بين استقلال ونكبة أولى وثانية
جواد بولس
تاريخ النشر: 28/04/23 | 10:44قد تكون الاحتفالات بيوم استقلال إسرائيل، كما أقيمت قبل يومين في مواقع ومدن اسرائيلية عديدة، حدثًا مفصليًا لن يتكرر في السنوات القادمة بنفس الصيغ التي شاهدناه، ولا وفق البروتوكولات والمفاهيم التي كانت متّبعة منذ سنوات طويلة وكانت محطّ اجماع ارتضته جميع شرائح المجتمعات اليهودية وتيّاراتها الاجتماعية و السياسية المحلية وفي أرجاء العالم.
لقد عملت، خلال العقود الماضية، جميع الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة، ومعها معظم قيادات المؤسسات والهيئات في الدولة، على تحويل جميع مراسم الاحتفالات بيوم الاستقلال وما يسبقه من فعاليات متعلقة بهذه الذكرى، الى حدث رسمي “ودولاتي”, أي حدث يخص الدولة بكونها كيانًا تعلو مكانته على مكانة الأحزاب وسائر المؤسسات والهيئات السيادية. لقد كان القصد من وراء تلك السياسة هو تحييد مكانة الجيش الاسرائيلي وأجهزة الدولة الأمنية، ومعهم جميع رموز الدولة، كالعلَم والنشيد الوطني ورئيس الدولة ورؤساء السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والمقابر العسكرية والجنود الذين سقطوا أثناء مشاركتهم في العمليات العسكرية أو الحربية، وعائلاتهم، بتحييدهم عن الصراعات القائمة داخل المجتمع وعدم الزج بهم كطرف في أية مناكفات دائرة بين القيادات السياسية، مهما كان منشؤها أو مرجعياتها.
لقد حافظت اسرائيل، الرسمية والشعبية، على هذ القاعدة بصرامة فاقت كل التوقعات، حتى تحوّلت الاحتفالات بمثل هذه المناسبات/ الأيام، الذكرى والبطولة والاستقلال والغفران وغيرها، الى أحداث تتوحّد فيها مشاعر معظم يهود العالم، والى محطات يقفون عندها كجسد واحد متماسك ويمارسون فيها كشعب عملية تذكّر جماعية للهمّ نفسه وللوجع ذاته، ويستشرفون معًا نفس الأمل والمستقبل.
هكذا كانت الحال الى أن نشبت في الآونة الأخيرة المعركة بين معسكر بنيامين نتنياهو وحكومته وبين معارضيهم من مواطنين وأحزاب والعديد من مراكز القوى الاسرائيلية والعالمية. فبعد الاعلان عن اقامة حكومة نتنياهو وتسمية وزرائها ، وبعد أن كشّروا عن أنيابهم الحقيقية وشرعوا بتنفيذ انقلابهم على نظام الحكم في الدولة، تحت ما اسموه، كذبًا وتمويهًا، بعملية اصلاح الجهاز القضائي، قررت قطاعات وشرائح واسعة من المواطنين اليهود، من داخل اسرائيل ومن خارجها، التصدّي للمخطط المعلن ومواجهته باصرار، تعكسه سلسلة المظاهرات الجبارة المقامة أسبوعيًا بمشاركة مئات آلاف المواطنين في ساحات وشوارع المدن الاسرائيلية بهدف افشال مخططات الحكومة الفاشية، والعودة الى نظام حكم ديمقراطي حقيقي. لن أعود للكتابة، في هذه العجالة، حول هذه المظاهرات ولا عن موقع المواطنين العرب فيها وعن مواقفهم حيالها، فما يهمني اليوم هو تداعيات المشهد الذي أفضت اليه ممارسات حركة المعارضة الواسعة التي ما زالت تنشط وتتفاعل داخل المجتمعات اليهودية؛ وأدّت، كما شاهدنا في الأيام الماضية، إلى المسّ “بحرمة” مراسم الاحتفالات بهذه “الايام” التي كانت تحظى بمكانة حصينة؛ خاصة، كما تقدّم، يوما الاستقلال والذكرى. لقد شاهدنا وسمعنا، ربما للمرة الأولى منذ عشرات السنين، أصواتًا كثيرة تستنكر حق هذه الحكومة وتعترض حق وزرائها أو مؤيديها من أعضاء الكنيست المشاركة في إحياء مراسم هذه الاحتفالات الرسمية باسم الحكومة/الدولة ووقوفهم على المنصات كممثلين رسميين لكل المواطنين والشعب.
ما رأيناه وسمعناه من أصوات تدّعي عدم شرعية هذه الحكومة وعدم أهلية وزرائها للوقوف على المنصات الرسمية، يعكس عمق التصدّع القائم داخل المجتمع الصهيوني-اليهودي؛ ويعكس، في الوقت ذاته، بروز بدايات تفكك صحة مفاهيم “المقدس”، التي حاول ، كما أشرنا سابقًا، قادة الحركة الصهيونية على مختلف تياراتها، ترسيخها كأصماغ واقية ومعززة لسياساتهم بشكل عام، وخاصة في خدمة ممارساتهم العسكرية والتوسعية. فالإصرار على مقاطعة العديد من الشخصيات اليمينية واعتراض مشاركتهم في الاحتفالات يدلّ على أن المسلّمات التي كانت قائمة حيال قدسية هذه الأيام وما تحمله من رموز ورسائل ومشاعر، لم تعد مقبولة بمعطياتها وبمضامينها السابقة، ولا بكونها مسلّمات تحظى بمكانة منزّهة فوق جميع الاعتبارات وافرازات الواقع ؛ وتفيد كذلك على ان معظم القيم والمفاهيم التي أراد زعماء الحركة الصهيونية حمايتها وحفظها من الانتقاد والاعتراض والمناقشة، ستخضع من الآن فصاعدًا للمناقشة وللتحدّي وللرفض أيضا. فالدولة التي تسعى لبنائها حكومة نتنياهو الحالية ليست هي دولة أولئك الذين يتظاهرون ضد الحكومة، وكذلك هو حال العلَم والجهاز القضائي والجيش والأجهزة الأمنية، فكل هذه “الرموز” لم تعد تعكس عند جميع اليهود نفس المعاني، ولا تؤدّي نفس الوظائف ولا تحمل نفس الرسائل الجامعة والموحّدة.
