الفرج بعد الشدّة سيمياء التناصّ في شعر علي هيبي
إبراهيم طه
تاريخ النشر: 22/04/23 | 20:52الحديث في هذا المقال عن مجموعة “ابن رشد يورق في الاحتراق”. عنها وحدها. لكنّ فيه نكتًا ولطائف، أو نُتفًا منها، تنسحب على مجمل تجربته الشعريّة الارتقائيّة. والحديث يتحلّق بصفة حصريّة حول مسألة التناصّات وما يحيط بها من أعراف ومعارف. “مسألة التناصّ أو الإحالات التي أمارسها بوعي تامّ، هي جزء أساسيّ من مشروعي، انطلاقا من أنّه لا توجد كتابة تبدأ “الآن”، ليست هناك أوّل كتابة، أو كتابة تبدأ من بياض، ولا يوجد أصلا تأريخ للشعر. لذلك، كان حريّا في عصر تداخل الثقافات، والمرجعيّات الواضحة والتطوّر الهائل للإبداع الشعريّ أن تدخل التناصّ، لأنّ الكتابة الآن هي كتابة على ما كُتب”.
هذا كلام محمود درويش. وهو كلام مسحوب كلّه من أبحاث المنظّرين أنفسهم، هذا هو قاموسهم هم وهذي بلاغتهم هم. ما كنت لأستعين بمحمود درويش لولا إصرار علي هيبي نفسه على أن يجعل لدرويش موطئ قدمين اثنتين في مجموعته تلك. وما كنت لأستعين بمحمود درويش أصلًا حتى لا يظلّل على شعرنا الفلسطينيّ وحتى لا يظلّ مزارًا لا تصحّ عنده إلا القرابين.
لقد أحصيت ما ينيف عن مائة وخمسين حالة أو نمطًا تناصّيًّا بين إحالة لفظيّة عابرة، وبين اقتباسات أيقونيّة مباشرة ومقيّدة في مجموعة علي هيبي. وبين ذينك الحدّين تندرج أنماط تناصّية كثيرة قد يصل مداها إلى حدود القناع أو التقنّع. وهذه مستعارة من روافد وأصول كثيرة ومتنوّعة. من القرآن الكريم، من الحضارة العربيّة الممتدّة بآدابها الغنيّة وتاريخها الطويل، من أعلامها الأيقونات، من الكتاب المقدّس، من سفر المزامير، من أمثالنا العربيّة وأقوالنا المأثورة والمأنوسة، من الفنون الموسيقيّة الغنائيّة العربيّة، ومن الأساطير اليونانيّة والميثولوجيا الإغريقيّة والرومانيّة العتيقة. وهذه كلّها تتأدّى بآليّات إجرائيّة عديدة منها: الاقتباس والتقليد والمحاكاة والباروديا والتضمين والاستشهاد والإحالة والتقنّع. هذا العدد الضخم من التناصّات، التي بُعثرت على امتداد أربع عشرة قصيدة، جعل المجموعة الشعريّة كلّها شبكة عنكبوتيّة إحاليّة ضخمة على نحو ما هو مألوف في الأدب الرقميّ. سمّها إن شئت حالة إفراط نصّيّ. وهذا العدد لا يشمل إشارات حيّية برقيّة عابرة، ضاع مصدرها الأول، اندسّت في ثنايا القصائد دون أن تلتزم بأصل واحد واضح محدّد. ومن يقرأ المجموعة يحسّ كما لو كان يقرأ معها مائة وخمسين نصًّا آخر تحيل إليها هذه التناصّات بكلّ الأدوات المتاحة. نصف هذه التناصّات، أو أقلّ قليلًا، هي من القرآن الكريم. وغير القارئ للقرآن الكريم يجد مشقّة في التفاعل مع هذه المجموعة بصفة خاصّة، ومع شعر علي هيبي بصفة عامّة. يترك القرآن الكريم، في معانيه وتعابيره ومعجمه، أثرًا بيّنًا في شعر علي هيبي. يثري لغته بالمعاني ويعمّقها بالدلالات الملحقات. وبها يُجري، في بعض الأحايين، حسابًا شاقًّا مع الذين يصادرون القرآن الكريم ويسوّون أنفسهم مرجعيّة حصريّة لتأويله.
