صباح بشير: خطاب الحقيقة والهويّة ﻓﻲ رواﻳﺔ “قناع بلون السّماء”
تاريخ النشر: 10/06/23 | 10:41يتابع الأديب باسم خندقجي مسيرته الأدبيّة، منتصرا لذاته عبر الكتابة، ملاحقا شغفه بثقة سرديّة ولغة بيّنة، مستلهما غزارة معلوماته وقراءاته المستفيضة للنتاجات الأدبيّة، والصّور المحفوظة في ذاكرته ووجدانه.
في هذه المقالة أناقش الجزء الأول من عمله الرّوائيّ “ثلاثيّة المرايا” الصّادر عن دار الآداب في بيروت (2023)، وهذا الجزء بعنوان “قناع بلون السّماء”، وهو يتألّف من سبعة فصول ومن (230) صفحة.
تجري أحداث هذا الجزء بين رام الله والقدس ومستوطنة مشمار هعيمق، ويتولّى روايتها راوٍ عليم كليّ المعرفة والإدارك، يتنقّل بحريّة بين الأزمنة والأمكنة؛ ليدخل عقول شخوصه ويكشف أسرارها وخباياها، ويغوص في أعماقها وعالمها الدّاخليّ.
تمكّن الخندقجي من تطويع مادته اللّغوية لرسم المأساة الفلسطينيّة، تناول تجليّات المكان الرّوائيّ وذلك من خلال تقسيمه إلى ثنائية الحاضر والغائب، وبما تحمله تلك الثنائيّة من دلالات ورموز.
وقد تضافرت رؤية السّرد الموضوعيّ الخارجيّ الحياديّ، مع السّرد الذّاتيّ الدّاخليّ، ليغدو النّصّ متكاملا ثنائيّ الرّؤى.
الأحداث:
تدور الأحداث حول شخصيّة الشّاب الثّلاثينيّ نور ابن المخيّم، وهو شاب أشقر اللّون بعينين زرقاوين، يتحدّث العبريّة والإنجليزيّة بطلاقة، يعتقل والده قبل ولادته، وتتوفّى أمّه بعد ذلك، فيعاني الفقد وصمت الأب ووجع اللّجوء في المخيّم.
هو باحث مختصّ في التّاريخ والآثار، يعمل مرشدا سياحيّا في أحد المواقع الأثريّة في القدس، يمسّه شغف الأرض وبوحها السرّي، فيتّخذ منها شاهدا عليه وعلى قلمه، وإيمانا منه بأهمّية إثبات التّاريخ وإبراز دوره في الحفاظ على الهوية، ودحض التّضليل في رّواية الآخر، يقرّر الشّروع في كتابة بحث تاريخيّ، يتناول فيه سيرة مريم المجدليّة، التي اصطفاها السيد المسيح بحسب المصادر التّاريخيّة، ومنحها ثقته وتعاليمه السّريّة.
يحاول استعادة سيرتها وكشف عناصر العظمة فيها، وإثبات تاريخها من مصادر مختلفة، وذلك لإبراز دورها وروايتها المهمّشة في التّاريخ المدوّن، ونتيجة لغياب السّجلات والوثائق المرتبطة بالأحداث التّاريخيّة التي مرّت بها المجدليّة، يواجه العراقيل والتّحدّيات التي تؤخّره عن إتمام بحثه، مما يشكّل عقبة حقيقيّة في طريقه، وبعد سنوات من الجهد والبحث، يتأمّل بعمق ما تيسّر له من معلومات وبيانات، فيجد بأنّها غير كافية، وأنّ فيها قصورا يستدعي استكماله، لذا يحسم أمره على إحالة تلك المادّة إلى نصّ روائيّ شيّق، وذلك بعد اطّلاعه المكثّف على مجموعة من الرّوايات والدّراسات النّقديّة. ولإتمام مشروعه الرّوائيّ البحثيّ، كان عليه الحصول على بعض المعلومات التّاريخيّة الخاصّة بالقرن الأول الميلاديّ، لذا قرّر التّقدّم للتّطوع في مؤسّسة أميركيّة تعمل على تنقيب الآثار.