لا أعرف كيف ستتطور هذه الصراعات التي شهدنا بداياتها مؤخرًا؛ فقد تكون الخلافات حول تلك “المفاهيم والقيم المقدسة” بداية لمراجعات معمقة، داخل بعض النخب اليهودية، حول معنى عسكرة المجتمع وتقديس الجيش والموافقة على رفعه فوق كل الاعتبارات مهما فعل جنوده وقادته؛ وبداية لطرح التساؤلات الجدية حول عنجهية المستوطنين وغطرستهم في اضطهاد الفلسطينيين وقمعهم بوحشية سافرة، برضا المجتمع وغضّ بصره، وبدعم واضح من فرق ووحدات جيش الاحتلال. وقد تكون الطريق، مع اتساع رقعة الخلافات، أقصر كي يفهم المتظاهرون ضد ديكتاتورية نتنياهو ومخططات وزرائه، عبثية الاكتفاء بشعار الديموقراطية، وعلى أن المطالبة به لوحده لن تنقذ دولتهم من الدمار، ولذا فلن يستعيدوا حكمها كما يأملون.
أقول قد تكون هذه الصراعات بدايات لتغييرات أكثر جذرية ومصيرية من باب التمني، وأعرف أنه من دون استيعاب الذين يحاربون الفاشية ويقفون ويهتفون ضدها، على ان الاحتفالات بيوم الاستقلال وتقديس مفاهيمه ومكتسباته على الطريقة القديمة، هو ما أدى في الواقع، عبر السنين، الى نشوء تلك التيارات السياسية اليمينية والفاشية، ومن دون استيعابهم أن الإصرار فقط على إبعاد رموز الحركات اليمينية المتطرفة والفاشيين عن الاحتفالات لن يحدث التغيير في مسار التاريخ الذي أوصل اسرائيل الى وضعها الحالي، ومن دون استيعابهم، كذلك، بأن الاحتفال بيوم استقلالهم والاصرار على أنه ولد من رحم البطولات وتضحيات من حاربوا في سبيل اقامة اسرائيل، والإمعان في التنكر لحقيقة أن ذلك اليوم هو عمليًا يوم نكبة الشعب الذي كان يعيش في وطنه وعلى أرضه، لن يفضي الى استرجاع اسرائيلهم كدولة ديموقراطية لا تحتل ولا تضطهد شعبًا آخر، ولا تحرم خُمس مواطنيها من حق العيش بمساواة وبكرامة وبأمان.
نحن نعيش مخاضات حركة تاريخية مقلقة ومخيفة، لا نستطيع اليوم تحديد مصيرها؛ فاستمرار حركة المعارضة لحكومة نتنياهو الحالية هو مؤشر ايجابي وهام، لكنه غير كاف لتحديد معالم المستقبل القريب، ليس لأن أكثرية المتظاهرين يطالبون بالديموقراطية كشعار فضفاض وحسب، بل لأنه على الرغم من مرور الوقت، لم تنجح هذه الحركة الشعبية في تطوير قيادات جديدة تومن بفلسفة سياسية مغايرة، وتسعى الى تغيير جذري في مفاهيم الدولة كدولة احتلال تضطهد شعبًا آخر، ودولة عنصرية تمارس سياسة التمييز والقمع ضد مواطنيها الفلسطينيين.
يراهن بنيامين نتنياهو وحلفاؤه الحاليون على هزيمة المعارضين لهم؛ ويسعون، بشتى الأساليب والأحابيل والوسائل، من اجل تحقيق هذه النتيجة. وأنا، مثل كثيرين غيري، أتمنى ألا ينجحوا، لكنني أعرف أن من أجل افشالهم يجب أن يكون لنا، نحن المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل، دور فعال في حركة المعارضة ومواجهة هذه الحكومة، لا سيما على خلفية الصراعات التي واكبت الاحتفالات بيومي الذكرى والاستقلال. فرفع شعار “يوم استقلالهم هو يوم نكبتنا” واطلاق مسيرة العودة هما فعلان هامان من أجل تذكير العالم وقادة وشعب اسرائيل بان الاحتفاء بتجسيد استقلالهم يأتي دومًا على حساب نكبة شعبنا؛ ومن جهة ثانية من أجل تعزيز هوية الاجيال الناشئة بيننا وتمتين انتمائها لفلسطينيّتها في هذا الزمن العربي الرديء والفلسطيني الملتبس. وعلى الرغم من أهمية التأكيد على رفع هذا الشعار والقيام بهذه الأنشطة، علينا أن نوقن أنه من دون المشاركة الحقيقية في مواجهة الحكومة، سنجد أنفسنا قريبًا جدا، أمام نظام من طراز جديد سيسعى من أجل “تذويقنا” مرارة نكبة ثانية، كما صرح بعض رموزه المتنفذين.
“يوم استقلالهم هو يوم نكبتنا” شعار صحيح ولكن ماذا نعمل وسنعمل كيلا يكون يوم انتصار الفاشيين هو يوم نكبتنا القادمة؟