استشهاد خضر عدنان ودرس الإرادة التي لا تنكسر
د. جمال زحالقة
تاريخ النشر: 04/05/23 | 10:24أثار استشهاد الأسير خضر عدنان، فجر الثلاثاء الماضي، بعد إضراب عن الطعام استمر 86 يوما، ردود فعل غاضبة في الشارع الفلسطيني، فأطلقت عشرات القذائف الصاروخية من قطاع غزّة، وحمّلت القيادة الفلسطينية وجميع الفصائل إسرائيل المسؤولية، واعتبرت ما حدث عملية اغتيال إجرامية. كانت تلك المرّة الأولى التي يستشهد فيها فلسطيني كنتيجة مباشرة لإضراب عن الطعام، وقد سبق أن استشهد أسرى مضربون عن الطعام، خلال عملية تغذية قسرية ومنهم، حسين عبيدات (1992) ومحمد بريتيح (1984) وإسحاق مراغمة (1983) وعلي الجعفري (1980) وراسم حلاوة (1980) وعبد القادر أبو الفحم (1970). وكعادتها رفضت إسرائيل تسليم جثمان الشهيد ونقلته إلى معهد الطب الشرعي «أبو كبير» في مدينة يافا، وسارع محامي الدفاع جميل خطيب، إلى تقديم طلب عاجل لمنع تشريح الجثة مطالبا بتسليمها فورا إلى أهله. وقد جرى بحث هذا الموضوع في الاجتماع الأمني، الذي عقده نتنياهو، وبقيت القرار بشأن الجثمان في طي الكتمان إلى حين كتابة هذه السطور.
تلجأ الأذرع الأمنية للدولة الصهيونية إلى الاعتقال بلا محاكمة، حين لا تستطيع تقديم الشخص للمحاكمة، غالبا بسبب غياب الأدلة وأحيانا حتى لا تكشف عن مصادر الأدلة
ويثير استشهاد الأسير خضر عدنان بقوّة قضية الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية البالغ عددهم حوالي خمسة آلاف، يقبعون في 23 سجنا ومعتقلا، خاصة في ظل تهديدات ومخططات السلطات الإسرائيلية بتشديد الخناق عليهم، وجعل ظروف السجن القاسية أكثر قسوة وفظاعة. وقد أعلنت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية حالة التأهّب القصوى في السجون تحسّبا من ردة فعل الحركة الأسيرة على استشهاد رمز من أهم رموزها. كما من المتوقّع أن يزداد التصعيد بعد أن قامت إسرائيل بقصف قطاع غزّة ردّا على الرشقات الصاروخية التي أطلقت في أعقاب الاستشهاد، ويتوقّع المراقبون زيادة التصعيد والتسخين في عدة اتجاهات، حيث هناك غضب فلسطيني عارم لا بدّ من أن يجد له تعبيرا، وإسرائيل من جهة أخرى مهووسة، في المدة الأخيرة، بتآكل الردع وبرغبتها في ترميمه.
خضر عدنان الأسير المضرب
جرى اعتقال الأسير الشهيد خضر عدنان 10 مرّات، أمضى فترات طويلة في اعتقال بلا محاكمة المسمّى (اعتقال إداري) وأضرب عدة مرّات عن الطعام حتى لُقّب بمفجّر «ثورة الأمعاء الخاوية». لقد خاض الأسير خضر عدنان ستة إضرابات عن الطعام، وأجبر سلطات الاحتلال على إطلاق سراحه من اعتقالات بلا محاكمة لاقترابه من خطر الموت. هذه المرّة قررت دولة الاحتلال تلفيق لائحة اتهام ضده لتقديمه للمحاكمة معتقدة بأنّه لن يضرب عن الطعام، لأن الاعتقال «عادي» بانتظار المحكمة، لكنّه أضرب وعاد وأكّد أنّه لن يوقف الإضراب حتى إطلاق سراحه. وكانت التهم الموجّهة ضده هي العضوية في حركة «الجهاد الإسلامي» والتحريض ودعم الإرهاب. ولو جرى تطبيق مثل هذه التهم على الجميع لجرى اعتقال عشرات الآلاف في الضفة الغربية فورا، لأن لائحة الاتهام تستند إلى نشاط علني مثل زيارة بيوت العزاء واستقبال الأسرى المحررين والمشاركة في نشاطات جماهيرية، وهي لا تشمل أي تهمة لها طابع أمني مباشر. اعتبر خضر عدنان نفسه منتميا إلى التيار الإسلامي اليساري، وهو مناضل صلب وعنيد وتحوّل إلى رمز وقدوة، بعد سلسلة من الإضرابات عن الطعام، التي وصل خلالها إلى حافّة الموت ولم يتراجع. وقد زرته، حين كان الأمر ميسّرا ومسموحا، في المستشفيات، ووجدت أمامي ذلك التناقض بين ذبول العضلات وصفاء الذهن، بين وهن الجسد وعاصفة الروح، بين ضعف الجسم وقوّة الإرادة. لقد مثل الأسير الشهيد إرادة لا تنكسر، ما كان لها أن تبرز بهذا الشكل لولا أنّها فضحت انتشار حالة إرادات هشّة ومكسورة.