بعد ذلك بفترة وبالصّدفة البحتة، يعثر على بطاقة هوية زرقاء بمعطَف جلديّ، اشتراه من سوق الملابس المستعملة في يافا، حين كان يمشي متأمّلا بعض التّحف القديمة واللّوحات الفنيّة المعروضة، يقع اختياره على معطف جلديّ أنيق، يهرع نحوه ويشتريه، وينطلق مغادرا مرتديا إيّاه بفرح، وما أن وضع يده في جيبه الدّاخليّ، حتى تعثّر ببطاقة هوية، غفل عنها صاحبها إثر بيعه للمعطف، يفتحها مطّلعا على بيانات صاحبها وصورته، فإذا بصورة شاب وسيم يحمل اسم “أور شابيرا”.
هاله الاسم العبريّ “أور” بمعناه نور، فعَلَت وجهه ابتسامة، أعاد البطاقة إلى جيب المعطف، وقَفَلَ عائدا أدراجه إلى المخيّم.
يقرّر انتحال شخصيّة أور للاستفادة من بطاقة الهويّة، وتسهيل وصوله إلى المستوطنة للانضمام إلى المؤسّسة الأمريكيّة، والتّطوّع فيها مع بعثة تنقيب الآثار، وذلك لمتابعة تقصّي سيرة المجدليّة وإنجاز بحث تاريخيّ روائيّ مميّز، يضمّه إلى لغة مرهفة متينة، بطلها “نسيم شاكر” الجامعيّ الفلسطينيّ الذي صمد في أرضه وقت النّكبة، مقرّبا منه شخصيّة أنثويّة محوريّة؛ ليخوضا معا سلسلة من المغامرات والأحداث، وخلال المسار التّاريخيّ لروايته، يخطّط أن تكون المجدليّة بطلة عمله الرئيسيّة وإلى جانبها عدد من التّلاميذ والرّسل، أهمّهم بطرس ويوحنا، أما الزّمن التاّريخيّ فيكون بعد صلب يسوع وظهوره الأول في رؤيا المجدليّة. وعلى امتداد الرّواية يوثق أفكاره ومصادر معلوماته عبر بطاقة صوتيّة، يسجّلها لنفسه ولصديقه مراد، القابع في غياهب المعتقل، فتدور بينهما نّقاشات وحوارات متخيّلة عن هموم الحياة والكتابة والبحث الرّوائيّ.
سعى نور إلى التّحرّر واستعادة ذاته، فهو لا يريد الموت على مراحل كأبيه، الذي بات في الرّمق الأخير على وشك الاختفاء، يحتضر صمتا منذ وفاة زوجته وغربته في سجنه وخذلانه، لذا فهو لم يفوّت فرصة الدّعوة التي جاءت من معهد “أول برايت”، والتي اعتبرها رحلة إلى مهد الرّواية، فانطلق من شوارع المخيّم وأزقّته، من رحم خفيّة لا يدركها سوى المنكوب حيث ولد. سار غُدوَةً إلى مدينة القدس بشموخها ونورها الذي لا ينطفئ، وحبّها الذي يجري فيه مجرى الدّم في العروق.
ينقلنا الكاتب لمشاهد تمثيليّة تصويريّة، فيروي لنا واقعا معيشا في القدس بطريقته الخاصّة، تلك التي وصل إليها نور فوجدها تشتعل، يتصاعد التّوتر فيها بعد الإعلان عن إخلاء العائلات المقدسيّة من بيوتها في حيّ الشيخ جرّاح، وهناك في شوارعها وطرقاتها وحجارتها العتيقة، تتعربش أحلامه وآماله على المجهول القادم، فيطلق القلب فراشات في عالم يختلط فيه كلّ شيء، الرّهبة والشّوق والحزن والجمال والابتهال والصلاة، وكلّ التّناقضات التي تشكّل قلب المدينة النّابض.
ثمّة علاقة عشق جمعته بالقدس، فقد كان يتنسّمها لتنحلّ عنه مشاعر الاغتراب والاستلاب، فيحلّق في فضائها مزهوا بها. كانت وحدها من تعطف عليه وتحميه في بيوتها العتيقة في أحلكِ الظّروف.
وفي ملاحقة جادّة للفكرة، واستمرارية دؤوبة لكتابة رّواية المجدليّة، اعتبر فرصة الذّهاب إلى مستوطنة مجدّو إشارة مجدليّة مباركة، تعزّز من توجّهه الرّوائيّ، فقام بتحضير سيرة ذاتيّة مقنعة، تؤهّله لتقمّص الدّور، معتمدا على خبرته كدليل سياحيّ في المواقع الأثريّة في القدس، والانضمام إلى حملة التّنقيب والبحث عن آثار الفيلق الرّومانيّ، هذا الفيلق الواقع بالقرب من قرية مجدل، مسقط رأس المجدليّة.
