قراءة في رواية: قناع بلون السماء لباسم خندقجي
سلمى جبران-حيفا
تاريخ النشر: 01/05/23 | 6:01تبدأ الرواية بالبطاقة الصوتيّة الأولى من نور إلى مراد، وهي تحمل رقم 12، أي أنّ الرواية أو المراسلة المذكورة لم تبدأ من الصفر! وهذا يوحي بدلالات تشير إلى عمق الرواية، منذ بدايتها!
البطل (نور) يتراسل مع مراد صديقه المتواجد في سجن الاحتلال. رسائله بطاقات صوتيّة وجدانيّة فكريّة يبث فيها كلّ ما يتداولان به حول حياتهما: مراد في السجن الصغير، ونور في السجن الكبير.
والروائي المبدع باسم خندقجي موجود في السجن الصغير ولكنَّ حرّيّته في الإبداع الكتابي والفكري تعانق السماء.
نور يتحدّث عن احتمالات لكتابة رواية فيها شخصيّة محوريّة أنثويّة قد تكون البطلة فيها طالبة جامعيّة أو صحفيّة أو باحثة، أو رواية عن شخصيّة مريم المجدليّة ص13، محاولًا تقصّي الحقائق التاريخيّة عنها حيث تجاهلها المؤرّخون فهي ليست مريم أمّ يسوع المسيح. إنّها المجدليّة التي أُدمجت بشخص العذراء وبشخص يسوع ولم يكن لها حضور في تاريخ المسيحيّة الكَنَسي الرسمي.
لماذا يقع اختيار الكاتب على مريم المجدليّة، هذه الشخصيّة الجدليّة؟ ولماذا يريد أن يعطيها مكانها وحقَّها؟ هناك أسباب تتعلّق بأبعاد الرواية. وهناك سببان ظاهران لذلك: (1) ربّما، فعلًا، ردًّا على دان براون في شيفرا دافنشي. (2) ممكن كإثبات أنّ التاريخ تخيُّل معقلن ص12، وهو يريد الرد على خيال المستعمر بمثله وأكثر في الرواية الضمنيّة.
تتخذ الرواية الأمّ خطّين متوازيين حتى النهاية. الأوّل: الرسائل بين نور، في السجن الكبير ومراد، في السجن الصغير.
والثاني: المسار التاريخي الزمني وفيه البطلة هي مريم المجدليّة، بكلّ الجدل الذي أحاطها، وإلى جانبها التلاميذ والرسل وبينهم بطرس الرسول.
لكلّ هذه الخيارات هناك بيّنات عبر-تاريخيّة ماضية وحاضرة معًا، وهذا قطب ذكي جدًّا من أقطاب الرواية. أما البطل نور، وهو الراوي، فيتساءل ص14 ما الذي يدفعه للخوض في مسيرة المجدليّة وما هي العراقيل أمامه؟
كلّ ما ورد أعلاه كان ضبابًا لفَّ البداية وأعطاها طابعًا ملهمًا ومثيرًا.
نور مهدي الشهدي شاب ثلاثيني توفّيت أمّه حين ولدتْهُ وعاش صبيًّا يهرول بين أزقّة المخيّم، بدون تحديد اسم ” لأنّ كلّ المخيّمات سواء”، ولد من رحم اليتم كاتمًا مكتومًا… يسأل نور نفسه: “لماذا التحقت بالمعهد العالي للآثار الإسلاميّة؟ ما للمخيّم وللآثار!!؟”ص16
يلتقي نور بالحاجّة فاطمة الموسى أم عدلي، أم صديقه مراد القابع في السجن، فهي مصدر الدفء في المخيّم والتي ترى ولدها 45 دقيقة في الشهر من وراء الزجاج العازل للمشاعر. كان حين يلقاها يستعيد أمّه من خلالها ويستعيد ذاكرته المشتركة مع مراد.
يستمدّ السرد قوّته والرواية زخمها من اللغة المبهرة بشفافيّتها وجمالها، الخارجة بكاميراتها الداخليّة لتصوّر كل المشاعر واللحظات الوجدانيّة التي يعيشها أبناء المخيّم في السجن الكبير ويعيشها مراد في السجن الصغير.
