وماذا بعد الحج؟
تاريخ النشر: 11/11/11 | 23:00الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فمن أنعم الله عليه بهذه الفريضة فقد استكمل أركان الإسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: “بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت : متفق عليه من حديث ابن عمر، كما أن من وفقه الله لأداء هذه الفريضة فقد أتى من العمل أفضله، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة: “سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: “إيمان بالله ورسوله” قيل: ثم ماذا؟ قال: “الجهاد في سبيل الله”. قيل: ثم ماذا؟ قال: “حج مبرور” فحري لمن وفق إلى هذه الشعيرة أن يضطلع بآثارها الروحية وفيوضاتها الإيمانية، وحتى يكون للحج أثره في نفس صاحبه وسلوكه وإيمانه بعد الرجوع إلى بلده ،فعليه بمجموعة من الآداب، منها:
1- شكر الله على توفيقه على أداء هذه الشعيرة، فكم من مصدود عن هذا البيت بقلبه وجسمه!، وكم من مريد مشتاق حالت بينه وبين البيت انعدام السبل، وكم من مذنب أوبقته ذنوبه فمنعته من الوصول، فعلى من وفق للزيارة أن يستشعر تخصيص الله إياه واختيار الله له وأن يأمل في عفو الله وكرمه وجزيل عطائه فما قربه ليبعده، وما أعطاه ليحرمه، وما ناداه ليطرده، قال علي بن الموفق: لما تم لي ستون حجة خرجت من الطواف وجلست بحذاء الميزاب، وجعلت أفكر: لا أدري أي شيء حالي عند الله عز وجل وقد كثر ترددي إلى هذا المكان؟ فغلبتني عيني، فكأن قائلا يقول لي: يا علي، أتدعو إلى بيتك إلا من تحبه؟ قال: فانتبهت وقد سري عني ما كنت فيه.
كان وهيب بن الورد يسأل عن ثواب الطواف ونحوه، فقال: تسألون عن ثوابه! سلوا ما الذي على من وفق لهذا العمل من الشكر للتوفيق وإعانة عليه؟
إذا أنت لم تزدد على كل نعمة لمؤتيكها شكرا فلست بشاكر
إذا أنت لم تؤثر رضا الله وحده على كل ما تهوى فلست بصابر
2- المحافظة على بياض الصحيفة:
روى الشيخان من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه” فمن عاد من حجه المبرور عاد بصحيفة جدية، قد حطت عنها الأوزار، ومحيت منها الخطايا، ولم يبق بها إلا الحسنات والخيرات، فليحذر الحاج من أن يضيع هذا كله منه، فتسود الصحيفة كما كانت، وليفد من هذه الفرصة الذهبية، إنه الآن كيوم ولدته أمه، فما كان من الآثام كأن لم يكن! وما كان من الخطايا ذهب فلم يعد، فلا ينقض الغزل بعد أن أحكمه، ولا يبدد الميراث بعد أن جمعه، ولا يسمح للشيطان أن يستولي عليه كما كان يفعل.
إن بعض الناس تستولي عليه سيئته، تستولي على نفسه وعلى روحه كما استولت على صحيفته فإذا فكر في التوبة ناداه مناد من نفسه: أن قد فات الأوان، ناداه: وماذا تفعل في الماضي المؤلم المؤسف، فها قد عاد الحاج بلا ماض مؤسف، وها قد أطلقه الله من ذنوبه فأخفاها بل محاها، ويا لها لحظة مواتية للتوبة والاستزادة، فعلى الحاج ألا يضيعها.
أخرج ابن أبي شيبة: أن امرأة من المهاجرات كانت تحج، فإذا رجعت مرت على عمر فيقول لها: اتقيت، فتقول: نعم، فيقول لها: استأنفي العمل.
3- تذكر من خاصمت:
على الحاج أن يتذكر أنه هنا في الحج قد رجم الشيطان، وخاصمه وتبرأ منه، رجمه أربعة أيام متوالية، فهل يعود الحاج إلى بلده فيتخذه صديقا له من جديد {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا}… (النساء : 38).
ولا تكن كمن قيل فيه :
كم رجمت الشيطان والقلب مني مرهق في حبائـل الشيطان
4- اجعل حجك مبرورا:
من علامات الحج المبرور عدم العودة إلى الذنوب. قيل للحسن: الحج المبرور جزاؤه الجنة؟ قال: آية ذلك: أن يرجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وقيل له: جزاء الحج المغفرة؟ قال: آية ذلك: أن يدع سيء ما كان عليه من العمل.
قال بعض السلف: استلام الحجر الأسود: هو أن لا يعود إلى معصية، يشير إلى ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما: أن الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن استلمه وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه، وقال عكرمة: الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن لم يدرك بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح الركن فقد بايع الله ورسوله وورد في حديث: أن الله لما استخرج من ظهر آدم ذريته، وأخذ عليهم الميثاق كتب ذلك العهد في رق ثم استودعه هذا الحجر فمن ثم يقول: من يستلمه وفاء بعهدك فمستلم الحجر يبايع الله على اجتناب معاصيه و القيام بحقوقه {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.. (الفتح : 10).
يا معاهدينا على التوبة بيننا و بينكم عهود أكيدة:
أولها: يوم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}.. (الأعراف : 172)، فقلتم: بلى، والمقصود الأعظم من هذا العهد: أن لا تعبدوا إلا إياه و تمام العمل بمقتضاه : أن اتقوا الله حق تقواه.
