بلدنا والشيطان.!
يوسف جمّال - عرعرة
تاريخ النشر: 24/03/23 | 18:03عاشت بلدنا في سلام ..
ولم يستطع الشيطان , أن يجد له منفذاً الى قلوب أهلها ..
وقف أهل بلدنا في وجهه , وأجبروه أن يعرف حدوده , لكنَّه كان دائماً يحاول يبحث عن نقاط ضعف فيها , كيّ ينفذ الى نفوسهم. كان يجوب حاراتها , باحثاً عن أشخاص يمكنه إقناعهم ببيع أراضيهم وأرواحهم له, حاول مع الكثيرين منهم .. استعمل كلَّ وسائل الإغراء , فلم يجد لنفوسهم سبيلا ..
ألى أن تولّى حكمها مختار فاسد استطاع أن ينشر الفساد فيها , ويشبع أطماعه في الأرض والزعامة , ففرّق الناس عن بعضهم , وغرقت البلد في نزاعات أبعدت الابن عن أبيه والأخ عن أخيه والجار عن جاره , وانعدمت روح التعاوان والشعور بوحدة المصير .
لاحظ الشيطان أن الفرصة التي كان ينتظرها قد حانت , فأسرع ليستخدم هذه المنافذ التي نتجت عن الخلافات بينهم , كي يحقِّق مآربه وأطماعه .
وكانت ضحيّته الأولى قاسم الحسن ..
كان يعرف أنه مرَّ بثلاث سنين عجاف ..
في السنة الأولى – أصاب البلد مَحْل أتى على مزروعتها .. فجفَّ محصول قاسم , ووصلت عائلته الى الجوع .
فأتاه الشيطان يحمل أكياساً من الغلال – القمح والعدس والفول ..
كان يلبس عباءةً بيضاء لامعة , “تنبسط” على وجهه الواسع لحيّة بيضاء , ويحمل في يده مسبحة حباتها بيضاء كبيرة .
وماذا تريد منّي مقابل هذه الحبوب .!؟ سأله قاسم مستغرباً.
أريد منك أن تتنازل لي عن أرضك مقابلها ! ردَّ الشيطان بلهجة الواثق من النتيجة.
لن أسلِّم أرضي لك حتى لو مُتنا , أنا وعائلتي , جوعاَ .. صاح به قاسم رافضاَ ..
خذ بضاعتك واخرج من هنا.! أكمل قاسم والشرر يتطاير من عينيه.
والجوع .!؟ جئت مغيثاً لك . ! ضغط الشيطان على مواطن ألمه.
سأتكفَّل به وحدي ..لا أريد مساعدتك .! لا أريد مساعدة شيطان رجيم مثلك .! صرخ به قاسم , والغضب المُتحدّي يكاد يتفجَّر من عينيه ..
فغادر الشيطان بيت قاسم مطروداً مخزيّاً .
وفي السنة الثانية – نفقت فرس قاسم وحيوانات مزرعته اللبونة , بسبب مرض حيواني داهم البلد .. فزادت معاناته واشتد فقره , ووصلت عائلته حافة الجوع .
فعاد الشيطان ..
كان يلبس عباءة سوداء , ويعتمر عمامة خضراء , وترك للحيته العنان كي تتسع وتطول ..
دخل البيت وهو يجرّ وراءه عنزتين , وعلى كتفه صفيحة مملوءة بالجبن , وفي يده جرة من اللبن .
وعندما رآه قاسم صاح به :
ما الذي أتى بك الى بيتي !؟ ألم أطردك شرَّ طردا !. صرخ به .
جئتك مشفقاً , بعد أن رأيت حالتك التي ,التي لا تسرُّ الصديق ولا تغيظ العدو .. أجاب الشيطان متصنِّعاَ الرحمة والشفقة .
ولكنّي لم أطلب مساعدتك .! ردّ عليه قاسم بصوت بدأ يشتعل بالغليان .