العنوان:
تطالعنا وجهة نظر المؤلّف ورؤيته الإبداعيّة في تحقيق هذا الانسجام النّصيّ، بداية من العتبات النّصيّة، ثم التّقنيات السّرديّة المتعلّقة بالوصف واللّغة الجماليّة.
العتبة الأولى هي العنوان، وقد جعل منه الكاتب، بنيّة سياقيّة مشحونة بالدّلالة، تمثّل فكرة النّصّ وتخطُّ ملامحه الأولى التي تحلّله وتأوّله.
يشير العنوان إلى القناع الذي تبدّل على امتداد النّصّ، وإلى تحديّات ذلك التّبديل حين وجد نور نفسه مجبرا على ارتدائه وتقمّص شخصيّة أور لحماية نفسه، وبعد أن اجتمعت أبعاد الصّورة وملامحها في وجدانه، كان لا بدّ من استخدام القناع ومواصلة البحث والغوص في أعماق الحدث.
هو عنوان يدفعنا إلى التّفكير مليّا، إذ كيف يمكن لقناع أن يصوّر مأساة التّاريخ ومهازلِ الحاضر، ذلك القناع المؤقّت، الذي أخفى واقعنا الهشّ، من خلاله تمكّن بطل الرّوايّة من النّفاذ إلى ما يختبئ خلف الأقنعة ورؤية الحقيقة وتّناقضاتها العديدة.
كيف لا؟ وقد كان وسيلة للتّخفي ودخول مناطق التّماسّ المحظورة، تلك التي يجتهد الآخر في طمس معالمها وتغييرها؛ لتغدو أكثر تضليلا وتمويها.
بين الماضي والحاضر:
لا يفتأ الكاتب يذكر النّكبة، لا يكاد يغفل عنها أو ينساها، يقول (ص120): “من العار أن نحتفل كلّ عام بذكرى النّكبة على أنّها مجرّد حدث تاريخيّ مضى، فالنّكبة لم تنته بعد، رحمها ما زال خصبا وقادرا على الإنجاب في كلِّ لحظة، إنجاب التّشريد والإبعاد والتّهجير والإقصاء، والتّصنيف والسّلام المزيّف”.
يستمر نور في البحث عن أسرار المجدليّة، وخلال عملية البحث يحكي عن مسار تاريخي هام لقرية “اللجّون” المهجّرة وقرية مجدّو الكنعانيّة، التي يعود تاريخها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، فيتجلَّى التّاريخ واضحا تحت التّراب بكلّ ما يحويه من أصالة وعراقة، وما يملكه من ماض وحاضر.
اعتمد الكاتب على وصفه لقرية “اللجّون” بالصورة المتخيّلة الباقيّة في الأذهان، تلك التي حفظتها الذّاكرة، فبدت فيها أكثر قوة وحضورا وبقاء، وليتمكّن نور من الوصول إليها كان عليه الإحاطة بكلّ خيوط الرّؤى لتكتمل الصّورة.
إذن.. فهذا العمل يعود بنا إلى الماضي البعيد بإِخفاقه ونكساته؛ ليُسقط الواقع المعاصر على أحداثه القديمة، تلك التي تلقي بظلالها وجوانبها الانهزاميّة علينا حتى الآن.
وعبرَ مشاهد تصويريّة، تأخذنا الصّفحات إلى أعماق البطل ومخيّلته، وتنقلنا اللّغة بسلاستها وبلاغتها إلى إيقاع يموج فيها، فتوقظ دواخلنا من سبات عميق، وتشعل فينا الإحساس بالخيبة، لنستفيق على واقع وشرخ مؤلم.
ثمّة حزن يتدفّق من بين السّطور، نستشعره ونحن نقرأ، لا يمكننا الفكاك منه، يغمرنا بإحساس مثقل بالعجز، فلا وطن دون تاريخ، ودون ذلك الماضي الذي يتشكّل من عمق تفاصيله، فأن نفقد التّاريخ يعني أن لا وطن ولا رواية، لا أرض ولا تراب، وكأنّما التّاريخ بأمكنته ورموزه جزء من مفارقات الحاضر وتنبؤات المستقبل، وواقعنا المنذور بالتّشظّي.
