“رنين القيد” في إربد
حسن عبادي (إربد-حيفا)
تاريخ النشر: 26/04/23 | 14:21بدايةً، اسمحوا لي أن أشكر القائمين على حفل الإشهار، فردًا فردًا، مع حفظ الألقاب.
تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، يحلّق من خلالها ليعانق شمس الحريّة المشتهاة، حريّة مؤقّتة عابرة تمدّه بالأمل والعزيمة.
لكلّ أسير قصّة وحكاية، ونحن في بلد المليون أسير، حكاياتهم وقصصهم كثيرة وعجيبة، ومنها ما تقشعرّ له الأبدان.
في إحدى زياراتي لسجن ريمون الصحراوي حدّثني الصديق أحمد عارضة عن مخطوطة تخص عنان الشلبي (أعترف بعدم معرفتي به سابقًا)، فوعدته بمراجعتها حين استلامها والاهتمام بأمرها لترى النور بأقرب فرصة إذا وجدتها ملائمة لذلك.
حين وصلتني قرأتها بشغف، رغم سوء الخط، ووجدتها مغايرة، تواصلت مع أخي صالح حمدوني الذي عمل جاهدًا لتصدر هنا في إربد.
تناول أدب السجون الفلسطيني في بداياته معاناة الأسرى والمعتقلين، وسائل التعذيب وبطولاتهم، محاولين أسطرة قضيّتهم التي هي قضيّتنا، ولكن مع مرور السنين بدأوا بكتابة من نوع آخر؛ بدأوا يحلّقون ويتناولون كافة المواضيع، مثلهم مثل غيرهم من الكتّاب، نثرًا وشعرًا، روايات وخواطر وأبحاث، توثيق وخيال وفانتازيا، ووصفته في حينه بأدب الحريّة، أو أدب السجون الحداثي، إن صحّ التعبير.
آمنت بضرورة أنسنة قضيّة أسرانا، بالموازاة لمسار الأسطرة، لتحلّق بعيدًا وتصل العالميّة، وهذا ما وجدته في رنين القيد.
تناول الكثيرون درب الآلام التي يعبرها ذوو الأسرى في رحلتهم السيزيفيّة للقاء فلذات أكبادهم، وطقوس الزيارة؛ المعاناة والذّلّ والإهانة عند الزّيارة، وقبلها، من إرهاق مادّي وتعب جسديّ، ومضايقات جمّة تصل حدّ التّفتيش العاري لأمّهات الأسرى وأخواتهم وبناتهم، ناهيك عن التحكّم الجبروتي المذلّ والإهانات والشتائم، والمنع الأمني الفجائي الأشبه بالحاجز الطيّار المقيت ووجع المعّاطة المهين، ومزاجيّة السجان المفرطة، والحرمان من الاحتضان والحنيّة.
يبقى الأسير إنسانًا ذا مشاعر، بعيدًا عن البطولة والأسطرة، يحسّ ويتألم ويتجرّع كأس الحرمان ومرارته يوميًا، يحاول كبت تلك المشاعر الدفينة ساعة لقاء الأحبّة، يحبس الدمعة بين مقلتيه ليبدو بأحسن حلّة وحالة، يستجمع كلّ قواه وجبروته ليعبر درب آلامه تلك الخمسة وأربعون دقيقة، يستعجل الوقت ليهرب إلى خلوته وعزلته ويتحرّق ألمًا ووجعًا رغم محاولات السجان كبت تلك الأحاسيس وكيّها وصهرها محاولًا نزع إنسانيّة الأسير وتجريده من تلك الأحاسيس.
“نعم، هاتان هما عرين وهديل”؛ ما أصعبها حين اكتشف عنان أنّه نسي ملامح ابنتي أخته رنين اللتين كبُرتا وهو بعيد عنهما. والله صعبة يا عنان!
صوّر عنان لقاءه بشقيقته الصغيرة، روان، التي ارتبكت حين ناداها، أزاحت نظرها خجلا وحياء لتطعن إنسانيّته في الصميم: “لا تستحي يا صغيرتي …. أنا أخوك …لست غريبا”، صدمة مزدوجة لكليهما، دمعت عيناها وهي تصغي إلى ارتجاف صوت أخيها/ بطلها المحقون بالوجع الطارئ، نتاج محاولة تشويه المحتل للمشاعر من أجل تفريغ الأسير من إنسانيّته.
أبكيتني يا عنان!
الكتابة خلف القضبان متنفّس لأسرانا، وهي ليست من باب الترف، واختراق كلمتهم للزنازين وأسوار السجون حريّة لهم؛ وكما تعلمون، هناك صعوبات جمّة في إيصال تلك الكلمة لتحلّق حرّة طليقة في سماء الحريّة.
تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، عمل الجلاد دائمًا على كسر إرادة الضحية، لكن أسرانا أصرّوا على كتابة التاريخ بطعم الحريّة، رغم ألم الخسارات، والفقد، وقهر القيد، صمّموا على أن يكسروا روح العتمة ليقولوا للتاريخ، نحن هنا باقون.
وها هو “رنين القيد” يرى النور ليصرخ عنان للتاريخ: أنا باقٍ رغم الجلّاد وقيوده.
اصرخ عزيزي الأسير، لا تحبس دمعتك السخيّة، ذوّب ذاك الجليد الذي تلبّسك، ودَع دمعة من تحبّ تبلّل وتروي تربتك القاحلة والمتيبّسة.
ليس من باب الصدفة أن يكون هذا الحفل في إربد، بلد أهل عنان المهجّرين، ليقولها بصريح العبارة: أنا هنا معكم وبينكم رغم القضبان ورغم أنف السجّان، وها هو بكتابه يتنفّس هواء الحريّة مع أهله في الشتات مبتسمًا ابتسامة منتفضة، منتشيًا جزِلًا راميًا عرض الحائط تلك القيود ليحقّق حلم الحريّة القادمة لا محالة.
كلّي ثقة بأن عنان يحتفي اليوم مع زملائه الأحرار بحفل مولوده الأول “رنين القيد”، فكلمته الحرّة هزمت سجّانه وانتصرت على الأسلاك والقضبان والجدران والأسوار وها نحن نحتضنها بفخر واعتزاز.
جئتكم من حيفا وأعالي الكرمل لأبارك لنا ولعنان هذا المولود، ونحتفل بين أهله الذي يشكّل شوكة في حلق المحتلّ.
جئت حاملًا تحيّات وتبريكات الأصدقاء الأسرى بمناسبة إصدار الكتاب. وحاملًا باقات الورد والشكر لرابطة الكتّاب الأردنيين على احتضان المبادرة والحفل دون كلل أو ملل، وحاملًا باقات الورد وبرقية الشكر من الأسيرة مرح بكير التي التقيتها صباح الثلاثاء في سجن الدامون، باسمها وباسم زميلات الأسر، وكذلك تحايا زملائي في التحالف الأوروبي لمناصرة أسرى فلسطين، وتحايا زملائي في اتحاد الكتاب الفلسطينيين الكرمل 48.
وأخيرًا؛ نعم، الحريّة خير علاج للسّجين.
قلتها سابقًا: حريّة البلاد بتحرّر آخر أسير من سجون الاحتلال وصناعة تمثالًا للحريّة من كافّة مفاتيح الزنازين كما اقترح صديقي الأسير الحر معتز الهيموني.
آملين بحريّة قريبة لك عزيزي عنان ولرفاق دربك الأحرار.
***مشاركتي في حفل “رنين القيد” للأسير عنان زاهي الشلبي الأحد الموافق 26 شباط 2023 في رابطة الكتاب الأردنيين/فرع إربد