إنّ العلاقات التي تجمع النصّ الضيف بالنصّ المضيف، في مجموعة علي هيبي، محكومة بتوتّرات خفيّة وظاهرة تضبطها صراعات على مراكز القوى في النصوص الكلّيّة. وهذه تتمظهر في نمطين متعاكسين: (1) تحلّل النصّ الضيف في النصّ المضيف عبر إشارات أو ومضات وأصداء سريعة تنسرب إلى بنية القصيدة بهدوء دون أن تثير ضجيجًا في حضورها. وهكذا تكون الغلبة كلّها للنصّ المضيف يستعين بضيفه على نار هادئة. وهذا هو الغالب على مجموعة علي هيبي. وهي لا تعنيني الآن. اتّجاه الخطاب في مثل هذه القصائد ارتداديّ ورائيّ من الحاضر إلى الماضي. (2) تحلّل النصّ المضيف في النصّ الضيف. ما يجعل الضيف سيّد الموقف وصاحب القول الفصل في القصيدة الكلّيّة. ويظهر هذا النمط في بضع قصائد معدودة على أصابع اليد الواحدة. ومن أبرز الأيقونات التي تنشط فيها سيزيف وابن رشد وابن الخطّاب ومحمود درويش. في مثل هذه القصائد يسيطر التاريخ على القصيدة كلّها وينكتب فيها بقوّة. كما لو كنت تقرأ نصًّا تاريخيًا يحيل فيه علي هيبي إلى واقعنا الراهن من حين إلى حين. ما يعني أن اتّجاه الخطاب في القصيدة تعاقبيّ أفقيّ من الماضي المنصرم إلى الحاضر الواقع والمستقبل المتوقّع.
ظلّت الدراسات في التناصّ مشغولة بالتفاصيل الشكليّة والأنماط البنيويّة، فكثرت التفاصيل الدقيقة وتراكمت وتعدّدت الأسماء والمصطلحات في كلّ اللغات وفاضت. هذا الطوفان المعلوماتيّ هو أقوى قرائن الانبهار بالظاهرة. وحين تبهرنا الظاهرة نظلّ نركم المعارف حولها حتى نغرقها بالتفاصيل ونغرق. أظنّ أنّ علي هيبي لا يحيط بها علمًا لا كلّها ولا نصفها ولا حتّى ربعها. ولا أظنّه في حاجة إليها في تجربته الشعريّة. عين علي هيبي على الفائدة الفكريّة والجماليّة التي تحصّلها القصيدة من التناصّات. هذه هي فطرة المخلوقات الانتفاع بالموجودات. والتناصّ ظاهرة علاماتيّة بالضرورة. الفرق بين المنظومات العلاماتيّة الأساسيّة الثلاث في السيمياء، الأيقونيّة والإشاريّة والرمزيّة، هو في عمق الشكّ واليقين. الأيقونيّات هي علامات يقينيّة قطعيّة تُنسب إلى قصد الشاعر، وهذا لا يستطيع التنكّر لها. أمّا الرمزيّات فهي تخمينيّة ظنّيّة لا يمكن الجزم في قصديّتها ولا يقدر أحد على إلزام الشاعر بمعناها الاجتهاديّ. والإشاريّات هي حالة بينيّة مرنة، ميلها إلى أحد القطبين هو مسألة نصّيّة. وهكذا تتأرجح العلامات بين قطبي الشاعر ونصّه والقارئ واجتهاده. وفي الاجتهاد الظنّيّ قد يقول الشاعر ولا يقصد وقد يقصد ولا يقول حين لا يطاوعه القول. مجموعة علي هيبي تتحرّك بين هذين الحدّين وإن كانت إلى الأيقونيّات أقرب.
