نظرة في كتاب “وقفات مع الشعر الفلسطيني” للأسير كميل أبو حنيش
حسن عبادي/ حيفا
تاريخ النشر: 03/04/23 | 12:04أعي أن نقد الشعر، كما هو الحال في ترجمته، من أصعب مواضيع النقد لما يحويه من أحاسيس ومشاعر وذوق ولهذا نجد أن أفضل النقد للشعر قدّمه شعراء ذوّاقون للشعر وموسيقاه، وكما قال أكتافيو باث (الشاعر والأديب المكسيكي الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1990): “منذ البدء يعتبر الشعر هو الأقلّ ملاءمة للترجمة، وما يثير الدهشة أن أفضل الشعر المترجم قام بترجمته شعراء كبار”، وكذلك الحال في النقد.
قرأت كتاب “وقفات مع الشعر الفلسطيني” للأسير الكاتب كميل أبو حنيش (دراسة، 283 صفحة، تحرير: فراس حج محمد، تصميم وإخراج فني: فاطمة حسين، منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية، صدر له: “خبر عاجل”، و”بشائر”، و”وجع بلا قرار”، و”الكبسولة”، و”مريم/مريام”، و”الجهة السابعة”، و”جدليّة الزّمان والمكان في الشّعر العربيّ “، و”إسرائيل دولة بلا هوية” مع د. عقل صلاح، وغيرها).
كتب الناقد الفلسطيني فراس حج محمد في مقدّمة الكتاب: “تحدث عن شعراء فلسطينيين وشاعرات فلسطينيات، ولم يكن معنيا سوى بالنص وجمالياته من خلال ما كان يصله إلى المعتقل من كتب شعرية ودواوين سواء من خلال هدايا الكتّاب له شخصيا، أو من خلال ما يوصله إياه صديقنا المشترك وصديق الأسرى الأستاذ المحامي حسن عبادي ضمن مشروعه العبقري “لكل أسير كتاب” هذا المشروع الذي عرّف بجيل كامل من الكتاب الشباب إلى أبناء الحركة الأسيرة، وها هو ابن بارّ من أبنائها المقاومين يعرّفون القراء على هذا الجيل وأصوات منه جديرة أن تدرس وأن يقرأ شعرها وأدبها ورواياتها. وإنه لمحفزّ كبير للكتاب والشعراء أن تدخل كتبهم إلى داخل المعتقلات، وإنه لشرف أكبر أن يهتم الكتاب الأسرى بها فيتناولونها بالقراءة والدراسة والنشر عنها. إنهم، وهم الأسرى القابعون خلف القضبان، يتمردون على كل ذلك فيفرّون مع الشعر ويحلقون ويوصلون أصوات هذا الجيل الذي كثيرا ما عبر أبناؤه عن تواضع الاهتمام النقدي بما يكتبون، فيأتي الاهتمام من داخل المعتقلات. إنها مفارقة ذات دلالة قوية، ولعلها محرجة لنا نحن الطلقاء خارج الأسوار الحادة.”
كميل قارئ نهم ومثقف استثنائي، يقرأ ويكتب من خلف القضبان منذ عام 2003، يكتب الشعر والرواية والنقد والمقالة رغم أنف السجان وقيوده.
تناول في دراسته ديوان “الرساؤلات” للشاعر الجليلي أسامة ملحم بقراءة تفكيكيّة فوجد أشعاره منحازة للإنسان وقضاياه العادلة، رسائل وتساؤلات ثوريّة تحثّ على الثورة والمقاومة والكف عن الاستكانة والخنوع.
تناول كذلك ديوان “أُدَموِزُكِ وتَتعشتَرين!” للشاعرة آمال عواد رضوان فوجده همس الأنوثة المتوهّجة، كتب عنه بحرفيّة، مطلّعاً على أساطير الغابرين؛ غياب عشتار – المرأة في العالم الأسفل (انقلاب الطبيعة والتاريخ)، العبادة وتأليه الأنثى، انبعاث عشتار – تألق الحُب، خصب الطبيعة – الأنثى، وشمس المرأة، فوجدها خضراء لا تعرف الجفاف، معزوفة تعزف أنشودة الحياة التي تمثلها عشتار الساطعة كالشمس إذا جرى عشقها و”إذا جرى دموزتها لكي تتعشتر فإنها ستمنح الحُب والدفء والخير والعطاء والأمان”.
