واقفون على أهداب التاريخ، من يحمي الديار؟
جواد بولس
تاريخ النشر: 12/05/23 | 17:10لم ينجح الفاشيون في الاستيلاء على اي نظام حكم في دولة ما إلا بالاستفادة من صمت أكثرية المواطنين في تلك الدولة ولا مبالاتهم، او انغماسهم في شؤون حياتهم اليومية، كادحين من أجل لقمة العيش كانوا أو مترفين في أحضان الدولة ودلالها ومالها. ولن تختلف الحالة الفاشية الإسرائيلية الحاضرة عمّا جرى في تلك الدول التي تشكّل فيها نظام حكم فاشي عنصري متكامل أو ديكتاتورية لا تعرف إلا ممارسة سياسات القمع والاضطهاد، خاصة ضد معارضيها أو ضد من تعتبرهم أعداء الدولة وأمنها.
لقد لاحظنا في الأشهر الأخير تناميًا جدّيًا في نشاطات المجموعات الفاشية اليهودية واعتداءاتها الدموية، خاصة على المواطنين العرب؛ ولئن شهدنا في الماضي حدوث مثل هذه الجرائم بشكل متفرق، لا بد أن يقلقنا اليوم اتساعها وشيوعها، وكذلك ما اكتسبته من امتيازات مجتمعية ودعم مالي وقانوني سلطوي سيضاعف من خطورتها وينذر بما ستشكّله في المستقبل القريب علينا حين ستباشر “عملها” بشكل رسمي كأداة سلطوية موكلة بتنفيذ سياسات الترهيب الحكومية والقمع، وطبعًا القتل من دون محاسبة.
لا يستطيع أحد أن يتكهن الى متى ستحافظ هذه الحكومة على تماسكها، ولا ما هي وجهة المجتمع الاسرائيلي النهائية ازاءها؛ فمن الواضح أننا نواجه فصلًا جديدًا في حياة جميع اجنحة الحركة الصهيونية؛ والأبرز في هذا المشهد هي حالة العناق غير المسبوق بين الحركات الصهيونية القومية اليمينية والحركات الدينية الصهيونية على مختلف مشاربها وعقائدها. ومن دون أن استرسل في مآلات وتداعيات هذه الحالة المتشكّلة، أود أن أشير الى نقطة واحدة لأهميتها، برأيي. فاسرائيل تعيش، منذ نهاية الانتخابات الأخيرة وتشكيل حكومة نتنياهو الحالية، حالة انقسام، عامودية وافقية، واضحة بين معسكرين أساسيين؛ يضم المعسكر الأول مناصري حزب الليكود وحلفائه في الحكومة الحالية، بينما يتشكل الثاني من حركة شعبية واسعة تحركها، الى جانب نشطاء وقياديين من أحزاب المعارضة، قيادات هيئات ومؤسسات وجمعيات مدنية، هبّوا جميعهم معترضين على شرعية برنامج الحكومة المسمى كذبًا “برنامج الإصلاحات القضائية”. رفع المعارضون منذ أيام الاحتجاجات الأولى شعار الديموقراطية وضرورة المحافظة عليها كأساس من دونه لن تبقى إسرائيل دولتهم التي عاشوا فيها وقاتلوا من اجلها، بل ستصبح، تحت حكم حكومة نتنياهو، ليفين، روطمان، سموطريتش وابن جفير، دولة ديكتاتورية ثيوقراطية تعتمد سياسة الاكراه الديني والاضطهاد والقمع، ولا مكان للمعارضين فيها. لقد كان واضحًا للكثيرين، وبضمنهم بعض من قيادات تلك المظاهرات المعارضة للحكومة، ان رفع شعار الديموقراطية لوحده غير كاف وغير صحيح؛ وصرّح بعضهم أنه من دون ارفاق شعار الديموقراطية بشعاري انهاء الاحتلال الاسرائيلي، وبتأمين المساواة الكاملة للمواطنين العرب في اسرائيل، لن تتحول حركة المعارضة الحالية الى مفاعل سياسي قادر على الفوز بحكم مبني على اسس جديدة ومغايرة لتلك التي سادت قبل وصول القوى الحالية الى الحكومة؛ علمًا بأن جميع هذه القوى اليمينية قد وصلت الى هذه الحكومة والسيطرة على معظم مرافق الدولة في ظل تلك “الديموقراطية” التي كانت الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة تدّعيها، بينما كانت تمارس احتلالها للارض الفلسطينية وتنفذ سياسات الاضطهاد بحق مواطنيها العرب.