نور يتذكّر حواره مع مراد حول موضوع الآثار، ومراد يتهكّم ويسأله: “ألم تجد مساقًا سوى التاريخ والآثار لكي تتخصّص به؟” ص19 عندما كانا “يتسكّعان في سوق المخيّم وأزقّته لكي يقضيا على ما تبقّى من لحظات يعقبها أذان المغرب والإفطار” ونور لبّى دعوة مراد له للإفطار والتي “كانت على شرف التحاقه بالجامعة بعد أكثر من عامين من العمل والكدح الشّاقين”. يستمرّ الحوار بينهما بمبالغة مراد في تهكّمه بموضوع الآثار، وبينما كانا يسيران في سوق المخيّم وينتظران الإفطار تقدّمت منهما “قوّة خاصّة لجيش الاحتلال الصهيوني وانتزعت مراد بسرعة البرق من حواره مع نور وأزقّة المخيّم وبيته وطفولته وشبابه ومائدة أمّه المزدانة بأكلة ورق العنب، اختطفوه في غمضة عين. اختفى مراد أمام جفول نور وصمته ورعبه ممّا حدث”. “القوّة الخاصّة اختطفت صديق عمره، وتناهى إلى مسامعه عويل أم مراد (أم عدلي) ونحيبها، إذ كانت منذ لحظات تمسك بيديها أطباق الطعام الشّهي تحضيرًا للإفطار”. ومنذ تلك الواقعة/الكارثة “لم يعد نور على قيد الالتزام بصيام شهر رمضان، بل على قيد صمتٍ ذي إمعانٍ مزمن”.
نور تعلّم علم الآثار لكي يستنطق القطع الفخّاريّة والمجسّمات والأختام والعملات والتي دُفنت في التراب منذ آلاف السنين، “هذه الخبايا باحت للأرض بوحًا سرّيًّا يفهمه الذين ينجحون بمداعبتها بأناملهم الخبيرة” ص20 وهذا ما دفعه إلى علم الآثار.
تستمرّ المراسلة بين نور ومراد بعد أن سُجن، على مدى الرواية فتكشف “رحم المعاناة الذي وُلد منه هذا الشعب الذي يتعرّض لاغتصاب تاريخي”.
بكل شفافيّة، يصف نور في الرسائل علاقته مع رام الله ص33-27: “كانت علاقة قيء ولفظ وقذف متبادلين”. أمّا والده الصامت الذي أنجبه من رحم الصمت، “فقضى من حكمه الجائر (25 عامًا) خمسة أعوام وخرج فخذله أصدقاؤه ورفاق دربه في النضال والانتفاضة، والذين انشغلوا بأبّهتهم الجديدة التي تراقصت فوق مائدة السلام المختلّ وسلطة الوهم والحيرة، خذلوه حين تخلّوا عن رعاية أسرته”. “وعاد من السجن كالعائد من أهوال الجحيم وكالذي تعرّض لاغتصاب جماعي، فسار زائغ العينين، أشعث الشعر، نحيل البنية ببحّة تشي بأنّه لم يُصب بالخرس في السجن بل في الصمت الفادح والخسران الطافح…بعد أن خرج من السجن وخلّف وراءه ماضيه الإنتفاضي المجيد، بينما رفاقه في النضال، الغابرون المزايا والمرايا، باتوا مسؤولين، أمّا هو فلم يعد مسؤولًا إلّا عن عربة الشاي والقهوة…وسط ذهول أهل المخيّم!”. و”أهل المخيّم قدّروا خلوّ دمائه من الانتهازيّة والتجارة بالإرث النضالي”ص34.
ينغمس نور بالبحث عن القطع الفخّاريّة وعن مريم المجدليّة ويبوح بحثُهُ هذا عن بحثه في التاريخ النضالي، عن النضال من أجل الحقّ وكشف ملامحه التي طمسَها التاريخ الغابر والتاريخ الذي تلاه والتاريخ السياسي والاجتماعي السالف واللاحق لأهالي المخيّمات.
