بالعرس بدأت وبالعرس انتهت. قراءتي لرواية” طيور المساء”
خالديه أبو جبل
تاريخ النشر: 10/05/23 | 15:04للكاتبة الفلسطينية ابنة مجد الكروم اسمهان خلايلة
صدرت الرواية عن دار الهدى للطباعة والنشر
الطبعة الاولى 2021
تقع الرواية في 158صفحة من الحجم الوسط
⚘⚘⚘
تبدأ أسمهان روايتها من لوحة الغلاف والذي قام بتصميمها الفنان الطمراوي مبدا ياسين، لتقصّ علينا
اللوحة حكاية طيور اُُقتحمت أعشاشها واُسْتُبيحت أرواحها فسكنت أجسادها ترابَ الشجرة التي امتدت وتكاثرت جذورها لتخترق جدار القبر وحاجز الصمت،
” حبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل”
ليورق الأمل على أغصان الشجرة التي صارت أوراقها تحمل شكل مفتاح الأمل بالعودة… وعلى الجانب الآخر تقف إمرأة شاهدة على مجزرة الاصطياد وحُرمتِه، انحفرت تفاصيله في أخاديد وجهها ووعيها ولا وعيها، لم ينحن لها عود ولا
انكسرت صلابة إرادتها، تدق الأرض بعكاز السنين
وتتحدى الأيام بمفتاح العودة والأمل…
… …. ⚘⚘⚘
منذ البداية تحاول أسمهان أن تُحمّل أعباء سرد الرواية لشخص لا زلنا نجهله ولكنّا علمنا أن الساردة
هي الحاجة هَنَا،وقد حددت الحاجة هنا مكان وزمان
هذه الرواية، كفر قاسم 1956، زمكان أُغلِقَ على أبشع الجرائم دموية، ارتكبها الاحتلال ضد أبرياء عزّل…
ملمح التاريخ هذا الذي رافق البداية ساهم في فتح جرح المتلقي وحجرات ذاكرته المُشبعة بتراكم قضايا وطنية وقومية حساسة مرتبطة بوعي يحمل
آثار سنوات الخمسينات وما سبقها من عقود، والذي لم يستطع التخلص منها ومن ظلالها خاصة أن القضايا لا زالت مفتوحه على صراعات دامية وتحولات فادحة.
لكن أسمهان تنتقل بنا إلى بداية حوارية هي أقرب إلى مشهد مسرحي ، وكأن ما قيل سابقا كان تهيئة
للجمهور لما يليه من مشاهد… فحيث بتبادر لذهن المتلقي انه سيكون الان وجها لوجه أمام مجزرة
أبكت الصخر والشجر… تأخذه الحاجة هنا لزغاريد ومهاهاة أم لطفلها ساعة حمامه وكأنها تُعدُه عريسًا
لليلة زفافه- عادة الأم الفلسطينية-
حوارية انصهرت في قناةٍ حكائيةٍ شكلت تمهيد يهيء المتلقي للرواية ويعطيه انطباعا
عن أشياء كثيرة قبْلّية حتى تتسّع رؤيته لاستقبال
الآتي، تثير فيه الفضول والإندهاش.
لم يطُل بالمتلقي سؤاله عمّن ينقل له ما تسرده الحاجه هنا، فقد كشفت له المؤلفة في الفصل الثاني للرواية عن شخص فارس الشاب الجامعي والمولود في يوم الأرض الأول، والذي عزم على كتابة رواية يوثق بها وقائع المجزرة التي ارتكبها الكيان الصهيوني.
وهنا يلمس المتلقي حميمية هذا اللقاء بين من وُلد يوم معركة الارض- حفاظا على هويتها- كيف انها
(اي معركة الارض) صارت جزءا من الزمكان في ذات
الشاب فارس، وبين الحاجة هَنا التي عاشت ويلات المجزرة التي اختصرت سمّات مجموعة اجتماعية
فجاء صوتها وقد مرت عبره كلّ الاصوات، حافلٌ بالتوتر والغضب والتمزّق والألم ، حافلٌ بالإصرار
والعزيمة والأمل…
وقد منح فارس هذا الصوت المساحة الواسعة
ليبوح بكل ما في صدر صاحبته الذي سئم الصمت
على تاريخ يجب ان تعرف سماته كلّ الأجيال
القادمة،
وما كان الا أن جادت نفس هَنَا المجروحة بكل مكنوناتها، وبدات تسترجع الحكاية من أولها
وتنتشلها من بئر الذكريات.
حيث بقيت ذاكرتها قادرة على التقاط أصوات
الطبيعة والانسجام مع حركتها وايقاعها.
فسردت الحاجة هَنَا تفاصيل حياة قرية تقع
تحت نيّر الاحتلال، فكان المشهد الاول وإن بدأ بأغنية فرح وطرفة صبايا وضحكة، الا انه حمل معه
ضنك العيش والفقر والعوز، الذي يضطر الفتاة القاصر للعمل جنبا الى جنب مع المراة الحامل في شهرها التاسع الى جانب المرأة العجوز والصبية…
في ظلّ قوانين عمل لا تمت للانسانية بصلة
من بعيد وقريب. والأمّر انهن يعملن في ارضي
بالامس القريب كانت ملكا لهم.
( الدار دار ابونا واجوا الغُرب طحونا)
ولم يتردد فارس في اطلاع القارئ على قصة حورية
وما لاقته من تحرش والشروع في إعتداء من قبل
اليهودي صاحب العمل.ص37
ومن ناحية أخرى نرى البنت التي تبقى في البيت
ترعى أخوتها الأطفال أثناء غياب
والدتها في العمل – اطفال يكبرون قبل الأوان،
وقسوة مضاعفة تقع على كاهل المرأة.
