البهاء يطلّ من سماء حيفا
حسن عبادي/حيفا
تاريخ النشر: 29/05/23 | 13:02في إحدى زياراتي لمكتبة الرعاة في رام الله (محطّتي الأولى في كلّ مشوار إلى هناك) ناولني صديقي نقولا عقل كتاب “البهاء باقٍ فينا ومعنا” وقال: “هذا كتاب غير شكل. وصلنا اليوم من المطبعة”؛ (نصوص، إعداد: محمد عليان، 275 صفحة، تصميم الغلاف: سيرين الاجرب، مراجعة وتدقيق لغوي: الكاتب محمود شقير، إصدار: الرعاة للدراسات والنشر وجسور ثقافية للنشر والتوزيع).
ملاحظة استباقيّة لا بد منها؛ قرأت الكتاب عدّة مرّات، وكتبت قراءة حوله منذ سنوات وكنزتها، (تناولته برفقة صديقي الفنان ظافر شوربجي فرسم بريشته لوحة تُزيّن حائط مكتبي مذّاك كُتِب عليها: “الموتى لا يرجعون إلى بيوتهم في المساء”)، لم أجرأ على نشرها في حينه حتى التقيت الأسبوع الفائت بسهام، والدة بهاء، حديثها وعيونها مدّتني بالقوة لأحرّرها للنور.
ولد بهاء، “بطل الكتاب”، يوم 25.06.1992 في القدس، استشهد يوم 13.10.2015، احتجزت سلطات الكيان جثمانه، وبعد معركة قضائية شرسة تحرّر من ثلاجات الاحتلال ليدفن فجر 01.09.2016 في تراب القدس بمقبرة المجاهدين في شارع صلاح الدين، تيمّناً بما كتبه غابرييل غارسيا ماركيز في رائعته “مائة عام من العزلة”: “المرء لا ينتمي إلى أي مكان، ما دام ليس له فيه ميت تحت التراب”، وبهاء ينتمي لقدسه التي يعشقها حتى النخاع.
يتألف الكتاب من قسمين؛ لوحة ترسم مشاعر سهام ومحمد عليان، والدا البهاء، موجعة قاتلة تبعث الأمل والعزيمة، وقسم آخر يحوي مرثيّات ومقالات كُتبت حول البهاء ووصاياه العشرة التي تركها خلفه يوم استشهاده، وجاءت النهاية صادمة بألمها وأوجاع استلام جثمان بهاء ودفنه.
أخذني الكتاب للتفكير عميقاً بثقافة الثكل؛ طالما فكّرت بها، صلت وجلت فيها وأخيراً وجدت الجواب، تخبّطت في سؤال البطولة والضحيّة فوجدت بهاء البطل ضحيّة، تخبّطت في سؤال العام والخاص فوجدت بهاء الخاص العام، تخبّطتُ في سؤال الذاكرة – هل تزول وتخمد فوجدتها سرمديّة أبديّة بين دفّتي كتاب ومتّقدة في عيون والدته سهام.
كتب صديقي إبراهيم جوهر في نص تحت عنوان “فاتحة النصوص”: “هذا الرّجل الذي نذر نفسه وقلمه لمواصلة “ثقافة الحياة” إنّما يعيد تجميع روح البهاء بين دفّتي كتاب لتظلّ نابضة بين أيدي القرّاء. إنّه يعيد الحياة لقائد “ثقافة الحياة” الذي قرّر فجأة أن يذهب بعيداً على طريقته”. حقاً، إنها ثقافة ثكل من نوع آخر.
اختارت صحيفة “المدينة” الحيفاوية لوحة “سيلفي الجثامين” اللوحة الأكثر إنسانية لعام 2020؛ وكُتب تحت اللوحة: “عشرات الجثامين ما زالت تقبع في ثلّاجات السجون وفي مقابر الأرقام، ولم تحظ بعد بإكرامها ودفنها…الجميع صامت صمت أهل القبور. صمتُنا عار!”.
يصف محمد عليان كجرّاح بارع بمشرطه لحظات استلام جثمان بهائه الشهيد بأحرف دامعة، أخذني إلى موسيقى هاينريش شوتز الجنائزية، وما جاء فيها “مبارك الموتى الذين يموتون في سبيل الرب” وسمحت لنفسي تبديل كلمة “الرب” بالوطن، ومعزوفة بيتهوفن الجنائزية (The Funeral Album ) ، آملاً بأن يصحو ابنه الشهيد من غفوته/موته هامساً في أذنه: “هاي مزحة يابا، سامحوني”، لتكون جنازة “رمزية” لكل شهداء الوطن، جنازة رومانسية بعد منتصف الليل، وحضور 15 شخصا فقط للمشاركة في الدفن، ورغم ذلك يقول والده: “لم نكن وحدنا، كانت القدس معنا”.