توجّه المقال سيميائيّ لأنّ الأشكال والأنماط والتسميات لا تعنيني في ذاتها إلا بمقدار ما تؤدّيه من غايات ومنافع. وهذا يعني وجوب النظر إلى التناصّات بوصفها نشاطًا غائيًّا، أي جملة من العلامات تحمل معاني تُفضي إلى دلالات. غاية التناصّات في مجموعة علي هيبي على نوعين: ما كان منها خاصًّا وما كان عامًّا. أمّا الغاية الخاصّة فهي تخليق بنية ثنائيّة في قصائد المجموعة يحكمها توتّر بين نقيضين أو ضدّين: واقع موجود وواقع افتراضيّ منشود. وهل هناك ما هو أقدر من التناصّ على تحقيق هذا التقابل الثنائيّ بين ضدّين؟ الواقع الموجود حصّة النصّ المضيف والواقع المنشود حصة النصّ الضيف. لو مثّلنا لهذا لكلام من قصيدة “ابن رشد يورق في الاحتراق” لوجدنا ابن رشد هو المخلّص الذي يستدعيه علي هيبي للخلاص من الواقع القبيح. كلامي هذا يعني أنّ القصيدة ثنائيّة البنية: (1) الحاضر المأساويّ الذي تصلى فيه الأمّة العربيّة والإسلاميّة نارًا كبرى، (2) الماضي المخلّص عند ابن رشد وفكره الرشيد. وهذه الثنائيّة تجعل القصيدة كلّها على التقابل والتفاضل. التقابل بين حالنا المأساويّ وبين فكر ابن رشد. التقابل بين الموجود والمنشود. وهو في المحصّلة الأخيرة تقابلٌ بين الشرّ كلّه والخير المأمول. وهذه مقابلة نهايتها مفاضلة، ينحاز الشاعر فيها بالضرورة إلى أحد الطرفين. وجب التذكير بأنّ هذه المقابلة الصريحة بين الشرّ والخير هو نسق كتابيّ كلاسيكيّ مأنوس في الأدب كلّه منذ كان. وهكذا كانت الغلبة للنصّ الضيف، لابن رشد وخطابه الإرشاديّ. وقد عبّر علي هيبي بوضوح عن ذلك حين دعا ابن رشد لينقلنا نحن العرب من قلب “قفّة زبل” لنورق في الاحتراق. “تعال نغنّ معًا نشيد الحياة/نشيد التهافت نحو الحقيقة لننجو من لعنة النقل والجهل المشوّه وتراث الشعوذات”. حين أقول إنّ النصّ الضيف هو الذي يسيطر على مركز الخطاب في القصيدة الكلّيّة أعني حضوره المهيمن على المستويين كليهما، الكمّيّ والنوعيّ، على حدّ سواء. إذا كان التقابل في قصيدة “ابن رشد يورق في الاحتراق” يتبدّى ملثّمًا فإنّه في قصيدة “وجه لحيفا وكرملان (السيرة الدرويشيّة)” أوضح وأصرح. “إليك أشكو زمانًا مريضًا عجيبًا”. هذا هو حال واقعنا، زمان مريض عجيب. والخلاص عند النصّ الضيف، محمود درويش وشعره. “وكيف نُداوَى إلّا بشعرك حين تغنّي”. وفي موضع آخر يقول: “وشعرك العنوان بعد التيه والبهتان/ وشعرك الطريق والزقاق والجيران”. وحين تصير القصيدة بديلًا عن الواقع يعني أنّ الواقع قد بات يائسًا ميؤوسًا. في كلّ القصائد التي تعتمد البنية الثنائيّة المتوازنة بين النصّ المضيف والنصّ الضيف العلامات أيقونيّة. والعلامة الأيقونيّة هي أول أنواع العلامات وأبسطها. ما يعني أنّها واضحة في وظائفها متاحة في معانيها يسهل استيعابها.