لم تترك الحاجة هنا قضية تعليم الفتيات والجهل
ورواسب التخلف الفكري.
ووسط هذا الكم الهائل من الاسى لم يترك الفلسطيني
نفسه للموت بل راح يعمل يتزوج ويعيش الحياة بما استطاع اليها سبيلا من مرح ودعابة ، حكاية أبو نجم مع نسوانه ص53 على سبيل المثال لا الحصر،
ومن خلال سرد هَنا لقصة ابي فارس (مروان)
أطلعتنا على جوانب أخرى كثيرة من حياة القرية
الاجتماعية، حثّ الرجل على الزواج بامراة اخرى
بسبب عدم انجاب الاولى ، صعوبة تعبير المرأة عن عواطفها حتى لزوجها،! قصة مروان وزوجته ص76
وعلى صعيد آخر كيف صارت سياسة الكيان الصهيوني تحدد الاقدار والمصائر، فالسياسة تحدد قول النعم واللا، تحدد الممنوع والمسموح، تحدد السفر او لا، تحدد ان يكون الانسان داخل السجن او خارجه، ( مثل الانتساب للحزب الشيوعي يُدخل صاحبه السجن) ، تحدد إمكانية ان يعمل او أن يُحرم من العمل، ان يحصل على دخل كافٍ او ان يبقى
راكضا وراء الرغيف، ان ينام ملء جفنه او يُدق عليه الباب عند الفجر وينتزع من فراشه لا يعرف لماذا…
كلّ هذه الأمور مجتمعه قد يكون المتلقي عاشها هو أو أحدا من اقاربه، لكن على معرفته بها وعلى المها،
لم يمّل متابعة الرواية بل على العكس كانت عاملا محفزا لقراءة ذاته وتطهير ذاكرته.
وقد نجحت الكاتبة في أسلوبها الفني هذا الذي تمكنت من خلاله تأجيل الحدث الرئيسي حتى الفصل التاسع..وفي ذات الوقت تمكنت من شحن عاطفة المتلقي واستفزاز وعيّه الوطني.
وعودة على ما بَدأتْ به اسمهان روايتها”روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم” لا تطرقوا
الطيور في اوكارها، فإن الليل أمان الله”
كانت هذه وصية محمد “صلعم” ولا أشك في انها وصية الانبياء كافة، لكن كيف بمن فاوضوا ربهم على بقرة، أن يصغوا لكلام نبي، أو يذعنوا لما يسمى” حقوق الانسان”
في مكيدة محكمة الإغلاق ، في زمكان أشد إغلاقا وحلكة وسوادًا، تختلط حمرة الدماء الطاهرة بحمرة
الغروب المبكر ، وعلى قرع طبول الغروب الفزع
” وطلعت يمّه وما ودعت خياتي
وطلعت يمّه وما ودعت رفقاتي”
تعقد الصبايا حلقة الرقص الاخيرة لتتعانق ارواحهن
على عتبة السماء، يتبعهن عامود من دخان شاهد
على قلوب احترقت واخرى فُجعت، وذاكرة لا تنسى
ولن تنسى…
جثم الحزن على صدر كفر قاسم المفجوعة، كان لا بد من مرهم لمداواة هذا الجرح ولو من بعيد
فكان انتصار جمال عبد الناصر في العدوان الثلاثي
1959 ذلك المرهم الآني… فللأسف وللوجع
لا زال الدم الفلسطيني صارخا، مستباحا، وحيدا
لا يملك الا إصراره وتمسكه بحقه في تراب هذا الوطن.
انهت الكاتبة روايتها بفصل كامل ، الفصل الثالث عشر، والذي روت فيه تفاصيل تنظيم عرس جماعي
يكون في الذكرى الثلاثين للمجزرة، ويتزامن مع إصدار رواية الحاجة هنا الشفوية بقلم فارس
، لتنصر الكاتبة بذلك الحياة على الموت، و الفكر السلمي على العدائي.
احببت هذه الرمزية الجميلة بما حملته من دفق فرح وامل وإصرار على بقائنا ووجودنا في هذا الوطن الذي لا وطن لنا سواه…
لكن لم ار اي حاجة لهذا الفصل بشكله، لأنه حسب رايي اعطى برودا لذروة الرواية غير متوقع، بصيغته
التي اتخذت الاسلوب التقريري.
وأحببت أكثر لو انتهت عند ذكر العرس برمزيته دون تفاصيل.
ملاحظة اخرى لا بد منها، كصديقة تعرف اسمهان عن كثب، فقد وجدت جزءا من اسمهان خفي وموزع في جوانب الرواية كلّها ، اسعدني في معظم تواجده
الذي القى بخفة ظلّه، أكان في اسلوب الحوار
او الاغنيات الشعبية او بعض المفردات والعبارات،
لكن هناك جزء كان ظاهرا للعيان مرتين ص12و ص95 حيث ابدى فارس حيرته وتساءل اي لغة يجب اختيارها للكتابة ، الفصحى ام العامية،
وكأني بها تعطي تفسيرا للقارئ عن السبب
الذي جعلها تخلط العامية بالفصحى.
كانت لغتك رائعة وسلسه اسمهان وموفقة كل التوفيق في سرد روايتك الجميلة.
…..
روايتك بدأت بالعرس وانتهت بالعرس
طوبى لشعب لا ينهزم
….
مبارك لك إصدار روايتك الاولى” طيور المساء”
وبانتظار المزيد مما في جعبتك…
خالديه أبو جبل
طرعان ، الجليل الفلسطيني
2/2/2023