سيماء “الأنا “في قصيدةِ الدكتورحاتم جوعيه ” كفاح ثائر”
بقلم : الدكتور جميل الدويهي - لبنان - أستراليا
تاريخ النشر: 09/05/23 | 13:04شاعر وأديب وناقد – صاحب جريدة المستقبل التي تصدر في أستراليا وموقع أفكار إغترابية )
( حاتم جوعيه ) ( الدكتور جميل الدويهي )
لا شكّ في أنَّ الأنا قيدمة قدم الإنسان ، وقد جعلها الرومنطيقيون الحالمون أحدَ الأعمدة التي قامَ عليها أدبهم الحزين في الغالب . ( والأنا عند الرومنطيقي هي محاولة لفتح الكون كما يصفها إرنست فيشر ( ضرورة الفن ) . ثم جاء الرمزيون فلم يرفضوها مطلقا ، وخصوصا عند بودلير، والذي رأى في العالم صورة لنفسهِ : ” أنا الجرح والسكين / أنا الصفحة والخد / أنا أعضاء الجسد والمبضع / الضحية والجلاد “.. ( قصيدة المدمّر نفسه ) . والأنا ليست دائما مُعَبِّرة عن ego الآخر كما يرى البعض، إذ يعتبرونها صورة عن الغرور أو التكبُّر ، فإذا أحصينا ألفاضَ الأنا عند شعراء لوجدناها كثيرة جدا، ولعلّ أصحابها من أبعد الناس عن الكبرياء الفارغ ، ويخطىء من يعتقدون أنّ الأنا محصورة بالرومنطيقيِّين ، فهي ليست بضاعة خاصّة ولا حقا يختصُّ بكاتب أو شاعر دون آخر . وفي الإنجيل المقدس مثلا نعثرُ على الأنا بأعداد هائلة ، وكذلك في كلام الأنبياء ، قبل ولادة الرومنطيقيَّة .
وفي قصائدِهِ يعتمدُ الدكتور الشاعرُ حاتم جوعيه على مقدار غنيٍّ من الأنا ، فقد وقعتُ في العديد من أشعارهِ عليها ، إذ يكونُ المُحِبَّ والثائرَ، والمتمرّد ، والمنتقدَ، والمتفاخر بشعرهِ ، وهذه الظاهرة شائعة لديهِ، ولستُ أقدّر أنَّ هذا التفاخر يبرز في حياتهِ الخاصَّة ، فأنا لستُ أعرفهُ شخصيًّا ، وفي الوقت نفسه أرفضُ ما يميلُ إليه بعضُ النقاد من إعتبار أنَّ الشعرَ صورة مطابقة للشاعر ، فجزء من الشاعر يظهرُ من مرآة القصيدة وجزء آخر لا يظهر، وليسَ كل كا يقولهُ الشاعرُ ينطبق على نفسِهِ . وقد رأيتُ شعراء يشيدون بالخمرةِ ولا يشربونها ، ويطفئون سجائرَهم غضبا في بيت شعري وهم لا يدخنون ، حتى انَّ بعضهم يروي مغامراته مع النساء ، ولعلَّهُ لم يعثر على امرأةٍ واحدة تعشقهُ .
وما يلفتُ انتباهي غالبا في شعر الدكتور حاتم جوعية أنه كثيرا ما يتحدَّثُ عن أناه ، وفي المقابل يصوِّرُ أنا غيره في تعارض تام ، ليبرزَ التناقض العميق بين فئتين من الناس . وفي قصيدتهِ ” كفاح ثائر” تتجلّى الأنا وتتصاعدُ من لغةٍ رقيقةٍ موحية إلى لغةٍ هادرةٍ مزلزلة ، فالقصيدةُ تبدأ بتصوير الشاعر لنفسهِ على أنَّ النساء مفتوناتٍ بهِ :
ما زلتُ حلمَ الغيدِ ، كلّ جميلةٍ – تبقى الصبايا الغيدِ طوعَ بناني
كم من فتاةٍ في غرامي تُيِّمَتْ – دومًا تراني فارسَ الفرسانِ
الأنا هنا نرجسيَّة ، إذ يتباهى الشاعرُ بما لديهِ من جميل القيم التي تجعلُ الفتيات ينجذبنَ إليهِ ويتهافتن على حبِّهِ . النرجسيَّة هذه قديمة قدم العهود في الشعر ، وقد عرفناها في الشعر العربي عند امرىء القيس ، وعمر بن أبي ربيعة ونزار قباني..بل إنَّ قول جوعية :”ما زلتُ حلمَ الغيدِ كل جميلة ” يتوازى عفو الخاطر مع قول امرىء القيس : ”
” لقد كنتُ أسبي الغيدَ أمرد ناشئا ” ( قصيدة تعلق قلبي طفلة عريَّة ) . وهذا التوازي ليس مقصودًا، بل يأتي تواردًا بين الشعراء الذين لديهم الشعور ذاته بما يصفهُ علماء النفس ، منذ فرويد : بالأنا العليا . غير أنَّ ما يلفتُ أنَّ حاتم جوعيه يسمو بالشعر من فضاء الماديّة إلى فضاءِ الروحيَّة والقيم الإنسانيَّة ، فمحور الفخر ليس المظهر الجسدي والوسامة ، بل كون الشاعر ” فارس الفرسان “، وهذا الوصف هو المحط والمحور في البيتين السابقين ، مع ما ينطوي عليه من سمات أخلاقيّة ومعنويَّة وفضائل .