مريم المجدليّة لم ترد في الرواية عبثًا، مريم المجدليّة كانت حاضرة عند قيامة المسيح، إنّما هي الحاضرة الغائبة في التاريخ المسيحي بالتوازي مع أجزاء العائلات الذين طُردوا من بيوتهم وبقوا داخل البلاد، سجّلتهم السلطات تحت تصنيف: حاضر/غائب وخاضوا حروبًا قضائيّة لإثبات وجودهم. والمجدليّة بعد البحث والكتابة عنها أصبحت حاضرة/حاضرة وليس حاضرة/غائبة، والتوازي بين المجدليّة وبين اللاجئ الفلسطيني “الحاضر/غائب” يشكّل عَصَبًا مركزيًّا في الرواية، ممّا يزيد من سوريالية وعبثيّة الوضع القائم في الرواية. إنَّ ملامح نور الأشكنازيّة ولغته العبريّة التي اكتسبها من الشوارع العبريّة كانت، برأيه، تُعتبر غنائم حرب! فتحوّلَتْ الملامح إلى قناع ويدخل طفل المخيّم اللاجئ إلى سوق الخردوات ويشتري معطفًا جلديًّا ويجد في جيبه الداخليّ غنيمة أخرى هي بطاقة هويّة زرقاء اشكنازيّة وقلادة نجمة داود، وهذا يمكّنه من إكمال مغامراته واستكشافاته!
مشهد نور، صاحيًا من النوم على صوت رصاص، متسائلًا عن مصدر إطلاق النار: “أهذا رصاص احتلالي أم شجار مسلّح بين جماعتين متصارعتين على الوهم!”ص51، هو مشهد مثير وشفّاف مجترِح للصدق المؤلم والحقيقة العارية والواقع المفعم بالسخرية المُرّة!
العُمق والصدق والأصالة والوجع ظهر في قول نور: “رام الله الواقعة في الالتباس والارتباك اليومي لكل الحماقات والخطايا التي قادتني إلى الصمت، هنا في رام الله لا يوجد أقنعة كما لا يوجد ملامح”، ص69 ” الملامح هي الهويّة…” وص73 “لا أقنعة في رام الله، رام الله هي القناع”.
يختبئ نور ليختلي بنفسه (بعيدًا عن أور شابيرا/قناعه)، “احتجبَ في حجرته هذه ليولد في النهاية من رحم مريم المجدليّة”! ص67. يكتشف أنّ الملامح هويّة في عالم غيّبَ وشوَّهَ ملامحَه الأصليّة بقناعه وبقلادة نجمة داود حول عنقه! ص70-69
في بحثِهِ عن الهويّة ص76 يقول نور: ” المدن نوعان، نوع برحم ونوع بلا رحم … نوع ولادة طبيعيّة ونوع تخصيب اصطناعي”. “هو يعتنق القدس متحرّرًا من أعباء رام الله”. ص77-76: “وأبوه بات في الرمق الأخير على وشك الاختفاء في ثقبه الأسود. وأمّا نور فلا يرغب بمثل هذا الفراغ. نور سيلد أباه وأمّه منه. سيلد هويّتَه، سيستعيد ذاتَه، سيحرق قناعَه … وسينبعث من رماده يسترجعه من تأمُّله وهواجسه.” شخصيّة نور تنبعث من الرماد، وشخصيّة والده شهادة دامغة على الهزيمة النفسيّة التي لحقت بجيله!