ما زالت أغلبية المتظاهرين ضد الحكومة ومعظم قياداتهم متمسكة بشعار الديموقراطية لوحده، بيد أننا بدأنا مؤخرًا نسمع ونشاهد العديد من الاكاديميين والشخصيات النخبوية اليهودية وهم يعبرون عن ضرورة تبني شعاري “لا للاحتلال ونعم للمساواة”، كجناحين لن تحلق الديموقراطية بدونهما.
قد يعود الفضل في اتساع هذه الظاهرة الى مشاركة فرق من العرب واليهود، الشيوعيين والجبهويين وغيرهم، في تلك المظاهرات وايمانهم بأن مشاركتهم، رغم ما ينقصها من عناصر سياسية نضالية سليمة، هي فعل نضالي لا يوجد مثله أو بديل عنه في قرانا ومدننا، ويمكن ممارسته بشروطهم كما فعلوا وهم رافعين شعاراتهم المميزة ونداءاتهم البارزة ضد الاحتلال ومع المساواة والديموقراطية. إن النجاح في احلال الشعارات الثلاثة وترسيخها كمطالب تنادي بها قطاعات واسعة من المجتمعات اليهودية، من شأنه أن يخلق واقعًا جديدا حيال علاقة الحركة الصهيونية، أو أجزاء واسعة من داخلها، بالأرض، وفي فكرة بناء اسرائيل التوراتية الكبرى والتمسك بالاحتلال؛ ومن جهة ثانية حيال مفهوم المساواة التامة في دولة يجب ان تكون لكل مواطنيها، كي تكون دولة ديموقراطية. وبطبيعة الحال فإن نجاح الحركة الشعبية ضد الحكومة الحالية سيضع حدا لزحف الفاشية وتنفيذ قمعها واضطهادها المتوقعين.
أعود للكتابة عن المظاهرات وأهميتها لأنها الحدث البارز الايجابي الوحيد الجاري بيننا وفي محيطنا القريب والبعيد؛ ولأن استمرارها، رغم نواقصها وانتقاداتنا لها، يبعث في فضاءاتنا المعتمة بريقًا من أمل وايمان بامكانية صد الفاشية ومواجهة هذه الحكومة التي في رعايتها وتحت مظلاتها ستمارس ميليشيات “الحرس الوطني” وتفرّعاته الرسميه وغير الرسمية، قمعها بافراط لم نشهد، نحن المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل، له مثيلا.
لا يمكن لعاقل بيننا أن يستمر في ممارسة حياته العادية من دون إن يفترض بيقينية قاطعة أن اعتداءات الفاشيين على الشباب العربي، في الاماكن العامة وعلى الطرقات، ستصبح مشاهد عادية وشبه يوميه.
لقد شاهدنا تسجيلًا مصوّرًا لعملية قتل الشاب ابن قرية صندلة، ديار العمري ، يوم السبت الفائت؛ وشاهدنا كيف رماه قاتل يهودي مأفون بالرصاص وتركه يغرق في دمائه على قارعة الطريق. وعلى الرغم من اعتقال القاتل ، وهو من بلدة “جان نير” المجاورة لقرية صندلة، لا نستطيع ان نجزم بأنه سيدان وسينال عقابه؛ فاذا قسنا حالته على سوابق مماثلة حدثت في الماضي، لا سيما عندما كان القتلة من بين صفوف قوات الامن، فقد يفلت، مثلما أفلتوا، من العقاب. اننا، كمواطنين في دولة عنصرية، نعيش واقعًا مخيفًا، أمست حيوات أبنائنا فيه في خطر يومي وحقيقي . ففي اسبوع واحد هاجمت فرق يهودية فاشية عدداً من الشبان العرب؛ وكان من الملاحظ ان الهجمات قد نفذت في وضح النهار وفي أماكن عامة ومكشوفة، وقد برز من بينها الاعتداء في احداها على حارس، من ابناء الطائفة الدرزية، كان يمارس عمله في حراسة مزار يهودي في جبل ميرون قرب مدينة صفد، فهاجمه سبعة رجال يهود واعتدوا عليه بالضرب بقضبان حديدية وركلوه وهو على الارض والقوا عليه حاجزًا حديديا فاصيب ونقل الى المستشفى.
اتمنى ألا تنسى هذه الحوادث كما نسيت تلك التي سبقتها؛ فكما قلت في البداية، فان فطريات الفاشية تتكاثر في سهول النسيان أو على ضفاف الوهم والمبالغة أو في حضن الروتين والعجز.