إنَّهُ نوعٌ من الفخر الذي يتسمُ بالطرافةِ وتخففُ من غلوائهِ طلاوةُ الشعر ورونقُ الصياغةِ ، ويسترعي في المكان نفسه من القصيدة وجود معجم لألفاظ رقيقة غير صاخبة : قلبي، مترع ، الآمال ، الإيمان ، ورود فوَّاحة ، أريج النسمات…الخ . وهذا المعجم بالذات يؤكد على أنَّ الشاعر لم يأخذ نفسا عميقا بعد ولم يتطرق إلى مواضيع تقلقهُ ، فالقصيدة لحن يتصاعدُ بهدوءٍ من الرقة إلى قمَّةِ الغضب والتحدِّي .القصيدةُ شجرةٌ تترفع في همس مع الرياح ثمَّ في صراع مع الرعود .
والتحدِّي ليسَ منفصلا عن نقد المجتمع وأناس يتعارضون مع الشاعر قلبا وقالبا ، فهو في مقلب وهم في مقلب آخر . أناس لا ينحصرون في زمن أو عصر ، بل هم يتكررون خارج محدوديَّة الوقت الجغرافيا . أناس ينظر إليهم الشاعر نظرة الضيق والنفور ويكيل لهم الهجاء، لكنه ليس هجاء مبتذلا ولا مثالب تطلق عشوائيا، بل هو مرحلة متقدمة من نقد جارح يُصوَّب إلى الضمير ويشير إلى الفساد المتفشي في المجتمع :
لم أكترث لكلام معتوهٍ وَوَغدٍ حاسدٍ .. ما جاءَ من هذيانِ
لم أكترث لسموم نقد أرعن – ما ينفثُ الأوباشُ من غثيانِ
كلٌّ مريض بالدَّناءَةِ والأذى – باعوا الضميرَ بأبخسِ الأثمانِ
خسئتْ تجارتُهُمْ وخابَ مآلُهُمْ – كانت مكاسبُهُم بسوقِ هوانِ
لقد جسَّدَ الشاعرُ اختلافه عن فئةٍ من الناس تعتمدُ الحسد والنميمة سبيلا للصعودِ، لكنهُ لم يكترث لهم ، فتجارتهم خاسرة وتجارتهُ رابحة، ومكاسبهم تباع في سوق الهوان ، أمَّا أعمالهُ فمُتوَّجة بالشرفِ . وهنا تنفصلُ الأنا عن الآخر في ردَّةِ فعل قويَّة، كما تنفصلُ الخمرةُ عن الماء حتى ما يلائمها لطافة ، وكما يفصلُ إبنُ الرومي نفسهُ عن قوم طاروا و” لحقوا خفة بقاب العقاب، ورسا الراجحون من جلة الناس رسوّ الجبال ذات الهضاب” . ولكن جوعيه يختلفُ عن ابن الرومي إختلافا عميقا ، فقد كانَ ابن الرومي كما يقول طه حسين ( محاضرة 18 آذار 1933 ) يضمر انتقاما اجتماعيًّا ، بمعنى أنه كان يعيب على الناس غناهم ويحسدُ أصحاب النعمة الذين يتمتعون بالحياة بينما هو محروم من هذه المتعة ، أما جوعية فلا يشعرُ بالدونيَّةِ ، بل يتمرَّدُ بروح عالية على أناس لا يستحقون المراكز، بل يأخذونها بالزحف والتملق ، بينما هو محروم منها لأن نفسه كبيرة ولا يفعل مثلهم .
