حديث الصحاري، أول الكرّ خيمة ووحدة
جواد بولس
تاريخ النشر: 09/06/23 | 8:32لم تتوقف احتجاجات القوى المعارضة الاسرائيلية لحكومة بنيامين نتنياهو الحالية؛ حيث ما زالت تنظم في كل نهاية أسبوع المظاهرات في ساحات عدة مدن يهودية بمشاركة عشرات آلاف المواطنين المعارضين لبرامج الحكومة، والمطالبين بالمحافظة على الديموقراطية وعلى استقلالية الجهاز القضائي، والمحذرين من قيام نظام حكم فاشي سيؤدي الى نهاية الدولة التي آمنوا بها ودافعوا عنها.
ما زلنا نجهل كيف سينتهي هذا الفصل في تاريخنا، نحن المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل ، ولا كيف سيكون شكل الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية ومصيره، خاصة فيما يتعلق بالوضع الديموغرافي هناك؛ لكنني اجزم أننا قادرون على التأثير على مجريات الأحداث لا سيما في هذه المرحلة المعقدة، التي بات الكثيرون من الاسرائيليين فيها مقتنعين بأن الابقاء على شكل الاحتجاج الموجود وروتينيته والتمسك بشعاري الديموقراطية والمحافظة على النظام القضائي القديم، بالرغم من أهميته، لن يوقفوا، في النهاية، زحف القوى اليمينية المتطرفة، ولو كان بطيئًا، نحو تحقيق أهدافهم، ولن يمنعهم من الاستيلاء على مرافق الدولة، وشروعهم في تنفيذ “خطة الحسم” التي يريدون منها القضاء على مشروع التحرر الفلسطيني واقامة الدولة الفلسطينية في الاراضي المحتلة؛ هذا من جهة، ومن جهة ثانية، تحديد مكانتنا القانونية، نحن المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل، وفق تراتبية “قانون القومية” الذي وضع اليهود في الدولة في المكانة الأعلى وتحتهم سيعيش الباقون ، غير اليهود.
لقد ضيّعت القيادات العربية كثيرًا من الوقت، في حين كان موقف معظمهم الوحيد الواضح يقضي بعدم المشاركة في مظاهرات الاحتجاج اليهودية بدون أن يطرحوا للناس بديلًا نضاليًا عمليًا، ولا خطة حقيقية تخاطب عقول المواطنين وتستقطبهم من اجل الانخراط في مواجهة برامج الحكومة ومخططاتها القمعية ضدهم.
لست في معرض مناقشة الحجج التي سيقت في تبرير ضرورة مقاطعة مظاهرات الاحتجاج اليهودية؛ فبعضها كانت، بلا شك، ذرائع سياسية تستدعي المناقشة؛ ولكن تبقى أخطرها تلك التي وصفت الحالة الاسرائيلية الراهنة كحرب يهودية-يهودية ستفضي لا محالة الى القضاء على دولة اسرائيل، وسيكون النصر جراءها للعرب / للمسلمين/ للفلسطينيين، بهذا الترتيب حسب هوية المنجم أو المؤمن أو المتمني. لم يجرِ أحد دراسة جدّية حول مدى انتشار هذا الموقف بين المواطنين العرب، ولا حول تأثيره الحقيقي على تحييد جاهزية الجماهير وإخماد استعدادهم للنضال، وخلقه لحالة من “العقم الهوياتي” التي أدّت في الواقع الى بقائهم في منازلهم أو في العمل، غير مستنفرين ولا يخرجون للشوارع من اجل الدفاع عن حقوقهم وعن بيوتهم وعن مستقبل أولادهم وأحفادهم؛ فاسرائيل باتت لدى هؤلاء ومنظّريهم أوهى من خيوط العنكبوت. كما ولم تُعدّ أي جهة عربية، محلية أو خارجية، دراسة جدّية حول صحة هذه المقولة وحقيقة وصول إسرائيل، نتيجة للصدام القائم بين المعسكرين السياسيين الواضحين، “قاب قوس وأدنى” من الانهيار أو الاندثار، كما يزعمون. وعلى الرغم من ابداء بعض المحللين السياسيين اليهود والمتخصصين بقضايا الأمن، مخاوفهم من التصدع الحاصل داخل المجتمع الاسرائيلي، نعرف أن اسرائيل، التي تشهد صراع ابنائها الحالي، محكومة ومحصّنة بعدة عوامل قوة ومراكز قوى، عميقة وخفية، ما زالت تحافظ على صمتها او على احتجاجها الهاديء وبعضها محتجب ولم يقل كلمته الاخيرة في تداعيات الاحداث. ولكن يبقى السؤال الاهم الذي يجب ان يجيبنا عليه أصحاب نظرية “خيوط العنكبوت”، هو : كيف سيضمنوا لنا انه في حالة سقوط نظام الحكم الحالي وفشل حركات المعارضة في صدّ مخططات الحكومة الحالية، سوف تسقط اسرائيل ولن تولد اسرائيل الجديدة بعدّتها وعتادها وعقيدتها المعلنة على الملأ.