وثانيهما: يوم أرسل إليكم رسوله وأنزل عليكم في كتابه: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}.. (البقرة : 40) قال سهل التستري: من قال لا إله إلا الله فقد بايع الله، فحرام عليه إذ بايعه أن يعصيه في شيء من أمره في السر والعلانية أو يوالي عدوه أو يعادي وليه:
يا بني الإسـلام من علمــــــكم … بعد إذ عاهـدتم نقض العهـود
كل شيء في الهوى مستحسن … ما خلا الغدر وإخلاف الوعود
وثالثها: لمن حج إذا استلم الحجر فإنه يجدد البيعة و يلتزم الوفاء بالعهد المتقدم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}… (الأحزاب : 23) الحر الكريم لا ينقض العهد القديم:
أحسبتـــم أن الليــــالي غيـــــرت …عقد الهــــوى لا كان من يتغيـر
يفنى الزمان و ليس ننسى عهدكم … وعلى محبتكم أموت وأحشر
إذا دعتك نفسك إلى نقض عهد مولاك فقل لها: معاذ الله: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}… (يوسف : 23) اجتاز بعضهم على منظور مشتهى فهمت عينه أن تمتد فصاح:
حلفت بدين الحب لا خنت عهدكم … وذلك عهد لو عرفت وثيق
تاب بعض من تقدم ثم نقض فهتف به هاتف بالليل:
سأترك ما بيني وبينك واقفا … فإن عدت عدنا والوداد مقيم
تواصل قوما لا وفاء لعهدهم … وتترك مثلي والحفاظ قديم
من تكرر منه نقض العهد أيوثق بمعاهدته؟ دخل بعض السلف على مريض مكروب فقال له: عاهد الله على التوبة لعله أن يقيلك صرعتك فقال: كنت كلما مرضت عاهدت الله على التوبة فيقيلني فلما كان هذه المرة ذهبت أعاهد كما كنت أعاهد فهتف بي هاتف من ناحية البيت: قد أقلناك مرارا فوجدناك كذابا ثم مات عن قريب لا كان من نقض العهد من كان ما ينقض العهد إلا خوان:
ترى الحي الألى باتوا … على العهد كما كانوا
أم الدهر بهم خاننــــا … ودهر المرء خــوان
إذا عــز بغيــــــر الله … يوما معشــر هانـــوا
من رجع من الحج فليحافظ على ما عاهد الله عليه عند استلام الحجر، حج بعض من تقدم فبات بمكة مع قوم فدعته نفسه إلى معصية فسمع هاتفا يقول : ويلك ألم تحج؟ فعصمه الله من ذلك!
قبيح بمن كمل القيام بمباني الإسلام الخمس أن يشرع في نقض ما يبني بالمعاصي في حديث مرسل خرجه ابن أبي الدنيا: “أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لرجل: يا فلان إنك تبني و تهدم -أي تعمل الحسنات والسيئات – فقال يا رسول الله: سوف أبني و لا أهدم”.
خذ في جد فقد تولى العمر … كم ذا التفريط فقد تدانى الأمر
أقبل فعسى يقبل منك العذر … كم تبني كم تنقض كم ذا العذر
علامة قبول الطاعة أن توصل بطاعة بعدها، وعلامة ردها أن توصل بمعصية، ما أحسن الحسنة بعد الحسنة، وأقبح السيئة بعد الحسنة، ذنب بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها، النكسة أصعب من المرض الأول، ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة، ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل وغني قوم بالذنوب افتقر، سلوا الله الثبات إلى الممات و تعوذوا من الحور بعد الكور.
كان الإمام أحمد يدعو ويقول: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك وكان عامة دعاء إبراهيم بن أدهم: اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة في بعض الآثار الإلهية يقول الله تبارك وتعالى: أنا العزيز فمن أراد العز فليطع العزيز:
ألا إنما التقوى هي العز والكرم … وحبـــك للدنيا هو الذل والسقــم
وليس على عبـــد تقي نقيصـــة … إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
5- العبرة بالخواتيم:
على الحاج أن لا يغتر بزيارته بيت الله الحرام فيتكل على ذلك ويقصر في الطاعة وينهمك في المعصية، فالعبرة بالخواتيم، قال حاتم الأصم: لا تغتر بموضع صالح، فلا مكان أصلح من الجنة، فلقي آدم فيه ما لقي، ولا تغتر بطول العبادة فإن إبليس بعد طول تعبده لقي ما لقي، ولا تغتر بكثرة العلم؛ لأن بالعام كان يحسن اسم الله الأعظم فانظر ماذا لقي، ولا تغتر برؤية الصالحين فلا شخص أكبر من المصطفى فلم ينتفع بلقائه أقاربه وأعداؤه.
6- المحافظة على الإخلاص:
من حج فإنه حج لله: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فمن أراد أن يكون حجه لله فلا يتعجل الثمن ، فلا يغضب ممن يناديه باسمه مجردا دون كلمة “حاج” فإنه لم يحج للحصول على اللقب، وإلا فإن العاقبة وخيمة ، ففي الحديث: (إن الله إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن و رجل قتل في سبيل الله و رجل كثير المال فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت بما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق فيقول الله له: كذبت وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جواد فقد قيل ذلك. ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله له: كذبت وتقول له الملائكة: كذبت ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك. يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة “
وختاما أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتقبل من حجاج بيته حجهم وأن يردهم إلى أهليهم سالمين آمنين غانمين مأجورين غير مأزورين، وأن يرزقنا حجا مبرورا وذنبا مغفورا وعملا صالحا مقبولا، وأن يعيد على الأمة هذه الأيام بالخير والنصر والتمكين.. آمين.