الكاتب/الراوي يتغنّى بالقدس منذ يبّوس حتّى بيت المقدس ويعدّد من احتلَّها وسبّب خرابَها ويقول: “القدس من خرابِها تبني مجدَها”. ص84
في رسالته، يخاطب مراد صديقه نور ويقول له: “أنت أيّها الحاضر الغائب … الحيّ الميّت … ألم تقل لي إنّك تقبع في مقبرة الأحياء؟”. ص86
يشغل الحوار بينَ “أور البرّاني”/القناع و “نور الجوّاني” /الحقيقي مساحاتٍ كبيرة من خلوة نور مع نفسه ويحاول أن يُقنع مراد برسائله إليه أنَّ الباطن/ نور الجوّاني سوف يتجلّى والظاهر/(أور) نور البرّاني، سوفَ يُحجَب. يجري الحوار بينهما في حجرة نور أمام المرآة حيث يقبع أور في المرآة ويبقى نور الحقيقي واقفًا حيًّا أمامها.
حواريّة الرواية هذه بين نور وأور تكشف كلّ التفاصيل وكلّ الملامح، وحيث أنَّ الملامح هي الهويّة والتفاصيل هي صلب القضيّة، فإنَّ هذه الحواريّة تكشف عمق الأنا الفلسطيني وعمق الآخر الصهيوني، وتترك مجالًا واسعًا للخوض في التاريخ والفلسفة والصوفيّة وكلّ مرافق الحياة الإنسانيّة. ص92-88.
عندما يزور نور الشيخ مرسي ويلمس أنفاسه الصوفيّة، يتكشّفَ له حرمانُهُ أكثر “لم يعهد مثل هذه الحميميّة في بيته بين ثنايا المخيّم، لم يعهد مثل ما رأى عزوةً وأسرةً وأبًا وأمًّا وصخبًا، أسرة طبيعيّة، لم يشعر بها يومًا، متسائلًا في سرِّه هل هذه هي الأسرة؟ أهكذا تُمارَس الأبوّة والأمومة … بلمسة إلهيّة؟!”. الشيخ مرسي حَضَنَهُ وتغاضى عن عدم التزام نور بالفروض الدينيّة، ولم يلحّ عليه بضرورة الصيام الرمضاني، في بيته على الأقلّ!
يلتحق نور ببعثة سلطة الآثار التي ضمّت، بالإضافة إلى باحثي آثار أجانب، نور بقناع أور شبيرا، أيالا الإسرائيليّة وسماء إسماعيل الفلسطينيّة من (حيفا 1948) كما وشمت ذراعها. بين أيالا وسماء إسماعيل تدور حرب كلاميّة تصدّ فيها سماء عنصريّة أيالا، ويبقى نور صامتًا جبانًا بسبب ارتدائه القناع (أور شبيرا) وفي ذات الوقت مفعمًا بإعجابه بسماء ومتراجعًا عن المساهمة في كبح وتفنيد عنصريّة أيالا!
يتحوّل الحوار بين نور وأور إلى سيناريو داخلي متخيَّل بينه وبين البروفيسور الأمريكي المسؤول عن بعثة الآثار التي عمل فيها. وهنا فتح الروائي المبدع باسم خنذقجي بابًا للحوار حول كلّ القضايا الجوهريّة التي تقوم عليها فرضيّة الحاكم وحقيقة المحكوم! وفي مرحلة معيّنة يحسَّ نور أنّهُ “يرتدي” أور متى شاء ويخلعه متى شاء، ولا يقترب منه إذا كان وحيدًا ص107. اسم نور يشعّ أصالةً ولكنَّ أور شبيرا يحوّلُهُ إلى إرهابي ومخرّب. وهنا أيضًا يأتي هذا الحوار على مستوى إنساني محض وليس على مستوى شعارات سياسيّة! ص128 في حوار داخلي مع أور يقول نور: “أنا أريد أن أدركك لكيلا أصير مثلك … أريد أن استخدمك لكي أتحرّر منك”. ينابيع من المعاني تتدفّق من هذا المشهد كما تتدفّق ينابيع المعاني من هذه الرواية العظيمة!
وهنا تحضرُني قصيدة محمود درويش في حواره مع الجنديّة في القدس:
” ماذا بعد؟ صاحت فجأة جنديّةٌ:
هُوَ أَنتَ ثانيةً؟ أَلم أَقتلْكَ؟
قلت: قَتَلْتِني… ونسيتُ، مثلك، أن أَموت”.