لقد كان واضحًا أن غياب المؤسسات العربية القيادية المحلية عن مشهد معارضة هذه الحكومة الخطيرة والمتطرفة ليس طبيعيًا ولن يطول. وهذا فعلا ما بدأنا نراه في الآونة الأخيرة، فقد بدأت لجنة المتابعة العليا تأخذ دورها الطليعي في التحرك التدريجي في محاولة منها لاستعادة ثقة الجماهير بها ودعوتها الى وقوفهم مجددا الى جانبها ومعها في أنشطة الاحتجاج والنضال، ليس على صعيد ما اسماه اليمين زورًا “خطة الإصلاح القضائي” وحسب، بل وربط ذلك بقضية استفحال ظواهر الجريمة والعنف داخل المجتمع العربي، مع التأكيد طبعًا على مصدر الشر الأكبر وهو الاحتلال الاسرائيلي. لقد لبّى آلاف المواطنين نداء لجنة المتابعة ولجنة الرؤساء القطرية وقادة الأحزاب العربية وشاركوا في الثالث والعشرين من شهر أيار/مايو المنصرم في مسيرة السيارات الكبرى التي أدّت الى اغلاق بعض الشوارع الرئيسية في البلاد خاصة ( شارع 1 وشارع 6) ، وشكلت حدثًا لافتًا ليس داخل المجتمع العربي وحسب، انما على مستوى الدولة ومواطنيها. ثم جاءت مبادرة لجنة المتابعة لاقامة خيمة إعتصام أمام مكاتب رئيس الحكومة في القدس في مطلع الاسبوع الفائت. استمر الاعتصام ثلاثة أيام ونجحت الخيمة باستقطاب اهتمام جماهيري واعلامي واسعين حيث أمّها المئات من المواطنين العرب واليهود، مع بروز واضح لوسائل الاعلام العربية والعبرية والأجنبية. لقد شارك في الاعتصام عشرات من رؤساء المجالس العربية والشخصيات السياسية وقادة مؤسسات المجتمع المدني، العرب واليهود. انتهى الاعتصام بالخيمة بمؤتمر صحفي كبير أعلن فيه محمد بركة، رئيس لجنة المتابعة، ان الخطوة القادمة ستكون تسيير مظاهرة حاشدة في مدينة حيفا، وقال: “نريدها مظاهرة بمشاركة عشرات الألوف لتكون حدثًا مفصليا” وأضاف: “نستطيع القول اننا اليوم أقوى مما كنا عليه من قبل، فحراكات الاسابيع الأخيرة جنّدت مجموعات لا يستهان بها من النشطاء الذين زاروا الخيمة وأكّدوا التزامهم بأي قرار مستقبلي في هذا الصدد”. فهل يكون أول الكرّ وحدة فمسيرة فخيمة ؟ ننتظر ونأمل.
