متى لم تعد القدس قلب وعصب القضية؟
جواد بولس
تاريخ النشر: 07/04/23 | 11:23أفاقت مدينة القدس صباح يوم الأربعاء الفائت على أخبار الاعتداءات الهمجية التي نفذتها قوات شرطة الاحتلال الاسرائيلي ووحدات مما يسمى “بحرس الحدود”، ضد حشود المصلين في رحاب المسجد الأقصى. كانت صور تلك الاعتداءات، التي وصلتنا عبر شاشات الهواتف، مستفزة حتى التعب؛ تنذر بما تضمره وتخطط له قيادات جهاز الشرطة والمسؤولون عنهم في الحكومة الاسرائيلية.
من المتوقع أن تشهد الأيام المتبقية من شهر رمضان اجراءات اسرائيلية تصعيدية جديدة تتساوق، من جهة، مع مصالح رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الشخصية، ومن جهة أخرى مع مخططات التيارات الدينية المتزمتة التي يمثلها حزب الصهيونية الدينية وشركاؤه بالرؤى والعقائد؛ فإشعال نقاط التماس في محيط البلدة القديمة وداخل منطقة المسجد الأقصى تحديدًا، سيستخدم من قبل نتنياهو ككاتم صوت موجه نحو المواطنين اليهود المعارضين له داخل إسرائيل وخارجها، خاصة اذا تدهورت الأوضاع على الجبهتين الجنوبية والشمالية في الأيام المقبلة، وكذلك داخل مناطق الضفة الغربية المحتلة. أما بالنسبة للتيارات الدينية المتزمتة التي تحظى بتمثيل وزاري وازن داخل حكومة نتنياهو، فتأجيج الصراع وحصره بعوامله الدينية وحسب، ودفعه الى حد المواجهة الساخنة ، حتى إن كانت دموية، سيتيح لهم فرصة ابطال ما يسمى “الوضع القائم” (الستاتوس كوو) في القدس وخاصة داخل ما يسمونه منطقة “الحوض المقدس” وتغيير الاجراءات العملية القائمة على أرض الواقع في هذه المواقع وحصولهم على امتيازات جديدة فيها عن طريق احياء الأساطير وسعيهم من أجل بناء هيكلهم “الموعود”؛ وهذا ما يصرح به حاخاماتهم المؤثرون وقادتهم السياسيون أمثال سموطريتش وابن غفير وغيرهم. كم كنت أتمنى أن يتفكر أولو الأمر بيننا وتقف قيادتنا عند مسؤولياتها، قبل أن تفلت الأعنّة وتنتقل النيران من القدس الى وسط مواقعنا.
هنالك أسباب عديدة وراء التحوّلات التي جرت وما زالت جارية على طبيعة الصراع المحتدم في القدس وعليها؛ فهذا الصراع بدأ يتخذ في العقدين الأخيرين صبغة وصيغة الصراع الديني، ويتمحور فيما اذا ستكون القدس عاصمة الخلافة الاسلامية المقبلة لا محالة ! ام مهد هيكل اسرائيل الثالث الموعود، لا محالة أيضًا ! لن تكفي هذه المقاله للحديث عن أسباب ما جرى خلال خمسة عقود مقدسية، ولكن يبقى غياب دور القيادات السياسية الوطنية أهم أسباب سقم الحالة المقدسية، لا سيما بعد رحيل فيصل الحسيني؛ فحين يختلف البشر على تعاليم السماء تضيع الأوطان، فما بالك اذا كان الاختلاف داخل ابناء الشعب الواحد .