جئت لواجب : “حقِّ الجار على الجار .!” .استمرَّ الشيطان “بالعزف” على وتر الشفقة .
لن أدخل الشرَّ الى بيتي .! عُد الى بيتك وابعد شرّك عنيّ .! صرخ به قاسم .
هل أصبحت عندك المعونة شرَّاً .!؟. ردَّ الشيطان لائماً بخبث .
أنت لا تعمل شيئاً إلا من ورائه شرٌّ ! زعق قاسم بغضب شديد ..
جئتك مجدَداً عرضي لك في شرائي لأرضك.!؟
قال الشيطان بلهجة من يحمل في جعبته الخلاص .
وماذا ستفعل بالأرض , بعد أن تستولي عليها .!؟ سأل قاسم محاولاً الوصول الى قرار ما يدبره من شرٍّ .
سأقيم بها معبداَ لأتباعي , يعبدون فيه النار ويهللّون اسمي وينشرون دعوتي ..ردّ الشيطان واضعاَ على وجهه قناعاً من الوقار.
فصرخ به قاسم بصوت كانفجار بركان :
إخرج ..! إخرج من بيتي .! أيها الشيطان المارق .. لن أتنازل عن أرضي ما دمت حيّاَ , ولن يكون للشياطين أمثالك موطئ قدم فيها.
“فركب” الشيطان رجليه , وغادر بيت قاسم مسرعاً ..
وفي السنة الثالثة – ماتت زوجة قاسم أم أولاده , وتركته وحيداً يواجه الحياة القاسية مع أبنائهما.
فداهمه الحزن واليأس , وتحولت حياته الى خراب ..
كان الشيطان له بالمرصاد .. يراقبه ويحصي مصائبه ..
ويفكّر في خطَّة محكمة , تجعله يقع في شراكه ..
فأتاه باكياً يلبس عباءة سوداء وعمامة لونها كالفحم..
كان يجوح وينوح ويلطم ..
ولما دخل دار قاسم , صاح كيّ يقطع عليه محاولة طرده :
جئت معزِّياً ..حزنت على موت أم أولادك .. وأخلاقك لا تسمح لك بطردي من بيت العزاء !
وبعد أن شرب قهوته , وقبل أن يغادر بيت قاسم , همس في أذنه :
أنا مازلت عند عرضي.. ولكنني سأسمح لك ولأولادك أن تبقوا في البيت , بشرط أن تعبدوا النار وتهللّون باسمي .
“معنى ذلك أنك تريد أرضي , كي تنفذ الى روحي .!” تمتم قاسم في سرِّه واليأس يقطِّع قلبه.
فكِّر على مهلك .. ولا تتسرَّع بالجواب ! ردَّ الشيطان وهو يغادر بيت قاسم, والأمل يحدوه بالاستيلاء على روحه وأرضه .
*************
بعد أيام عاد الشيطان , ومعه كيس من الخيش مليئاً بالذهب .
وعند دخوله كبَّه في ساحة دار قاسم , فعلى رنين قطع الذهب الى الأعالي , وناغمت ألوانه العسجدية إشعاعات الشمس .
كلُّه لك يا قاسم ..! قال الشيطان , بلهجة تشجِّع قاسم وتغريه على قبول العرض .
نظر قاسم مأخوذاً باتجاه كومة الذهب , فكاد يُغمى عليه .
مقابل أرضك.! أكمل الشيطان مستغلّاً انبهاره .
*************
أخذ قاسم كيس الذهب , ورجع الى بيته .
كان تَعِباً يغالبه سلطان النوم .. فرش فراش نومه ..وما أن وضع رأسه على وسادته , وحاول أن يغمض عينيه , حتى هاجمته جحافل من اللطمات تضرب رأسه ..
كيف رمى نفسه في جهنّم الشيطان وباعه الأرض!؟ الأرض التي فيها يسكن , ومنها يأكل ويشرب وعليها ينام .!