تخيّلتني مشاركاً في تلك الجنازة، بمراسيم تقشعرّ لها الأبدان، باكياً حزيناً متسائلاً: بأي ذنب قُتلت يا بهاء!
الوفاء لبهاء ورفاقه في الشهادة أن نقرأ وصيّته، ننصت لها ونصغي ونفكّر ونعمل.
احتجاز جثامين الشهداء في ثلاجات الموت ومقابر الأرقام وحرمان الأهل من دفنهم بكرامة يحمل رسالة واضحة المعالم؛ هي ليست من باب الانتقام و/أو العقاب، بل أنكى من ذلك بكثير، هي من باب الاستهتار ب”إكرام الميت دفنه” ولتضع الإصبع على جرحنا الدامي وعجزنا الدائم أمام عنجهيّة وجبروت المحتلّ الغاصب.
نادى بهاء في وصيّته لثقافة الحياة، حياة لأبناء شعب ووطن منكوب بالموت والفقد، شعب يستحق الحياة رغم أنّ هناك من يحاول سحقها ليل نهار.
نادرة أحزان المدينة التي لا لون لها ولا انتماء؛
كان بهاء مبادراً خلّاقاً مغايراً، وكتب أستاذي محمود شقير: “فوجئت ذات صباح بمبادرته الكبرى التي صاغها بدمه الطهور؛ واتجه ذهني على الفور إلى بؤس المرحلة وإلى عسف الاحتلال.
مما له أهميته؛ الانتباه بشكل جدي إلى الجيل الذي ولد بعد اتفاقيات أوسلو 1993، هذا الجيل الذي لم تقدم له الاتفاقيات المذكورة أي أمل، وما زال يشعر بأن مستقبل بلاده غير واضح المعالم…وتزداد الضغوط على هذا الجيل في القدس بالتحديد جراء ما يتعرض له على أيدي المحتلين من إهانات وإذلال وقمع واضطهاد، وكذلك جراء محاولات تهويد المدينة، وتهديد الوجود المقدسي الفلسطيني فيها، وما يترتب على ذلك من محاولات طمس الهوية وتبديدها، ومن محاولات التخريب المنهجي لحاضر الشباب ولمستقبلهم…غير أن أبناء هذا الجيل، لم يعد يحتمل هذه الأوضاع المزرية، راح يعبّر عن نفسه بصراحة متناهية كما أوضحت الهبة الشعبية الأخيرة في تطلع مشروع إلى الكرامة والحرية والأمن والأمان. وكان بهاء من أبرز رموز هذا الجيل”.
صوّر بهاء احتراب الأخوة والاقتتال بينهم، مؤلمٌ ولا مبرر له، وكلّنا “نتقاتل من يحرس بوابة السجن لإسرائيل”!!! فالشهداء من كلّ مكان ومن كل الأعمار يتحولون بعد أن يُقتلوا إلى بوستر معلّق بلا انتماء. يصير الشهيد بين ليلة وضحاها خبراً عابراً، ترافقه صورته، في وكالة أنباء. المكروه يحدث في كلّ مكان، لكنه لا يحدث لنا…. وحدهم من يُرمى المكروه في أحضانهم يتوقف إمدادهم بالطمأنينة ويبدأ تزويدهم بالحزن. كميات كبيرة من الحزن. عندها، تنفجر الدموع ويجتمع المصورون وتُنصَب بيوت العزاء وتُرفَع راية الفصيل لتخبر عن لون الحزن وعن الجهة التي ينتمي إليها. نادرة أحزان المدينة التي لا لون لها ولا انتماء”. (سينما غزة، محمود عمر، ص31)
(بعد يومين سيصدر أمر من وزير الداخلية بسحب تصريح لم الشمل لام بهاء) (ص. 244)، وها هو بهاء يطل علينا من عليائه مبتسماً حين يشاهد والداه سهام ومحمد يحتسيان القهوة في بلكون الحريّة الحيفاوي، وزوجتي سميرة تسمع همساته “هلّا اطمّنت، شهادتي لم تكن عبثاً”.