العبثيّة والأسئلة الوجوديّة:
يتأثّر هذا العمل بالوجوديّة كمبحث فلسفيّ، يسلط الضّوء على فكرة طبيعة النّفس البشريّة، وفي صورة بانوراميّة مغايرة، نجد التّعبير عن هذه الفكرة، حيث يسعى البطل لإدراك المعنى الخفيّ من الوجود، وذلك بالتّركيز على المأزق الوجوديّ له، ومحاولة الفهم والوصول إلى الحقيقة، خاصّة بعد أن رأى والده قد خرج من السّجن وهو محمّل بالهمّ والعبء الوجوديّ الذي يجثم على صدره، ويشعره بالضّياع والفزع من عالم عبثيّ بلا معنى.
وبأسلوب يرسم الدّهشة، تتجسّد فكرة العبثيّة في الأدب الوجوديّ الكافكاوي، وتتمثل نظريّة “ألبير كامو” وهي: “أنّ العالم مجهول والحياة عبثيّة بلا معنى”.
وأمام الأسئلة الوجوديّة والكونيّة والمصيريّة وأسئلة الهويّة الشّخصيّة والجماعيّة، تلك التي عبّرت عن كلّ ما اختلج في ذات السّارد وتأمّلاته، ورسمت لوحة مأساويّة عبثيّة مؤطَّرة باللّاجدوى من الحياة.
من أنا؟ أين هويّتي؟ أين ظلّي؟ إلى أين أمضي؟ أين مرآتي؟ ماذا أفعل هنا؟ إلى أين نحن ماضون؟ ما هو النّور، وكيف نولد منه؟
تحثُّنا تلك الأسئلة على التّفكر والتّأمّل، فهي تعجّ بالفلسفة العبثيّة والإشكاليّات الوجوديّة التي تفرض على الإنسان، وقد ظهرت في النّصّ من خلال الثنائيّات المختلفة، كالموت والحياة، الظّلم والعدل، الحزن والفرح، السرّاء والضرّاء، الحريّة والعبوديّة، وغيرها.
كما تؤدي تلك الأسئلة دورها في التّرابط والتّكامل للمشاهد المتداخلة، التي يتورط فيها البطل راجيا بإمكاناته المحدودة تجاوز الخوف والتّحدي ومشاعر الاغتراب، وبحثا عن عصب الوجود ينبش الماضي منقّبا في ثنايا التّاريخ مستشرفا المستقبل، متأصّلا بجذوره في الحاضر ليزدهر، مفكّرا متأمّلا بأسئلة الموت والفناء والبقاء، طارحا هواجسه، مُقيِّما علاقاته مع الطّبيعة والسّماء والأرض والبشر.
الحوار:
تتعدّد المشاهد المكثّفة وتتنوّع، من السّرد إلى التّداعي والوصف والمزج بين الرّوايتين، رواية نور وروايّة المجدليّة، والحوارات الدّاخليّة والخارجيّة، هناك لقطات ومشاهد في المخيّم وفي القدس والمستوطنة، تلتقي كلُّها في ذات الفكرة وفي نصّ محكم من اللّغة والإمعان في دقائق الأمور.
تمكّن الخندقجي من نقل صورة الشّخصيّة الرّئيسيّة وطريقة تفكيرها كتمهيد يشي بتطوّر الحدث، نسج تفاصيل روايته متجوّلا بين أروقة الماضي والحاضر؛ ليغدو التّمازج، بين الحكاية والوقائع رشيقا أنيقا متواصلا، وتبدو الأحداث منطقيّة واقعيّة مترابطة، وذلك بتصوير المشاعر والأحاسيس التي اعترت البطل؛ فيتجلّى الحوار بلغة منطقيّة، وتتصاعد المجريات حتى لحظة اكتشاف الآثار التي عانقتها الأرض، وفي غمرة ذلك كلّه يبدأ الصّراع بين وجه نور وأور شابيرا المنتحل، وفي حوار ذاتيّ مشاكس يمارس أور الاستعلاء الواضح على نور، ويمنّنه على مساعدته في التّخفّي، يقول لنور بعد حوار عقيم دار بينهما:
“أنت أصبحت إنسانا بفضلي، بفضل هويتي” فيطلب منه نور ألا يتكبّر عليه ويعامله معاملة إنسانيّة، فيردّ أور:
“أخشى من اختفائي أنا، إذا أصبحت أنت إنسانا”! (ص234)
بصياغة فلسفيّة نقرأ هذا الحوار العميق؛ لنجد أنّ أور يجرّد نور من صّفتهِ الإنسانيّة وينكرها عليه، يُنكِرُ القسوةْ والتّهميشْ والمعاناة، ونزعَ الحقّ الذي يصاحبُ ذلك التّجريد.