كيف .!؟ زعق وهو يلطم وجهه براحتيه بكلِّ قوته, ويضرب برأسه بالحيط الذي ينام بجانبه .
و ظهر أبوه في المنام يعاتبه , وهو يبكي مرَّ البكاء : كيف- يا بنيَّ – طاوَعتك نفسُك , أن تبيع أرض آبائك وأجدادك !؟
فقضى ليلته يتقلّب في جحيم نار الشيطان , وأثقال من غضب أبيه ولعنات أجداده تنصبُّ على رأسه .
***********
في اليوم التالي , قام من فراشه , خرج من غرفته , فاصطدمت عيناه بعمال الشيطان يعملون في أرضه , ليحضِّروها لإقامة معبد للشيطان ..
فصاح بهم قاسم , طالباً منهم الخروج من الأرض ..
ولكنك بعتها لسيِّدنا الشيطان .! ردَّ كبيرهم .
فأجابهم قاسم :
لقد عدلت عن بيعها . وسأردَّ له ماله حالاً , ما زال في كيسه .!
************
كلّ محاولات قاسم لاسترداد أرضه أصدمت برفض شديد من الشيطان .. وانتشرت قصته في بلده والبلاد المجاورة ..
عندما شعر أهل البلد بالخطر الداهم , وأن كل واحد منهم سيأتي دوره ليكون ضحيّة لشرِّ الشيطان , اجتمعوا في بيت المختار , ليبحثوا أمر الشيطان وظلمه في سلب أراضي أهل البلد, مستغلاً فقرهم ومصائبهم ..
تداولوا وبحثوا فلم يتوصّلوا الى حلٍ مشترك يخلصِّهم منه , حيث لا يستطيع الفرد منهم مجابهته لوحده , فهو قوى ولديه أسلحة شيطانية .. فهو وسواس خنّاس , يمتلك الذهب والفضة والمغريات ,التي تجعله يتسلل الى عقول الناس , ويوقعهم في شراكه ويستولي على أرضهم ..
وبينما هم غارقون في مداولات طويلة لم تثمر عن حلًّ يبعد الشيطان شرَّ الشيطان عنهم , وإذا بشاب يقف في وسط المجتمعين ويصيح : ” أنا لديَّ الحل !” .. أنا لديَّ الحلّ الذي سيبعد الشيطان عن البلد ! .
اتجهت جميع أنظارهم نحوه , متعطِّشة لسماع لما سيقترحه هذا الشاب ..
“الحل في النور ! كما تعلمون أن الشيطان لا يستطيع العيش في الظلام , فإذا هاجمته الضوء هرب من أمامه , وإذا لم يهرب قتله !” .أستمر الشاب في عرض أفكاره أمام المجتمعين .
كيف .!؟
انطلق صوت المختار ..
يحمل كلُّ واحد من مشعلة , ونطوف في جميع طرقات البلد , فيهرب الشيطان من نورها وإن لم يهرب احترق بنارها , فنتخلّص منه الى الأبد .
وكان قاسم أوّل من غادر مكان اجتماع أهل البلد ..
أسرع الى بيته , تعاون مع أهل بيته زوجته وأولاده في صنع مشاعلهم ..
وعندما خرجوا من بيتهم يحملونها مشتعلة ومضيئة , توحّدوا مع أهل البلد الذين كانوا يملأون الطرقات والساحات وأسطح المنازل يرفعون مشاعلهم .
وحدتهم أنوار المشاعل ..
كانت مشاعلهم تخترق الظلام و تمزِّقه , وتحوِّل نسيجيه الى قطعة مملوءة بالثقوب ..وشيئاً فشيئاً عليه وحولته الى قطعة واحدة من نور ..
ومنذ ذلك اليوم لم يدخل الشيطان الى بلدنا .. غادرها ولم يعد .