في سياق آخر عند تواجده داخل حصار رام الله عندما كان يسكنها، قال درويش في قصيدة “حالة حصار”:
أيها الواقفون على العتبات، أدخلوا
واشربوا معنا القهوة العربيّة
قد تشعرون بأنّكم بشرٌ مثلنا
أيها الواقفون على عتبات البيوت
أُخرُجوا من صباحاتنا،
لكي نطمئنَّ أنّنا بشرٌ مثلكم
يقول نور عن نفسه في رسالته إلى مراد (صديقه السجين) وهو غارق في التنقيب عن الآثار ص120 “أنا نور الشهدي، لم أمت بعد يا مراد. أرجوك لا تقل هذا … لا تنعاني الآن وتزفّني إلى مثوى الجنون والغياب، فأنا النّصب التذكاري الحيّ، أليس كذلك؟ نصب تذكاري عمره أكثر من سبعين عامًا”.
وعندما يلتقي نور بحلقة صوفيّين، يقول: “كنتُ أُحاكيهم فقط، وسعيْتُ بالخشوع والاتحاد مثلهم، لكنّني فشِلْتُ، ربّما لم يكن قلبي يقطر صوفيّةً مثلهم … ربّما كانَ بي أثرٌ من أور … لا أعلم”.
كل رسائل نور لمراد تشكّل فصولًا دراميّة إنسانيّة وفيها تأوُّهات عن معاناته اليوميّة دون حقدٍ أو ضغينة تجاه الآخر!! … هذا العمق الإنساني في حوار نور مع أور يشرّحُ الوضع بروحٍ عالية رفيعة وينمُّ عن تفكير صحّي وشجاعة نفسيّة وجدانيّة ناضجة، هذا العمق لا يشوبُهُ الانحياز أو التقليل من شأن الآخر أو العنصريّة الجوفاء! وفي ص134 يستمرَّ نور بالحوار مع أور قائلًا: “أنا وُلدْتُ من رحم صهيونيّتك ومن النكبة التي ألحقتها بي. وبالتالي أنا جزءٌ منك وأنتَ جزءٌ منّي”… “السرّ يكمن بالمرآة. المرآة هي المعادلة، هي التفاصيل … هي الكائنان: أحدهما مسيطِر وأحدهما خاضع. أنتَ أور مسيطِر وأنا نور خاضع، ولهذا يجب أن أُحطِّمَ المرآة!”.
هذه المرآة، التي يقف قبالتها نور وتعكس له أور فيتحدَّث إليهِ، هذه المرآة تكون واضحة وصافية داخل غرفته عندما يختلي بنفسه، وتتشوّه المرآة عندما تكون خارج الغرفة بفعل تشوّهات محيطِها!!!
وفي سياقٍ آخر يسأل نور مراد في رسالة: “ألم يصلْكَ أيٌّ من هذه البالونات أيّها الأسير اللاجئ؟ … آه … أعذرني لقد نسيتُ أنّ السجن لا سماءَ له!!”. ص139 العفويّة في طرح هذا الوصف للسجن أصدق وأقوى من أي وصف صحفي سياسي مبرمج!! وهذه ميزة ظاهرة في الرواية!
وفي الفصل الخامس يتحوّل أور إلى هاجس نور ص146- 147عندما وطئا أرض كيبوتس مشمار هعيمك: “سمع همسًا صدر عن حقيبتِهِ فإذا هو نور الشهدي يتوسّل أور شبيرا:
نور: أور كن ولدًا مطيعًا كي تكون هذه هي المرّة الأخيرة التي أرتديك بها …
أور: ما بكَ تهمس متوسّلًا الآن؟ أين ذهبَ ثباتُك وتدرُّبُكَ عليّ؟
نور: لهذا المكان هيبة ورهبة … إنّها المرَّة الأولى التي أدخل فيها إلى مستوطنة …
أور: إنّه كيبوتس وليس مستوطنة، كيبوتس له تاريخه وعراقتُهُ، فأهلًا وسهلًا بك في أحد الكيبوتسات الاشتراكيّة في إسرائيل …
نور: هل ستفضحني يا أور … هل ستقول لهم إنَّني لاجئ فلسطيني …
أور: لا أعلم … دعنا ندخل الآن …، … اصمت لكيلا تفضح أمرَنا قبل بداية اللعبة.
