قراءة في رواية “ذاكرة على أجنحة حلم”
بقلم الأسير هيثم جابر
تاريخ النشر: 22/05/23 | 8:14الاسير هيثم جابر (سجن النقب الصحراوي)
ما أن انتهيت من قراءة رواية الأديبة المقدسية المتميزة نزهة الرملاوي ” ذاكرة على أجنحة حلم” الصادرة عن دار ابن رشيق للنشر والتوزيع -عمان الأردن، إلا وازددت حيرة بعد حيرة، وأخذتني دروب اللغة إلى متاهات النقد والتحليل مع تأكيدي في كل مقال اكتبه انني لست بناقد وانما أكتب رأيي فيما أقرأ.
لكن هناك أعمال أدبية رائعة تجعلك تقف مندهشاً ومحتاراً في ذات الوقت، من أين تبدأ في الكتابة عن هذا العمل الأدبي العظيم والمتميز، تارة تريد أن تبدأ من اللغة التي تبهرك وتشعر أنك أمام ديوان شعر تم اختيار مفرداته بعناية شديدة ورسمت لوحاته الفنية بحرفية شاعر كبير، طوّع اللغة وأسهب في رسم اللوحات الشعرية على مدار رحلته في فصول روايته الرائعة.
أحياناً تريد أن تبدأ من المكان الذي قد يكون بيئة الكاتب وتأثير المكان فيه، وكيفية عرضه للمشاهد والأحداث، أحيانا أخرى تريد أن تبدأ من الرسائل الأدبية والسياسية والاجتماعية والتربوية والثقافية التي يريد الكاتب ايصالها للقارئ بطريقه ممتعه بعيدة عن الملل والخمول، واغلب الأحيان قد تكتب عن القضية الكبرى التي أراد الكاتب عرضها في روايته أو عمله الأدبي وتعرج على القضايا الفرعية الثانوية رغم انها قد تكون مهمه جداً، إلا أن القضية الكبرى في الرواية هي من تستولي على الأحداث وتقودك إلى باقي المسائل الفنية والأدبية.
والحقيقة ان الكاتبة نزهة الرملاوي ابدعت في كل هذه الأمور سالفة الذكر، أبهرتني لغتها وابهرتني رسالتها الأدبية والاسلوب الحديث أو الحداثي التي اتبعته في عرض سرديتها المتناسقة المشوقة، أبهرتني ثقافتها وسعة اطلاعها على الكثير من القضايا التاريخية والحضارية، ولأن رواية الأدبية المقدسية نزهة الرملاوي تحتاج لبحث كامل متكامل لكل موضوع عرضته في دفات ذاكرة أجنحة حلمها، سأحاول الكتابة بإيجاز عما عرضته الكاتبة في روايتها الرائعة.
حيت بدى مستوى اللغة في رواية الكاتبة عالي جداً تستدعي القارئ ليصعد هو بمستواه وتفكيره الى علياء لغتها، وأخذت بالرأي الذي يقول ان الكاتب يجب ان يصعد بتفكير القارئ إلى مستواه اللغوي الذي يجب ان يكون عاليا جداً بعيداً عن الركاكة، وعن اللغة التقليدية، وأن ما يميز الأديب عن غيره هو لغته الراقية والعالية جداً وهذا ما أفادتني به الكاتبة ذات حديث قصير معها.
كنت اشعر انني امام ديوان شعر شاعرة كبيرة كانت ترسم لوحاته الفنية بريشة القافية الموزونة، وايقاع عال واحساس مرهف بحيث وانت تقرأ، تجعل نفسك أمام شاعرة كبيرة من زمن البحتري وابو التمام. اللغة الراقية التي تمتعت بها الكاتبة كانت ترفع القارئ وتحلق به إلى عنان السماء، ايضاً الاسلوب الايحائي الرائع الذي يحترم ويحفر ذكاء القارئ في نفس الوقت. تجعلك تدرك أنك أمام أدبية وروائية مخضرمة أتقنت ادب وفن الشعر السردي بمهارة عالية لدرجة أنك تعتقد أنك تقرأ عن قضية اجتماعية معينة، ولكن بعد أن تدقق في اللوحة الفنية التي ترسمها الكاتبة، تدرك أنك كذلك أمام قضية كبيرة هي أبعد وأعمق من مجرد قضية اجتماعية والمسألة نفسها حدثت وتحدث كل يوم.
القضية الكبرى في الرواية هي عشق القدس؛ كيف لا وهي ابنة القدس، والقدس هي قلب هذه الأمة وقضيتها قضية هذه الأمة واي كاتب ينفصل عن بيئته الاجتماعية والثقافية، سيكون محكوم عليه بالموت الأدبي والفكري، ورواية “ذاكرة على أجنحة حلم” ضمنت لها العيش الأدبي إلى الابد بل والتميز والابداع في هذه الرواية كانت القدس هي البوصلة وهي عنصر الالتحام مع الواقع وهي بيت القصيد. حيث تبدأ الكاتبة بعرض عنصر الزمن دون الإشارة إلى السنة او الزمن السردي التي تحدث فيه الرواية صراحة ، وهذا إبداع فني تحترم فيه الكاتبة ذكاء القارئ عندما تصلها رسالة من عبير عبر الفيسبوك والماسنجر، والتي من خلالها تفهم أن الزمن السردي في الرواية هو بعد ثورة مواقع التواصل الاجتماعي وحديث العهد، تبدأ الكاتبة روايتها بضمير المتكلم انا ليزداد ثقة القارئ ويعتقد بأن هذه الرواية حقيقية حدثت أو تحدث على أرض الواقع، لأن ضمير المتكلم يكون هو الراوي العليم المطلع على كل خفايا الأمور راوي عليم كلي المعرفة لم يخبره احدا بالأحداث ، إنما هو من يصنع هذا الحدث أو ذاك ، ويعيش الأحداث بنفسه ، وهذا من الأساليب السردية المعتادة التي تؤثر على القارئ وتستنفر ملكاته الفنية والفكرية .. تسافر والدة عبير مع زوجها الذي يمارس التدريس في شبه الجزيرة العربية، وعندما تغادر القدس تصاب الأمراض ولا تقوى على العيش خارج القدس لأنها لم تشف إلا عندما عادت الي القدس حيث تعافت وتخلصت من جميع الأمراض التي أصابتها، كان الكاتبة تريد أن تقول إن المقدسي ان اخرجته من القدس كأنك تخرج السمكة من البحر، يموت ولا يعرف العيش بدون القدس لا يعرف الحياة بدون القُدُس وهذا يتم اسقاطه على كل عربي مسلم ان القدس هي قلبه ودمه، لا حياة ولا عقيدة، أو دين دون القدس.