لقد شهدت الكنيست خلال الاعتصام في الخيمة وبمبادرة من كتلة الجبهة والعربية للتغيير، بحثًا خاصا حول قضية الجريمة والعنف داخل المجتمع العربي، وذلك بعد أن وقّع أربعون نائبًا على طلب يلزم حضور رئيس الحكومة الجلسة. ومع تصاعد عمليات الاحتجاج العربية وبعد جلسة الكنيست اضطر نتنياهو ان يجتمع لاحقًا مع اعضاء الكنيست العرب الذين قدموا له لائحة مطالب عملية وعرضًا سياسيًا يشرح خلفية تنامي هذه الظاهرة داخل المجتمعات العربية. من الضروري ان ننتبه الى انه الى جانب اعضاء الكنيست العرب، وقّع على طلب عقد الجلسة الخاصة عشرات النواب اليهود. هكذا فقط تم الزام رئيس الحكومة، نتنياهو، بحضور الجلسة كلها، وإلزامه بالرد على موضوعها في بث حي شاهده المواطنون. قد يستخفّ البعض بهذا التعاون وبدعم بعض اعضاء الكنيست اليهود لمبادرة نواب الجبهة والعربية للتغيير، وقد يقلل آخرون من أهمية حضور عشرات الشخصيات اليهودية ومن بينهم اعضاء كنيست ومدراء ونشطاء في جمعيات كبيرة ومحاضرين، ومؤازرة جميعهم لمطالب المواطنين العرب؛ لكنني، وقد كنت هناك وسمعت مداخلات بعضهم، أشعر انهم يؤكدون بحضورهم وبمواقفهم كيف يجب أن يكون النضال ضد سياسات هذه الحكومة وضد مخاطرها. فالنضال اليهودي العربي في ظروفنا الخاصة، هكذا أومن ، شرط حيوي وضرورة سياسية لنجاحنا وصمودنا في وجه الفاشية الداهمة.
قد تكون المظاهرة التي نظمها الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية في الثالث من حزيران/يونيو الفائت في تل ابيب شاهدًا آخر على ضرورة النضال العربي اليهودي المشترك؛ ففي ذكرى مرور ستة وخمسين عامًا على حرب يونيو 1967 سار آلاف المتظاهرين اليهود والعرب حاملين وهاتفين شعارات تندد وتطالب بكنس الاحتلال الاسرائيلي وتؤكد في الوقت ذاته على استحالة تحقيق الديموقراطية مع وجود الاحتلال، رددوا كذلك شعارات تطالب بمساواة المواطنين العرب؛ فلا ديموقراطية بدون مساواة حقيقية كامله، وبعضهم كانوا يهتفون “فري بالستاين” ، فلسطين حرة، وضد التجند في جيش الاحتلال.
كانوا بضعة آلاف، لكنهم هتفوا وسط تل ابيب بالهتافات السياسية الصحيحة التي نحن بحاجة لترسيخها في هذه المرحلة الحرجة. أعرف يهودًا كثيرين، كما قلت في بداية مقالتي، قد توصلوا الى نتيجة مفادها ان ما قاموا به كان مهمًا لكنه لم يعد يكفي اليوم، فنداءاتهم من اجل الديموقراطية استنفدت تأثيرها، وان كانت ضرورية في بداية الاحتجاجات كمقدمة لتعطيل تمكين هذه الحكومة الخطيرة من الشروع بمخططاتها، لم تعد كذلك بعد مرور هذه الاشهر. نحن لا نعرف أعداد هؤلاء الصحيحة، لكنهم موجودون بكثرة وفي جميع البلدات والمدن والمواقع، وهم بحاجة الى من يقودهم أو يرشدهم أو يقف أمامهم ويصوّب هتافهم ضد الاحتلال وضد الفاشية ومن اجل المساواة والديموقراطية. هذه هي مسؤولية القياديين العرب وتنظيماتهم، ومسؤوليتهم في الشروع، اليوم قبل الغد، في بناء جبهة عريضة ضد الاحتلال وضد الفاشية وضد العنصرية والعنصريين. لقد آمن الحزب الشيوعي الاسرائيلي والجبهة الديموقراطية بهذه المباديء وعملوا في بعض الحقب التاريخية بهديها، وما حدث لهم في هذه السنين وتقاعسهم في تحمّل المسؤولية الواجبة ليس الا هجراً لمعتقداتهم التاريخية.
لقد استبشر محمد بركة خيرا، ومعه مجموعة من الخطباء في خيمة الاعتصام في القدس، من الحراكات التي تمت في الايام الاخيرة، وقد وقف على الجبهة الاخرى ايمن عودة وامجد شبيطة وصوّبا بوصلة تل ابيب نحو الاحتلال، وستنضم حيفا في مظاهرة الألوف التي ستقول فيها الجماهير من جديد لكل العالم ولاسرائيل : لن نسكت بعد الآن وسندافع عن حقوقنا ومن أجل بقائنا العزيز والحر في وطننا؛ وللقيادات المحلية ستقول الجماهير : نحن بحاجة للمّ شملكم يا قادة والعودة معا الى مياديننا، فهي هنا، في المثلث والنقب والجليل، وليس، كما يريدها البعض في طهران أو الخليج أو الخليل.