معبد الغريب
حسن عبادي/حيفا
تاريخ النشر: 19/05/23 | 12:47نلتقي اليوم، وتزامناً مع ذكرى النكبة، مع أدب الحريّة، لنحتفي بإشهار رواية “معبد الغريب” للأسير رائد عليان عيد شافعي (والاسم الرباعي مهم جداً للأسير، لأنّ الأسير ليس مجرّد رقم، كما هو الحال في العدد البغيض، فلكلّ أسير اسمه)؛
التقيت برائد (معتقل منذ 28.07.2003) في سجن الجلبوع في بداية شباط من هذا العام، بناءً على توصية زملاء الأسر، الأصدقاء أحمد العارضة ونادر صدقة، أطلّ مبتسمًا وعاتبني قائلًا: “استنّيت هذا اللقاء من زمان!”.
تناولنا مشروعه الثقافي وروايته المرتقبة “معبد الغريب”، الاغتراب داخل الوطن، يافا التي لم تأت بالمركب – يافا قبل البحر، وشطحته الحيفاويّة حين سافر مع الحلم إلى أعالي الكرمل.
حدّثني عن الحلم والواقع، تغيير المفهوم والقيَم وفقدان الذاكرة الجمعيّة وعن قريته المهجّرة – بيار عدس، والوضع داخل السجن، يذكّره بالحكم العسكري في الداخل الفلسطيني إبّان النكبة، خلق مخاتير وزعامات والتحوّل إلى ثقافة عبيد، لا أكثر ولا أقلّ، والصراع مع المنظومة قبل الإدارة، أزمة مؤلمة.
تحدّثنا عن ضرورة تناول إنسانيّة الأسير، فالبطولات يوميًا على شاشات الفضائيات ولسنا بحاجة إليها.
صوّر لي أثر القزاز اللئيم على الأسير، وعن احتضانه لفراسه مرّة واحدة منذ أسره! (كان عمر فراس ستة شهور حين اعتقاله وصار عشرينيّ)، وحدّثني بحرقة أنّه خلال اعتقاله فُجع بوفاة ابنته الكبرى “دنيا” وكانت تبلغ من العمر حينها 6 سنوات بحادث سير (مواليد 07.02.1999 وتوفيت يوم 04.03.2005)، ثم فُجع بوفاة ابنته الصغرى “رانيا” بحادث سير آخر بعدها بـسبعة شهور فقط) مواليد 24.10.2000 وتوفيت يوم ميلادها 24.10.2005) ولم يسمح له الاحتلال باحتضانهما أو إلقاء نظرة الوداع عليهما وبعدها توفى والده دون وداع. صُدمت من حديثه، موجع ومؤلم يا رائد. أخبرته أنّه ليس من عادتي الغوغلة قبل اللقاء الأوّل بالأسير كي لا أكون مرتشي بفكرتي حوله.
في طريق عودتي إلى حيفا رافقني المشهد…وجاءني ما قاله أبو ذؤيب الهذلي:
ما بالُ عَيني لا تجفُّ دُموعُها كثيرٌ تشَكّيها قليلٌ هُجوعُها
تحدّثنا عن الكتابة خلف القضبان وخصوصيّة الأدب، أهميّة الكتابة للأسير كمتنفّس، وحسرته من فقدان الأفق والحاضنة لما يكتبه الأسير، تجاهل المؤسّسات ودور النشر لكتابات الأسير في البدايات، فمَن لا بكّاءات له طريقه مسدود.
عملنا سويّةً مذّاك لإصدار الرواية؛ وقال لي رائد: “فرحتي لن تكتمل إلّا حين أعود مع الرواية لأزور أهلي وبلدي؛ وحبّذا يتزامن الأمر مع ذكرى النكبة”، وفعلاً كان له ما أراد وها نحن نلتقي لليوم لنحقّق له أمنيته وحلمه الكبير/الصغير ونطلق روايته في بلده وبين أهله، وكأنّي به يحلّق الآن في فضاء مكتبة خضوري الجامعيّة، يطلّ علينا بابتسامته الخجولة الواثقة، يسترّق النظر والسمع من الأعالي، رغم قضبان الزنازين.
لكم جزيل الشكر في مكتبة خضوري، وللناشطة الثقافيّة غصون غانم ولكلّ من ساهم في إنجاح إقامة هذا الحفل رغم الصعوبات والعراقيل، من رائد ومن الحركة الأسيرة ومنّي.
حين أعلمت الأصدقاء في سجن نفحة عن هذا اللقاء، ولقاء مركز يافا الثقافي في بلاطة لإطلاق ديوان “خلل طفيف في السفرجل” للأسير أحمد العارضة، تزامناً مع ذكرى النكبة، قام الفنّان الأسير جمال هندي، بوحي فكرة الصديق حسام زهدي شاهين، برسم لوحة بعنوان “الذاكرة اللانهائية” وها نحن نهديها لمكتبة خضوري.