قرأ كميل ديوان “شامة بيضاء” للشاعرة إيمان زيّاد مركّزًا على رمزية الغيوم فوجد نصوصها متوهّجة وماطرة تحمل أعمالًا وأفراحًا وتنثرها كالدرر في أرض القصيد.. وتستدعي غيومها البيضاء لتمطر فوق الأرض شعرًا. وجد في أنوثة الغيم أنوثة الكون وفي غيم الأنوثة – الحب والسكينة، وافتقد غياب الرجل الذي وجده هاجسًا للشاعرة.
تناول كميل ديواني الشاعرة شذى أبو حنيش، “حبّ يحوم كبعوضة مُزعجة” و”أغوتني الهاوية” ووجدها تأملات وأحزان وروح التمرد التي تفوح من بين نصوصها الشعريّة، تطرّق إلى التأملات الوجوديّة فيها، والتشاؤم والحزن، والشرفات والنوافذ المُطِلة على العدم والمعنى. وصل إلى نتيجة كونها نصوص جميلة وشفافة وحالمة ولم تستجدِ الرمزية والتجريد في نظمها واستخدمت البساطة والعفويّة لتعكس روح التمرد والثورة والغضب في طريقها الوعرة لتحقيق إنسانيتها الكاملة.
درس كميل الكاتبة عفاف خلف عبر ديوانها “شغف الأيائل” من ألفها ليائها، ثنائية الماء والنار ومحاورتها الأنوثة الكونيّة مع الذكورة الكونية، تناول رمزيّة الماء في نصوصها ودلالة الخصوبة، رمزية النار ودلالة الشغف والتوق والظمأ ومنها تحوّل إلى جدليّة العلاقة بينهما بين موت وحياة ووجدها نصوصًا مشتعلة تسعى للارتواء رغم التكرار والاستعارات والاقتباسات.
وجد الكاتب بذورًا واعدة في رحلة تطوّر في ديوان “وأقطفُ صمتَ الترابِ الجميل” للشاعرة فاتن مصاروة، نصوص تمتاز بالإنسانية والشفافية، فيها رسالة الوطن وهوية التراب، وفيها الأحزان الذاتية والوطنيّة.
كانت للكاتب وقفة مع ثلاث دواوين شعريّة للشاعر فراس حج محمد؛ “وأنت وحدك أغنية”، “مزاج غزة العاصف” و”ما يشبه الرثاء”، وجده مخلصًا وفيا وحارا وتفوح من بين نصوصه مئات المفردات الدالة على الحب كقيمة إنسانية أصيلة وثابتة يتعيّن على المرء أن يصونها ويحفظها من التلوّث والتشوّه والانتقاص، يؤكد على قيمة الحب ويؤمن بها فيصير الحب معنى الحياة الإنسانية وسر الإجابة على عبثية الحياة. اتفقَ معه أنّ القضيّة الفلسطينيّة والموقف المقاوم بات مزعجًا للعرب المتخاذلين لأنه يكشف عورة عجزهم وتخاذلهم ويفضح تآمرهم، والفلسطيني في صموده بذات الوقت يرفع رأس أمته وينكس رأس قادتها المتواطئين. يتناول كذلك وجوديّة الشاعر ويجده متأمّلًا الحياة والموت ومعنى الوجود ويصل إلى أن متاهته الذاتية تنطلق من تأملاته في الوجود وليس مبعثها مشاعر داخلية محضة ليخاطب أناه وذاته الأخرى لإجراء حوار داخلي.