لقد لفت انتباهي بعد مقتل الشاب ديار العمري موقفان لافتان؛ الاول، أطلقته “حركة حماس”من غزة، فأقلقني، وتمنيت لو انها لم تفعل. بعد أن زفت حماس “الى جماهير شعبنا الفلسطيني العظيم الشهيد الشاب ديار العمري الذي ارتقى برصاص مستوطن صهيوني، في بلدة صندلة، بمنطقة مرج ابن عامر بالداخل الفلسطيني المحتل”، كما جاء في الاخبار ، أضافت الحركة على لسانها: “ان شعبنا البطل لن يمرر جرائم الاحتلال ومستوطنيه بلا رد، وسيصعد مقاومته ردا على جرائم الاحتلال وثأرًا على دماء الشهيد عمري وكل ابطال شعبنا وآخرها تلك التي روت ثرى نابلس وطولكرم، فدماء ابناء شعبنا ليست رخيصة وسيدفع العدو الثمن غاليًا”. لقد أصدرت “حركة حماس” في الماضي بيانات شبيهة لهذا البيان، وطالبت فيها أيضا المواطنين الفلسطنيين داخل اسرائيل بتصعيد مقاومتهم والرد على جرائم الاحتلال وتدفيع اسرائيل الثمن غاليًا؛ واذكر انني كتبت حينها راجيا “حماس” وجميع الفصائل الفلسطينية وغيرها من قوى خارجية ان تعفينا من هذا الحب، وان يتركونا ندير شؤوننا كما ترتئيها أحزابنا ومؤسساتنا القيادية، وفي طليعتها “لجنة المتابعة العليا”، وكما توجبها مصالحنا، خاصة في هذه الازمنة العصيبة وشبه المصيرية عندنا. وكما قلت في حينه أقول اليوم: اتركونا نواجه مصائرنا بأنفسنا ومن مواقعنا، فنحن أدرى بشعابنا وبشواطئنا ونعرف، كما عرف أباؤنا، كيف نناضل. كلامكم كما ورد لن يسعفنا، ويخلق بيننا بلبلة والتباسًا نحن في غنى عنهما. احبونا برويّة وبقسط فنحن نحب غزة ونتمنى من أجلها ان تنجحوا أولا برتق أوصال الوطن المقطعة وبعدها بتحرير نابلس وطولكرم وغزة طبعًا.
والموقف الثاني، عندما تنادى أعضاء “لجنة المتابعة العليا” للاجتماع في قرية صندلة كخطوة تقر بجلال المصيبة وللتضامن مع اهل الضحية وقرية صندلة المكلومة. ولقد صرح رئيس لجنة المتابعة، محمد بركة بعد الاجتماع وقال: “كان لنا اجتماع في قرية صندلة واتخذنا سلسلة خطوات من بينها تنظيم مسيرة في القرية بعد ان يتشاور اهل القرية فيما بينهم ، لكن نحن قطريا بصدد تسيير قافلة سيارات من النقب والشمال مرورا بالمثلث وشارع ٦ ، شمالا وجنوبا، وصولا الى القدس واقامة خيمة اعتصام في مدينة القدس. كما نبحث اقامة مظاهرة قطرية كبيرة الى جانب وقفات ثابتة اسبوعية في العديد من القرى والمدن” . لا أعرف اذا كانت تلك الخطوات، فيما اذا نفذت، كافية لمواجهة الحالة المأساوية التي نعيشها، لكنها تبقى مقترحات محلية صادرة عن “لجنة المتابعة العليا” بصفتها الهيئة التي تمثل قضايا الجماهير العربية في اسرائيل، ولها، في علاقاتها معنا، ما لها وعليها ما عليها. ولأنها كذاك فكلي أمل، مثل الاف المواطنين، ان تنجح “لجنة المتابعة العليا” باجتراح الحلول والردود الكفيلة بحمايتنا وبمواجهة خطر الفاشية والفاشيين، فنحن واقفون على أهداب التاريخ. ولأنها صاحبة الحقل والبيدر كنت أتوقع منها كذلك وأتمنى عليها، ان تردّ على بيان “حركة حماس”؛ فلقد عوّدنا الاخوة الفلسطينيون وعوّدناهم بدورنا ، مذ خلق النضال، ان ما لغزة ولنابلس يكون لغزة ونابلس، وما لصندلة وللناصرة يبقى لصندلة والناصرة .