هذه المجموعة مدوّرة. تدويرها دعامة للتناصّات بقصدٍ أو بغيره. يشركها علي هيبي في التناصّات الأيقونيّة كي تعينها في أداء واجبها الدلاليّ على النحو الذي تقدّم. دوّرها الشاعر لمّا جعل آخر قصيدة فيها عنوانًا للمجموعة كلّها. وهذا التدوير الشكليّ هو عندنا علامة سيميائيّة رمزيّة دالّة على معنى بالضرورة. التدوير في العنونة ينضاف إلى التوجّه الفكريّ العامّ لهذه المجموعة. على العموم، التدوير في السرديّات الأدبيّة قد يكون أحد احتمالين: إما أن يكون حالة انغلاق لا مخرج فيها من تيهٍ مطبق وخراب. وقد يكون حالة إغلاق لملفّ مأزوم وجد طريقه إلى انفراج ينهيه ويغلقه. والإغلاق بهذا المعنى هو انتهاء واختتام هو قطع وفصل. علي هيبي في هذه المجموعة يقطع ويفصل، يشخّص ويوصّف. لا يُبقي للسؤال أو الاستفهام مطرحًا. يشخّص مقابحنا، ينتقيها بنيّةٍ مبيّتة، ويصف لها الدواء الذي يرجو فيه البرء. والدواء مستورد ملفوف بالتناصّات، مستجلَب من الماضي السحيق والقريب، من عندنا ومن عند غيرنا من الحضارات والثقافات مستورَدٌ بوعي غير منقوص.. حين جعل علي هيبي الإيراقَ في الاحتراق صار الخلاص في التناصّ. الوجع هنا والشفاء هناك. هذا موجود وذاك موجود ومتاح.
أمّا الغاية العامّة للتناصّات في هذه المجموعة فيمكن حصرها في خمس مهمّات كبرى تحملها التناصّات على عاتقها بهامةٍ مرفوعة: (1) تثقيف النصّ المضيف وإثراؤه بالفكرة والمعلومة. حين قرأت هذه المجموعة وجدتُني ملزمًا بمراجعة العديد من المراجع التاريخيّة والأدبيّة والحضاريّة والدينيّة كي أنعش ذاكرتي وأزوّدها بمعلومات ومعارف غابت عنّي أو بهتت في ذاكرتي. ولا شكّ أيضًا في أنّ الشاعر نفسه قد أفاد إفادة عظمى من هذه الشبكة التناصّيّة ووسّع حدود ثقافته. في مقابلة مطوّلة مع محمود درويش قال: “عندما كتبت أحد عشر كوكبًا، وهي قصيدة غير طويلة، قرأت قرابة خمسين كتابًا عن الأندلس. ولمّا كتبت “الهنديّ الأحمر” قرأت حوالى عشرين كتابًا عن تاريخ الهنود الحمر وأدبهم. وقرأت نصوصهم الأدبيّة وخطبهم”. أنا على يقين أنّ علي هيبي قرأ ما يكفي حتى يوظّف بالتفاصيل كلّ هذه التناصّات الحاشدة في المجموعة. التناصّات آليّة تثقيفيّة في المقام الأول. وحين يكون الشاعر مثقّفًا يكون القارئ مثله. (2) تلقيح الثقافات وتدويلها. ما يجعل الشعر الذي لا يقوى على التفريط بالتناصّات لغة عالمية. هي التناصّات التي تقوّض الثقافات القوميّة وانفرادها في الخطاب الشعريّ وسيطرتها عليه. يكفي أن تعرف النصّ الضيف حتى تعرف المضيف. قل لي من تعاشر أقل لك من أنت. يكفي أن تعرف سيزيف أو ابن رشد مثلًا حتى تدرك التوجّه العامّ للقصدة حتى وإن كنت لا تعرف الكثير عن الواقع الذي يرصده علي هيبي. وهل هناك قارئ للشعر لا يعرف هاتين الأيقونتين؟ بهذا المفهوم تتنازل القصيدة عن عروبتها المطلقة والمحصّنة بتخوم وتصير كيانًا عالميًّا تشترك فيه طاقات معرفيّة من كلّ الحضارات. (3) تنشيط فعلي القراءة والتأويل. لأنّ بنية التناصّات ثنائيّة بطبعها فهي أقدر آليّة لتفعيل المقارنات والمفاضلات. وهذه لعبة شعوريّة جماليّة وذهنيّة إدراكيّة ماتعة. إحساس القارئ أنه يقرأ نصّين دفعة واحدة يمنحه لذة جماليّة ويستنفر طاقاته لإدراك العلاقة الفكريّة بين النصّين. هذا ما شعرت به خصوصًا في التناصّات القرآنيّة. (4) نقل النص من حالة المعنى إلى حالة الدلالة. التناصّات فعل حضّ يستفزّ القارئ لبناء دلالات اجتهاديّة على المعاني التي في النصّ. هذا ما أعنيه بالتفاكر والتثاقف. علمًا بأنّ حصّة المخاطِب أكبر من حصّة المخاطَب في بعض قصائد المجموعة. (5) بعثرة الأفقيّة أو كسر رتابة القراءة التتابعيّة. ولعلّ هذا ما يعمّق الإحساس بأنّ العالم النصّيّ مركّب وفوضويّ ومبعثر وليس حالة نمطيّة من التناسق العجيب والتناغم الرتيب. التناصّات تعبير عن رؤية تفكيريّة مركّبة تتداخل فيها الأزمنة ويتعطّل ترادفها أو تتابعها الأفقيّ وتتقاطع الجغرافيات فيقرب البعيد ويبعد القريب وتمّحي الحدود والخرائط. وهذا يدعم الإحساس وكأنّ النصّ حالة استمرار لا تنتهي ولا تتوقّف حتى لو كانت القصيدة من بضع صفحات قليلة. وهذا النصّ هو نصّ انشطاريّ إذا ما أوّلته إلى مركّباته الأولى تشظّى وتبعثر وتشتّت.