فأجاب نور: اللعبة بدأتْ قبل أكثر من سبعينَ عامًا … حين زرع أجدادُكَ هذا الجبل بالجثث والأشجار لإخفاء بقايا معالم قرية أبو شوشة التي هجَّرْتم أهلَها وقتلتموهم إبّانَ نكبة 1948”. هذه الحوارات تنبع بعفويّة من أعمق نقطة في المحيط الإنساني!
عندما يتحدّث نور عن مأساتِهِ كلاجئ، فإنَّ لغته تحوّل الجماد إلى حيّ فتتنهّد السهول وترتعش الغابات ويتحوّل الكهف إلى فضاء والقبور إلى حجارة وتُسمع أصداء عويل معلّق على أغصان الأشجار … ص203-212.
عندما يحلم نور، عند تواجدهما مع البعثة في الجبل، يختفي أور فتولد الأسطورة في البئر المفضي إلى معبد المجدليّة وتنبعث رائحة “النردين” وتتحوّل سماء إسماعيل إلى المجدليّة والمجدليّة تتجلّى بشخص سماء إسماعيل …!! ويستمرّ بالتخيُّل الملامس للحقيقة ص20-18 فتضجّ في داخله الأسئلة: ما الذي أفعله هنا؟ لماذا أنا هنا؟ أما آن لي الانسحاب والتراجع عن مسعاي وقناعي هذا؟ “أنا هو المسخ الذي وُلد من رحم النكبة والأزقّة والحيرة والصمْت!”.
ص230-229 “وأصبح يهوى القطع الفخّاريّة التي يحصل عليها في الآثار لأنّها على درجة عالية من الثرثرة بتاريخها العتيق”.
ص234 حوار نور وأور:
أور: أنتَ أصبحْتَ إنسانًا خلال هذه المدّة بفضلي أنا … بفضل هويّتي …
نور: فإذا ما نزعْتُ قناعَكَ الآن، أفلا أصيرُ إنسانًا؟
أور: ……….
نور: أجبني … أرجوك …
أور: حسنًا … لا أعلم … ربّما … لكنّني أخشى من اختفائي أنا إذا ما أصبحتَ أنتَ إنسانًا!
هذا البعد الفلسفي الإنساني الواقعي الذي يولد من الحوار بين نور وأور، أي بين نور ونفسه، يجعل هذه الرواية استثنائيّة بكلّ ما في الكلمة من معنى. وهذا البعد الإنساني يُخيف أور ويقلقه. أور هو المضطهِد/المسيطِر الذي يشيطن عدوَّهُ لكي يشرّع لنفسه السيطرة عليه. وإذا تبيَّنَ له أنَّ العدوّ إنسان يختفي كمُسيطِر، فتصبح “السيطرة” هي الهويَّة الوحيدة لهذا الكيان المسيطِر.
بعد أن قطعتُ شوطًا في قراءة الرواية، وجدتُني مبهورة بأفكارها وبلغتها القويّة الجميلة بشفافيتها، وبدأتُ أجمِّعُها وأسجِّلها اقتباساتٍ دون اختصار، فرأيتُني كمن ينسخ الرواية، لما فيها من الكمّ الهائل من الجمال اللُغوي والفكري الذي يجعل قراءة مَشاهِدها الصعبة ممكنة، مكوّنًا من كمّ المعاناة بحيرةً يخرج منها الأمل!
أمّا فكرة مريم المجدليّة في الرواية فهي فكرة إبداعيّة عظيمة أضافت للقضيّة وللرواية عمقًا تاريخيًّا وفكريًّا وفلسفيًّا. وهذه الفكرة طبقة عميقة مميّزة من طبقات الرواية!
طوبى لك باسم خندقجي وطوبى لهذا الإبداع الذي وصل أبعد من السماء.