اعتقالات بلا محاكمة
في السنوات الأخيرة، تعرّض خضر عدنان للاعتقال بلا محاكمة عدّة مرّات، وفي كل مرّة أضرب عن الطعام حتى تحريره من الأسر. وقد ارتبط اسمه ليس بالإضراب عن الطعام فحسب بل بالاعتقال بلا محكمة، الذي يطلق عليه عادة «الاعتقال الإداري»، وهو التعبير الذي نص عليه قانون الطوارئ في عهد الانتداب، والذي أتاح الاعتقال لأشهر طويلة قابلة للتجديد. وقد ورثت الدولة الصهيونية قوانين الانتداب القمعية وأبقتها وزادت عليها، وتدل مراجعة تاريخ الاعتقالات والمعتقلات الاستعمارية البريطانية في فلسطين، على أنّها لا تختلف كثيرا عن آلة الأسر القمعية في ظل الدولة الصهيونية. بالنسبة للمصطلح، تلقيت هذا الأسبوع رسالة من الصديق أندريه زايدمان من جنوب افريقيا، الذي كان من المناضلين ضد نظام الأبرتهايد، وكتب بحثا مطوّلا بعنوان «الاعتقالات بلا محاكمة في جنوب افريقيا: انتهاك حقوق الإنسان كاستراتيجية دولة في الثمانينيات». ودعا زايدمان في رسالته إلى الكف عن استعمال «الرواية الإسرائيلية حول الاعتقال الإداري واستبدالها باعتقال أبرتهايدي بلا محاكمة»، مشيرا إلى أن كم الاعتقالات بلا محاكمة في فلسطين يفوق بأضعاف جنوب افريقيا، التي وصل عدد سكانها حوالي 40 مليونا حينها. وبالمناسبة، فإن دوافع وأهداف وآليات الاعتقال بلا محاكمة في جنوب افريقيا تشبه ما هو قائم في ظل دولة «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط». تلجأ الأذرع الأمنية للدولة الصهيونية إلى الاعتقال بلا محاكمة، حين لا تستطيع تقديم الشخص للمحاكمة، غالبا بسبب غياب الأدلة وأحيانا حتى لا تكشف عن مصادر الأدلة. في كل الأحوال يمثّل الاعتقال الإداري انتهاكا فاضحا لحقوق الإنسان وقواعد المحاكمة المشروعة. هذه الظاهرة ليست هامشية ولا تحدث في حالات شاذة عن القاعدة أو «ضرورة قصوى»، فقد وصل عدد المعتقلين في سجون الأبرتهايد الإسرائيلي بلا محاكمة وبلا لوائح اتهام وحتى بلا تحقيق إلى أكثر من 1000 معتقل من أصل خمسة آلاف سجين، أي حوالي 20% من الأسرى، وهي من أعلى النسب في العالم، إن لم تكن أعلاها. لقد آن الأوان لفتح هذا الملف كقضية مركزية وطرحه على المستوى الدولي، وإسرائيل، بالمقاييس السائدة عالميا، في موقف ضعيف جدا في هذه القضية تحديدا.
الإضراب عن الطعام
يعود تاريخ الإضرابات عن الطعام الى بدايات القرن العشرين، ففي عام 1913 أضربت إحدى المدافعات عن حقوق المرأة في بريطانيا عن الطعام احتجاجا على حرمان النساء من حق التصويت. وفي عام 1920 أضرب المهاتما غاندي للتعبير عن مناهضته لاستعمار الهند من قبل بريطانيا. وكذلك شهدت سجون جنوب افريقيا وأيرلندا الشمالية وتركيا وغيرها إضرابات بطولية عن الطعام، أدّت أحيانا إلى مفارقة بعض المضربين الحياة، دفاعا عن قضايا الحرية. وفي العقود الماضية قام الأسرى الفلسطينيون بإضرابات جماعية عن الطعام لانتزاع حقوقهم الأساسية. كما شهدت ساحة الأسرى إضرابات فردية عن الطعام طالب فيها المضربون بالإفراج عنهم، وكانت إضرابات خضر عدنان المتكررة ضمن هذا النوع من الإضرابات. وقد ذهب البعض إلى الدعوة إلى الامتناع عن إضرابات فردية والتشديد على الإضرابات الجماعية. باعتقادي لا تناقض بين الاثنين وأن للإضرابات الفردية وزنها الخاص وتأثيرها المهم في تحفيز الإضرابات الشاملة والعامة.
يمر جسم المضرب عن الطعام بعدة مراحل، حيث يستهلك الجسم بداية كل السكريات والنشويات، لينتقل بعدها لحرق الدهون لإنتاج الطاقة، ويليها استهلاك العضلات وتلفها، وبعد مضي حوالي 40 يوما تتعرّض أجهزة الجسم المختلفة لتراجع في وظائفها ولخطر الانهيار، ما قد يهدد حياة الإنسان. وعليه فإن القوانين والأعراف الدولية تنص على ضرورة توفير رقابة صحية ملائمة، وتؤكّد أن هدف الإضراب عن الطعام ليس الموت، بل الحصول على مطالب معيّنة. لم يكن استشهاد خضر عدنان مفاجئا لمصلحة السجون الإسرائيلية، فهي كانت على علم بتدهور حالته الصحية، ولديها معلومات كافية عن تبعات 86 يوما من الإضراب عن الطعام على صحة أي إنسان. ومع ذلك رفضت نقله إلى مستشفى مدني وأبقته في مستوصف السجن، الذي لا يتوفّر فيه الحد الأدنى المطلوب للرقابة والرعاية في حالات الإضراب عن الطعام. ورفضت كذلك إطلاق سراحه، وتذرّعت بقرارات المحاكم الإسرائيلية بأن لا خطر على حياته وبأنه قادر على تحمل استمرار الاعتقال. وهذا عذر أقبح من ذنب، لأنّه يعني أن المسؤولية عن اغتيال خضر عدنان بالموت البطيء، ليس مصلحة السجون فحسب، بل إسرائيل الدولة.