لم يغب البعد الديني عن واقع الصراع الفلسطيني / العربي- الاسرائيلي منذ بداياته الأولى ؛ بيد أن معظم القيادات الفلسطينية التاريخية وخاصة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وقياداتها ، منذ تأسيسها، حرصوا على أن يبقى الصراع مع الحركة الصهيونية صراعًا فلسطينيًا وطنيًا قائمًا على فكرة التحرر القومي وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني على أرضه وفي وطنه. وقد يكون الراحل فيصل الحسيني أكثر من حافظ على ميراث من سبقوه وحرص على ابقاء مركّبات هذه المعادلة الوطنية الجامعة، رافضًا ايقافها عند عمقها الديني أو زجها داخل أسوار الحرم المقدسي. لقد طوّر فيصل موقفه الوطني الشامل والحازم والصارم دون أن يتخلى طبعًا عن واجبه، ومعه جميع أهل القدس وجميع الفلسطينيين، بالدفاع عن المسجد الأقصى وعن سائر المواقع الدينية الاسلامية والمسيحية على حد سواء. لقد أحب فيصل القدس التي كانت في قلبه وفي ذهنه، وصانها بعزيمته وبكل جوارحه ولم يرهنها قربانًا على أي مذبح أو عند عتبات الغيب. أحبها قدسًا لا تقبل التأويل ولا الشعوذة، تمامًا كما كنا نحبها قبل ان نأتيها، نحن الجليليين الصغار، ونزور شوارعها القديمة في الخيال.
جئت الى القدس نحو منتصف سبعينيات القرن الماضي لأتعلم في كلية القانون في الجامعة العبرية. سكنت في مساكن الطلبة المعروفة لغاية هذه الأيام بمساكن “ريزنك” ، المبنية على أراضي قرية العيساوية المجاورة، المطلة جنوباً على حي وادي الجوز. كانت القدس الشرقية حصاننا الأبيض وبيدر شبابنا. كنا ننزل اليها خفافًا من مساكننا التي على جبل “المشارف” ونغوص في أزقتها التي كانت تألفنا وكنا نحن نربي في أفيائها أحلامنا. كنا نوقف تحت قناطرها الزمن، ونشرب نخوبها بكاسات من عود وبخور. كان ياسمين حاراتها يعلمنا تراتيل آلهة كنا نعرف أنها تحب القدس وتحميها وكانت هي تعيد الينا أبجديات هوياتنا التائهة في المثلث وفي النقب وفي الجليل. كانت القدس عروسنا نحن لا “عروس عروبتكم”. لقد كانت منجلنا ومطرقتنا؛ وأحببناها دفعة واحدة “وبالجملة”. قدسنا لم تكن بالنسبة لنا ذات يوم معبدًا او كنيسة أو هيكلا، بل كانت مرفأ الروح ومنبت فكرة سرمدية.
لم أنتبه، ومثلي اتراب ذلك الزمن، أن بعض الناس يحسبون أن للقدس ديناً وأن لها أكثر من رب وشفيع، إلا وأنا في سنتي الثانية في الجامعة. أذكر أننا نزلنا، مجموعة من الطلاب العرب، في أحد أيام الجمعة من شهر شباط / فبراير عام 1976 الى القدس. دخلنا من باب العامود لنفعل ما كنا نفعله دائمًا؛ مشينا حتى وصلنا مطعم العم “أبو شكري” الذي كان مطعمه الصغير يعد من أهم معالم السوق وأشهرها، فتناولنا عنده وجبة الحمص الشهية. في طريق عودتنا وقبل وصولنا الى باب العامود سمعنا خليطًا من أصوات تشبه “الطوشة”. كان الشباب يشتمون الجنود بصوت مرتفع ويتوعدون، وكان الجنود يكرون وراءهم ويحاولون اعتقالهم. وعلى مداخل البيوت القديمة وقفَت بعض النسوة يرشدن الشباب على طرق “الهريبة” والنجاة، وكنّ يمطرن الجنود بدعاويهن. ما زلت اذكر احدى تلك الدعاوي التي صوبتها امرأة من على رأس سبابتها نحو أحد الجنود الذي كان يحاول الامساك باحد الفتية المشاركين بالقاء الحجارة وصرخت عليه بكل أنفاسها: “بجاه النبي يصيبك شي حجر من ايد فدائي بخطيش ويعميلك عينك يا رب”. بعد دقائق معدودات وجدنا أنفسنا في منتصف المعركة؛ نكرّ مع المكرّين ونلقي مثلهم الحجارة ونفرّ مع المختبئين. نجح الجنود باعتقال سبعة من رفاقي بعد مطاردة ساخنة، ونجحتُ مع آخرين، بفضل ارشادات أولئك النسوة، بالهرب. وصلت مساكن الطلبة سالمًا ومتعبًا. لم تدم فرحتي طويلا، فبعد ليلة واحدة تم اعتقالي من الغرفة. أخذوني الى معتقل المسكوبية وحققوا معي بتهمة الاخلال بالنظام العام والتظاهر من أجل الأقصى والقاء الحجارة صوب جنود الاحتلال، لكنني أنكرت التهم.