أما وجهُ الشبه بين ابن الرومي وحاتم جوعيه ، فهو أنهما لا يصمتان عن العيوب ، ويتصدَّيان للشذوذ الإجتماعي والأخلاقي الضارب بين الناس . وخير تعبيرعن هذا الموقف ما قاله ابن الرومي نفسه :
ولستُ بهجَّاءٍ ولكن شهادة – لدَيّ أؤَدّيها ، ولستُ بآفكِ
إنها شهادة الحقيقة التي يرفضُ الشاعرُ أن يغضّ الطرف عنها، وهو رسول القيم والمبادىء الجليلة . ومن هذا المنطلق الإيماني بوظيفة الشعر كراصد للحياة ، يقوم حاتم جوعيه بعمليَّة فرز عمودي بين فئتين من الناس ، واحدة تمثل المرائين والأنذال وواحدة تمثل طينته الشعريَّة الصافية التي ترقى عن المادة والتذلل ، فاسمعهُ يقول :
هذا زمانٌ للنذالة والخنا – والحُرُّ فيهِ يكتوي ويُعاني
أمَّا الخسيسُ مُبَجَّلٌ ولهُ الوظا – ئفُ ، ويحهُ في مجمع الخصيانِ
نالَ الوظائفَ كلُّ أكوع آبق – بوشايةٍ ولخدمةِ الشيطانِ
هذا زمانُ الفاسقين ومن مشى – في الخزي والآثامِ والبُهتانِ
نامت نواطيرُ الكرومِ وأصبَحَتْ – كلُّ الثعالبِ ربَّة َ التيجانِ
لكعُ بن لكع صارَ فينا سيِّدًا – والآمرَ الناهي بكلِّ مكانِ
في هذه الأبيات القليلة تعبيرعن عالم نعيشُ فيهِ، فكم من الناس يعانون بأفكارهم النيِّرة وغيرهم يغتبطون بجهلهم وينالون المغانم . والشعر هنا ليس لوحة فنية تخلو من العاطفة ومن التفاعل مع الغير. الشعرُ هو المرآة، هو الصوت والصدى . هو الصورة التي تبدعها ريشةُ فنان لترسمَ واقعا مخيفا على طريقة ” غُويا “، بل وجودا سيطرت فيه حفنة من الناس على دفةِ المجتمع ، وتصدَّرت وبغت وتجبَّرت ، فالخسيسُ له الوظائف والكبير يطردُ عن أبواب المجامع ، وهذا ليس بعجيب في عصر المادَّةِ والتهافت على المال ، وقد نامت نواطير الكروم كما نامت نواطير مصر عن ثعالبها في عصر المتنبِّي، وأصبحَ لكع بن لكع الآمر الناهي، وكم من لكع أصبحَ سيِّدًا في قومِهِ ، إذ إنَّ المقادير تصيّرُ العييّ خطيبا ، حتى وصلَ الأمر بالبعض إلى التباهي بتيجان ومناصب ما هم بأهل لها ، وتسيَّدوا وما هم بأكثر من عبيد لرغباتهم وجبّهم لأنفسِهم .
وفي مقابل الهجوم اللاذع الذي يشنهُ جوعيه على الساقطين المتعالين ، حيث يزخر معجمهُ بألفاظ الهجاء القاسية ، والأوصاف النافرة ، نراهُ ينتقلُ بلغةٍ رقيقة طيبة للحديث عن أناه : ” أنا منشدُ الأحرار ، ضمير كلّ ملوَّع ومتيّم، سدُّوا أمامي كلَّ دربٍ للعلا ، لكنني العنقاء من بين الرمادِ أعود،هيهات أأكل خز سلطان طغى،هيهات أصمت صمت أهل الكهف..” .
