعرف كيف سيمضي الأسرى بعد هذه المحطة وكيف سيديرون مواجهاتهم القادمة مع سياسات الحكومة الاسرائيلية التي على الأرجح ألا تتراجع عن محاولاتها للنيل من مكانة الحركة الاسيرة وتحييد دورها وقوتها في التأثير على الحالة الفلسطينية العامة خاصة في هذه الأزمان العصيبة التي تعيش فيها فلسطين حالات من التشظي السياسي والأزمتين الاجتماعية والاقتصادية. والى ان نقف على عتبة المعركة القادمة أتوقع أن أفراد قيادات الحركة الاسيرة، الذين أعرفهم حق معرفة، ادركوا مجددا معنى توحدهم وراء الموقف الواحد وفي خندق كفاحي واحد ؛ فهم في النهاية من سلالة قوم كانوا حتى اذا اختلفوا حول الرؤية والرؤيا، يبقوا موحدين في وجه عدوّهم المؤكد وهو الاحتلال الاسرائيلي وجميع افرازاته البغيضة؛ فليس كالسجون ميادين حقيقية تستصرخ فرسانها، وتصرخ: هذا أوان الشدّ فهيا يا همم ، وليس أولى بمن ضحوا بأغلى ما عندهم أن يعيدوا عربات المجد الفلسطيني الى حلباتها الصحيحة.