فكرة بوستر النكبة: “الذاكرة اللانهائية” infinity memory
تحتوي فكرة هذه اللوحة على الذاكرة الفلسطينية المتجددة، حيث يولد الطفل الفلسطيني من رحم النكبة المتجسد بحلقة المفتاح، حتى يكبر وينمو ضمن تعاقب الأجيال، ويواصل مسيرته صعوداً على درب ذاكرة العودة نحو فلسطين الوطن، كما وتجسد نافذة المفتاح وحدة الشعب الفلسطيني بكل أطيافه، وتؤكد الحجارة القديمة عروبة فلسطين وتجذر شعبها العربي الفلسطيني في أعماق التاريخ.
شكراً حسام وجمال!
تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، يحلّق من خلالها ليعانق شمس الحريّة المشتهاة، حريّة مؤقّتة عابرة تمدّه بالأمل والعزيمة.
حين قرأت المخطوطة وجدت كلماته تفجّر لغمًا تحت أقدام كلّ من تسلّح بالسراب والوهم الأوسلوي لتخلّصه من عبء يرزح تحته. عادت القيادة من الشتات بأضغاث أحلام لتخلق وطناً من وهم وفرقة وطنية وعبث وفراغ.
ضاعت لُحمة الغربة في الشتات واستبدلت باحتراب داخلي ووهم وخذلان وتيه وعبثيّة مُزمنة، وأكبر إنجاز لها ترويض المقاومة والاقتتال الداخلي المقيت: من يحرس بوابة السجن لدولة الكيان.
حين تجوّلت برفقة صديقي الراحل أحمد دحبور في أزقّة وادي النسناس الحيفاوي تحدّث عن الذاكرةِ والطفولةِ والوجدانِ الفلسطينيّ الذي لا يُنسى، ولا يُغفر نسيانُهُ، تحدّث عن معاني المنفى والعودة، مؤكّدًا بجميلِ كلمتِه أنّ بحرَ حيفا لن يخونَ أبناءَ مدينتِهِ العزيزة، فمنه ستأتي موجةُ العودة القادمة لا محالة.
كان أحمد راويةَ المخيّم، وصل حيفا ولم يعُد إليها حين صُدِم بصدمة العودة، بقي يحملُ فجيعةَ الغيابِ، يحملُ الخيبةَ، لكنّ صوتَ اللجوءِ والعودةِ المشتهاة لم يكن ليخبوَ أبدًا، بل ما زال يشتعلُ يُحرقُ الأفئدةَ… وتحدّث عن تلك العودة الموءودة إلى الجزء المتاح من الوطن. الحلّ هو إعادة المفاتيح واستبدالها بمفاتيح العودة التي لا بديل عنها، ولو بعد حين.
حقّاً؛ ما أقسى أن يكون الإنسان في وطنه دون أن يملك حق الإقامة به.
نعم، صدقت عزيزي رائد؛ “مسألة وقت يا بني لا أكثر ولا أقل، ثم سنعود جميعًا”.
الفلسطيني قضيته عجيبة لأن لعنة الاغتراب تلاحقه في كل زمان ومكان، يعيش حالة اغتراب دائمة، والأصعب هي اغترابه في داخل الوطن، وكأني به يتمنّى ألّا تُحرّر فلسطين لتُحكَم بهذا القبح. تحرير فلسطين لا يأتي إلا مع تحرير الإنسان.
وأخيرا اكتشف رائد قيمة الكتابة، توازي قيمة الأمل بالحرية؛ يعبّر بواسطتها عن آماله وأحلامه، عن ذاته وعن هزائمه وانتصاراته، فالكتابة تشكل مضاداً للوهم واليأس وحارساً أميناً على ذكرياته، والورقة في الأسر هي ذاكرة حية مقابل الحوافظ الإلكترونية في الجهاز النقال الذي احتل عقول الناس.
ها نحن نحتفل بولادة مولود جديد للحركة الأسيرة، نتاج نُطف حروف تحرّرت عبر قضبان الزنازين وأـسلاك السجن الشائكة، لنشارك رائد فرحته ونسمع صدى صراخه: هنا باقون.
جئت من أعالي الكرمل لأبارك لرائد؛
باسم الحركة الأسير وأخصّ بالذكر أحمد العارضة ونادر صدقة،
وباسم حرائر الدامون ممثّلة بمرح بكير،
وباسم زملائي في التحالف الأوروبي لمناصرة أسرى فلسطين،
وباسم زملائي في اتحاد الكتاب الفلسطينيين الكرمل-48،
وباسم زوجتي سميرة التي تعذّر حضورها وباسمي وباسم صديقي مصطفى نفاع الذي رافقني من حيفا،
شكراً للإعلامية هناء فياض التي أعدّت الريبورتاج حول لرائد،
وشكراً للعزيز رائد الذي جمعنا.
أعيد وأكرّر مثنى وثلاثًا ورباع؛ تحرير البلاد بتحرّر آخر أسرانا.
الحريّة للعزيز رائد ولكافّة رفاق دربه الأحرار.
وتبقى الحريّة خير علاج للسّجين.
***مشاركتي في حفل إشهار رواية “معبد الغريب” في مكتبة جامعة خضوري/ طولكرم يوم الثلاثاء 16.05.2023