إنَّ هذه المواقف هي تفصيل لحالة الشاعر الحرّ الشريف الذي يرى نفسَهُ غريبا كصالح في ثمود، لكنهُ ينتفضُ على الشعور بالأسى والإضطهاد ليطير كالعنقاءِ باتجاه الشمس ، فالفكرُ لا تتسعُ لهُ الهياكل ، والنورُ لا تطفئهُ عتمةُ القلوب، والقويّ يتمرَّدُ على الزمان والأقدار :
هذا زمانٌ فيهِ حقي ضائعٌ – لكن رفضتُ أوامرَ السَّجَّانِ
لا فضّ فوكَ يا حاتم جوعيه وأنتَ تعبّرُ عن كلّ شاعر ضاعت حقوقهُ وَطُمِسَت أنوارُ كوكبِهِ ، وأرادَ الآخرون تهشيمَهُ وتهميشهُ ، كلي يبقوا متحجّرين في مواقعهم كالقبور المكلّسة، لكنهُ أبدا يتمرَّدُ ويصرخُ من وراءِ السجون ، وينيرُ من خلفِ الحجب ، في ثورةٍ هي ثورةِ الذات بل ثورة الأوطان ، وهكذا تخرجُ الأنا من من كينونتها المحدودة لتصير أنا العالم ، ويصير نداءُ الشاعر نداءً لكلِّ حُرٍّ على سطح الأرض ليقوم من كبوتِهِ ، فيحمل سلاحَهُ ويحقق ربيعا طالما سعت البشريَّةُ إليهِ وهي تتلوَّى تحت سياط الألم والرعد ..ولعلَّ الربيعَ العربي الذي يشيرُ إليهِ الشاعر في نهايةِ القصيدة هو الأمل المنشود ، على الرغم من نجاح الأنظمة العربيَّة في تصويرهِ على أنه جحيم ، لكي تخيِّرَ الناسَ بين الإرهاب والنظام : حيلة ما بعدها حيلة نجحت الأنظمة للاسف في تسويقها ، حتى أنَّ بعضها جاء بالمُتطرِّفين لكي يقول للناس : ” إمَّا بقائي في السلطة وإمَّا خطرهم ” ، وهكذا ينتصرُ في حرب لم يكن مقدَّرا لهُ الإنتصار فيها إلا بهذا المكر والخداع .
إنَّ الربيعَ العربي تعرَّضَ لخضَّاتٍ مزلزلة، لكنهُ انتصرَ في تونس ومصر ، فلماذا يحيّدُ أنصارُ السلطة الأنظار عن الواقع لكي يبقى الناس في وهم وخيال ؟ وهل غيرُ الشاعر مَن يضيىءُ على حقيقة حاولَ أعداءُ الحريَّاتِ وحقوق الإنسان التعتيم عليها ؟ وهل غيرُ حاتم جوعيه من رفعَ صوتهُ عاليا غير عابىءٍ بانتقاداتِ المنتقدين والمُخوّنين في لغتهم الخشبيَّة التي اهترأت لكثرةِ الإستعمال ؟ بل هل غير حاتم جوعيه ، الشاعر الشاب الثائر، الأنيق ، الصادق، الفنان الرقيق، المشاغب ، الرومانطيقي الحالم ، الواقعي الرامز ، من ينتقل من موضوع ذاتيّ خاصّ إلى الموضوع العام الذي يتصلُ بالمجتمع والحريَّة والعدالة ، من غير أن يشعر المُتلقي بهذا الإنتقال .
وهكذا ترتقي سيماء الأنا في قصيدة حاتم جوعيه باستمرار من صورة الشاعر المحبوب لدى النساء ، إلى إبراز التناقض في المجتمع بين إنسانين ، واحد يشبهه والآخر يشبهُ نفسه فقط ، فتتباعدُ أناهُ عن أنا الآخر كما يتباعدُ المُوجبُ والسالبُ في حركة الكون ، وصولا إلى ربيع العرب والأوطان الذي يفرزُالليلَ عن النهار، ويضعُ حدًّا قاطعا بين الأمس والغد . وفي الإنتقال من موضوع إلى موضوع تحت صرخةِ الأنا، لا يشعرُ المتلقي بأنَّ الشاعرَ حمَلهُ من جوٍّ إلى آخر، فلا نفور، ولا تنافر، ولا شرخ في المعنى والتعبير، بل دفق وانسياب كانسياب الفراشة في حقول الربيع . وبين هذا وذاك تتأرجحُ لغةُ الشاعر تارة مع العطر والنور ورقةِ النسيم وطورا مع العاصفة التي لا تبقي ولا تذر .
( بقلم : الدكتور جميل الدويهي – لبنان – أستراليا )
– شاعر وأديب وناقد لبناني – رئيس تحرير صحيفة ” المستقبل ” التي تصدر في أستراليا وصاحب ومدير موقع أفكار إغترابية – .