لكميل وقفة مغايرة، تأملات ومواقف وثنائية الوطن والمنفى في ديوان “مديح الوقت” للشاعر الكرمليّ مرزوق الحلبي، فوجد نصوصه متنوعة وعميقة وفسيفسائية الألوان في الصورة الفنية، متوترة وهادئة وغاضبة وجريئة وقاتمة ومتفائلة تنضح وضوحًا نتاج مواقفه الناضجة والمكتملة، ابنة زمانها ومكانها ومنسجمة مع المرحلة التاريخية بأوجاعها ومفارقاتها وتناقضاتها. وجدها تأملات ومواقف، احتجاج على الأوضاع القائمة، غزيرة بجدليّة الوطن والمنفى، ووجدت نفسي أتفق معهما، الانسان في المنفى يمتلك الحرية التي لم يجدها في الوطن والأوطان تموت كما البشر، تمامًا كما وصل إليه إدوارد سعيد من قبل.
تناول الكاتب مفهوم المعنى والعدم في ديوان “كتابة الصمت” للشاعرة نداء يونس؛ فوجدها جريئة في طرح الأسئلة الكبيرة ومُقاربتها ولا تحفل بالتابوهات، تعكس نُضجًا وثقافة ووعيًا وتميّزها قوة الحدس والاحساس العميق والقُدرة على تمثُل الأزمنة والتاريخ الإنساني والثقافي. وجد نصوصها تتضمّن لغة وإحساس وبوح صامت لكنّه صمتٌ يضِجُ بالكلام، بحث عن المعنى وقرأ لغة الصمت ليصل إلى الحب والرغبة شاردًا في الزمن والإحساس بالوجود ليصل إلى المعنى بعد البحث والتقصي وسبر أغوار الوجود ووجهه الآخر، ألا وهو العدم.
رُغم عنوان الدراسة/ الكتاب فوجدته قد أقحم عشقه لرباعيّات الشاعر عمر الخيّام (كثيرًا ما تناولناها في لقاءاتنا في السجن في السنوات الأخيرة) (ص. 131-141) وتأمّلاته الفلسفيّة، يثير التساؤلات ويتناول الإحساس العميق بالوجود الإنسانيّ، التشاؤم من الوجود، الدعوة إلى العبث والحياة بسعادة حتى يصل إلى التراجع والتوبة.
وكذلك الأمر بإقحامه لمظفر النواب (ص. 181-220): وجد أشعاره مميّزة بلغتها وأسلوبها ورسالتها الخاصة، ملتزمة بالقضايا العربية، ثوريّة وجريئة، غاضبة وجريحة وحزينة. تطرّق إلى لغة الذات الحزينة، الهموم والقضايا العربيّة، الثورة كحجر الزاوية في شعره، موقفه من القضايا الكونيّة، انتمائه، تبشيره بالثورة وكونه لسان المسحوقين في كل زمان ومكان.
ينوّه كميل أنّ وقفاته هي إطلالة لا تلامس مستوى الدراسة النقدية الأدبية، إذ تحتاج هذه المهمة، على حدّ قوله، إلى أدوات نقديّة يفتقدها. قارئ متذوّق فجاءت قراءته نقديّة انطباعيّة، سبر أغوار الدواوين التي قرأها مثنى وثلاث ورباع لتختمر في ذهنه ويكتب عنها انطباعاته بأريحيّة صادقة دون محاباة وتملّق، يقرأ الشعر ويبحر في أعماقه ليكشف خباياه، كما يراها ويفهمها ويتذوّقها.
وجدته يعطي بعض النصوص أكثر من حقّها، يبحر ويغوص في الماورائيات، يقول مقولته محمّلًا النص أكثر ممّا يحتمل، قصد صاحب النص أم لم يقصد، فيحقّ لأنّه شاعر ويحقّ له ما لا يحقّ لغيره.
كتب كميل بصدق دون قيود تكبّله، بعيدًا عن المدارس النقديّة النمطيّة ومناهجها المُقولبة.
الكتابة متنفس للأسير، وتبقى الحريّة خير علاج له.
(نُشرت المقالة في العدد الأول، السنة التاسعة، آذار 2023، مجلّة شذى الكرمل، الاتّحاد العام للكتّاب الفلسطينيّين – الكرمل 48)