فضلت أم عبير الانفصال عن زوجها والعودة للقدس رغم الثمن الكبير الذي دفعته العائلة من تشرد وشتات بعد أن قام جد عبير بإلقائها هي وشقيقتها ضحى إلى والدهما، ورفض ان يرسل ابنته مع زوجها للعيش خارج القدس لتبدأ رحلة العذاب والتشرد لعبير واختها ضحى اذن الحياة خارج القدس موت ولا يمكن لمن شرب من ماء القدس ان يحيا خارج المدينة السامرة ،المدينة المعجزة المدينة الربانية هذه كانت رسالة الكاتبة وحتى ان عبير بعد كل المعاناة التي تسببت فيها والدتها وجدها كانت ترفض الصفح عنهما، حتى كانت زيارتها للقدس ووقوعها في سحر القدس وقداستها حيث تقول عبير ” اليوم سأغفر لك أمي… سأغفر لك ضياعنا و غربتنا – سأغفر لك أمي وأخبر العالم ان عشق المدينة يقوى على كل عشق في هذه الدنيا” اذن القضية قضية القدس وعشق القدس في الوقت ذاته وفي صورة مغايرة ومشهد مغاير جداً نسجته الكاتبة بلغتها الرفيعة واحساسها الراقي الكبير هو مشهد انتحار ابنة أخيها لعبير غير الشقيق، التي فضلت الانتحار والموت على أن تعيش في منزل غير منزلها وذكريات الطفولة، بعد أن قام والدها بتسريب البيت وبيعه للمستوطنين وكذلك التخلص من عار والدها وما ستعانيه هي وبقية أخوتها من فعل والدها المشين تعرض الكاتبة المشهدين ليكملا بعضهما البعض والرسالة واحدة – لا حياة لنا دون القدس ، والموت والانتحار اشرف وافضل لنا من التنازل عن ذرة تراب من تراب القدس ، وإن أردت أن تذهب إلى ما هو اعمق من ذلك وإلى المدرسة الرمزية فقد تكون والدة عبير ترمز إلى الشعب الفلسطيني برمته وقد تكون ابنة أخ عبير هي الأمة العربية كلها ، التي تفضل شعوبها الموت والسحق في سبيل القدس، ولا تنسى الكاتبة ان تمر على الحضارات العريقة التي عاشت ومرت فوق هذه الأرض وعراقة حضارة العرب القديمة حين تفوز برحلة الي الأردن و تقابل اخوة لها من مختلف الأقطار العربية بحيث تستعرض الوجع العربي برمته والقضايا العربية والقومية وما جرى في سوريا والعراق من قتل وتدمير ما هو له إلا مكمل واستمرار إلى مسلسل التهجير والنكبة التي عانها شعبنا ولا يزال.
استعرضت الكاتبة الوجع العربي، خاصة ما جرى في سوريا والعراق، بطريقه فنية لم يشعر القارئ بالملل أو الانتقال من مكان إلى مكان بشكل ثقيل، كان القارئ يعيش اللحظة والمشهد تلو المشهد ويركب مع نزهة في الباص “عزيزة ” الذي تدور فيه العديد من الحوارات والنقاشات بين ركابه المصاحبين لها في نفس الرحلة. وكل شخص من هؤلاء يمثل حالة رمزية معينة.
نزهة التي سكنها وجع المدينة المقدسة ووجع العروبة وحملته روايتها من فكر قومي وانتماء عروبي واسلامي يعكس شخصية الكاتبة، حتى انها لم تنسانا نحن الاسرى في قلاع الأسر فكانت اسماؤنا تتزين بورود كلمات الكاتبة وتشرفنا بها أن دعتنا لشرب قهوة المساء معها بين سطور روايتها وخرجنا من قبورنا لنتنفس هواء نقياً لبعض الوقت ثم نعود الى عوالمنا وقبورنا مرة أخرى.
الكاتبة المقدسية نزهة الرملاوي لجأت الى النهايات المفتوحة، جعلت باب ذاكرتها مفتوح لتحلق على أجنحة حلمها إلى العشق الذي لا ينتهي وهذه النهايات تناسب القضايا الكبرى والمصيرية مثل قضية تسكننا جميعاً ، وتبقى القدس منارة عشق. وتراتيل محبة واسطورة البقاء” وتبقى نزهة حية الى يوم القيامة في عالم الأدب بهذا العمل الإبداعي العظيم.
***وصلت الرواية للسجن ضمن مبادرة المحامي الحيفاوي حسن عبادي “لكلّ أسير كتاب”