تذييل: القصيدة المدفعيّة
في مجموعة علي هيبي الأخيرة، “ابن رشد يورق في الاحتراق”، بعض القصائد التي تنتمي إلى مرحلة التعبئة والتجنيد المسلّح للشعر الفلسطينيّ. كان الشعر الفلسطيني قوّة احتياطيّة جاهزة لأداء دورها في معركة الوجود. وهي مرحلة قد تراخت ووهنت في السنوات الأخيرة وتراجعت في وظيفتها التاريخيّة. كان محمود درويش واعيًا لهذا الانتقال من تسليح القصيدة إلى نزع سلاحها التقليديّ الجهاديّ. من حين إلى حين يغضب عليّ هيبي في بعض قصائده وحين يغضب يسبّ. صراحته وحدّة مفرداته الواردة غير الشاردة قرينة نصّيّة على ما أقول. ويبدو لي أنّ قصيدة “غيّب غيابك واكتب جديدًا” هي أكثرها ميلا إلى بنية القصيدة المدفعيّة التقليديّة التي أخذت تندثر وتختفي من المشهد الشعريّ الحداثيّ، لسببين اثنين: (1) انحصارها في الحالة الفلسطينيّة وانحسارها إلى حدود الثيمة الواحدة المتاحة ما يجعلها استهلاكيّة. (2) نبرها الخطابيّ بصيغة “افعل ولا تفعل” ما يقرّبها من صرامة الوعظ الأبويّ الرنّان. الأدب الغاضب تسريحٌ لبعض مظاهر الاحتقان الشعوريّ. كلّهم يمرّون في هذه التجربة. أعني الأدباء كلّهم. ألم يكتب محمود درويش شعرًا غاضبًا ودّ لو لم يكتبه؟! لكنّ هذا الكلام ليس دعوة لإسفاف الشعر. مصيبة الكلّ ليست نصف مصيبة بل هي مصيبة كاملة. لم يخدم محمود درويش قضيّته إلا بعد تدويلها في مراحل شعريّته المتأخّرة، إلا بعد أن غادر دقائقها الجغرافيّة والتاريخيّة والمعجميّة والتداوليّة واتّجه نحو القاموس الحضاريّ الكونيّ، إلا بعد أن سوّاها منظومة فكريّة أو حالة قيميّة أو شعوريّة كونيّة يتفاعل معها حتى من كان غريبًا عن فلسطين وتفاصيل قضيّتها. علي هيبي يعلم الآن علم يقين أنّ الشعر الحقيقيّ المطبوع لا يدخل إلى قضيّته إلا من باب السرّ. وفي أحايين كثيرة لا يدخل فيها إلا من النافذة أو حتى من الطاقة. ينتقل علي هيبي في هذه المجموعة بخطوات حثيثة إلى الأمام بهذا الاتجاه. ولعلّ التناصّات الذكيّة في هذه المجموعة هي أبرز قنوات هذا الانتقال الحكيم.