قضينا في المعتقل بضعة أيام. وجهت لنا النيابة لائحة اتهام واحضرنا امام قاض في محكمة صلح القدس. توصل محامونا الى صفقة مع النيابة وافقت النيابة بموجبها على الاكتفاء بالايام التي قضيناها في المعتقل، على أن يدفع كل واحد منا مبلغ ألف ليرة. لقد كان هذا المبلغ بالنسبة لعائلاتنا ولطلبة مثلنا مبلغًا كبيرًا.
وقفنا أمام القاضي فبدأ يطلب من كل واحد منا التقدم نحوه ليقرأ له قرار الحكم وفق الصفقة التي عرضت عليه. كنت المتهم الرابع حسب مكاني في لائحة التهام، فتقدمت وإذ بالقاضي يدفع بوجهه نحوي ويعلمني بأنه لن يقبل الصفقة بخصوصي. كان يخاطبني بالعربية المقدسية الأصلية، فهو يهودي مقدسي، وكانت سبابته مرفوعة بالهواء. حاولت أن أقاطعه لأبلغه انني سأتراجع عن موافقتي على الصفقة، لكن عيون والديّ اللذين كانا يحضران الجلسة كانت ترجوني ألا أفعل؛ فقد أراداني حرًا. فسكتّ واكمل القاضي تعليل موقفه فقال :” أما أنت، يا سيد بولس، فأولا، انت طالب في كلية القانون وعليك ان تعرف حدودك ، وثانيًا، وهذا الاهم، انت مواطن مسيحي فما لك وللأقصى؟ زملاؤك مسلمون وقد نفهم رغبتهم بالدفاع عن مسجدهم، أما انت المسيحي فمشاغب ومحرض” . قال كلامه وقرر أن يحكم عليّ بضعف الغرامة التي فرضها على رفاقي، أي بدفع ألفي ليره.
أفرج عن جميعنا في نفس اليوم بعد ان دفع كل واحد منا غرامته. في الطريق، في ساحة المسكوبية، كانت يد والدي ملقاة على كتفي بهدوء جميل، وكان يطمئنني ألا أقلق بخصوص الغرامة، “فالمصاري بتدبّر وبتضل وسخ ايدين يا يابا”، وراح يوصيني بضرورة الانتباه لنفسي في المرّات القادمة. شعرت براحة كبرى عندما أشعرني على طريقته، برضاه، وبأنه مثلي يحب القدس “بالجملة” ، بكل عتباتها وأزقتها أو ربما أنا كنت مثله أحبها ، لانها كانت وسادة احلامنا ولأن جرحها كان غصتنا وكان ليلها صلاتنا، وخاصرتها كخواصرنا نازفة حبًا، وقبابها كانت عيون التاريخ الساهرة.
ما زال موقف القاضي حكاية نحكيها بيننا وعلامة فارقة على ذاك المدى؛ نستذكره في كل مرة نلتقي، نحن رفاق ذلك الزمن النظيف، فنضحك بفرح ونقول: ما أهبله من قاض كان ينبش في سراب ويطحن الظلال، وما أجهله من انسان، كان لا يعرف أن قدسنا هي فكرة جامحة وقطعة من روح لا لعنة أو بركة من سماء؛ إنها الصفحة الاولى في الهوية وكل باقي الكلام باطل وهباء .
هكذا كنا وهكذا كان القاضي غريمنا، فدافع عن قدسه اليهودية، بينما كنا نحن عشاقًا للحرية ، فدافعنا، لا كمسلمين ولا كمسيحيين، عن قدسنا، التي لم تكن مجرد وعد منقوش على حجر ولا عاصمة لخلافة ولا لخلاف، بل كانت هي قلب وعصب القضية، وكانت كالقدر.