يدفع بنا هذا الحوار إلى التّفكير مليّا في العلاقة بين نزع الصّفةِ الإنسانيّة عن الإنسان والعنصريّة ضده، ذلك التّجريد من الإنسانيّة الذي يؤدي إلى العنف والكراهية بين البشر، ويسهّل جرائم القتل ويبرّرها.
اجتهاد نور:
يواصل نور بحثه دون كلل، محاولا التّعمّق في تفاصيل تلك الحقبة الزّمنيّة؛ ليخرج في النّهاية بوعيّ تلك المرحلة، عرّف المجدليّة بأنّها الحضور المتناقض في الحياة، الحضور الثّنائيّ للخير والشرّ، للتّوبة والخطيئة، للملاك والشّيطان.
وعبرَ أحداث تشوّق القارئ، وتدفع به إلى استحضار الذّاكرة الجمعيّة التي تقضّ مضاجع الحنين، يتوصل نور إلى الدّراسة التّحليليّة الأهمّ بالنّسبة له، تلك التي تلخّصت بطبيعة العلاقة بين بطرس والمجدليّة، وهو نص غنوصيّ، نقله وترجمه المؤرّخ “فراس السّواح” في كتابه “ألغاز الإنجيل” وبحسب النّصّ، يتذمّر بطرس من حوار مريم مع يسوع في تجاهل واضح له، طالبا إسكاتها، لكنّ يسوع يوبّخه، فتقول مريم ليسوع بأنّها لا تستطيع التّحدّث مع بطرس بحريّة لأنّه يكره النّساء، فيجيب يسوع: إنّ من يلهم الرّوح هو المخوّل بالكلام، رجلا كان أم امرأة.
كان لهذا النّصّ دلالاته التي كشفت لنور طبيعة العلاقة بين المجدليّة وبطرس، الأمر الذي مكّنه من تحديد مرجعيّة أساسيّة لحبكة روايته.
شعور بالقهر:
لم يكن لنور أن يصل إلى غايته لو لم يكن مشتعلا بالقهر الذي دفعه إلى النّظر الى الأمور بعيون جديدة، ذلك الشّعور بالقهر جاء على لسانه كإشارة واضحة حين قال (ص229):
“أنا لا أرتدي قناعا، أنا أرتدي المسخ الذي ولدَ من رحم النّكبة، والأزقّة والحيرة والغربة والصّمت، صمت أبي وموت أمّي، ومطاردتي في أزقّة المخيّم، ولدت من رحم التّهميش والتّصنيف! أنا المسخ فهل من رحم تلدني مرّة أخرى إنسانا؟ هل من سماء أتجلّى بها نورا ونارا؟”
إشارة محزنة يلقيها نور المسكون بالألم والتّاريخ والقهر، فتأتي رمزيّة القناع ضروريّة في تلك الأحداث والإرهاصات التي يمسك بعضها بتلابيب بعض، فبعد أن اجتمعت أبعاد صورة المجدليّة وملامحها في فكره ووجدانه، كان لا بدّ له من التصرّف والتحرّك؛ ليتعالى على جرحه النّازف في فعل يتصاعد كما الجبال لا في فعل يتهاوى إلى منحدراتها.
ويواصل إصراره على الكتابة قائلا: “بعد كلّ هذا الاستنزاف والإرهاق والانفصال عن الواقع، سأحاول فعل الرّواية، سأرتكبها بكلّ ما أوتيت من مرّة أولى وتخيّل، سأردّ على الخيال بمثله وأكثر، فما التّاريخ في النّهاية سوى تخيّل معقلن”.
النهايّة:
يحلم نور بأنه قد وصل إلى البئر في قرية اللجّون، وعثر على بقايا مقام إسلاميّ فيها، فتجلّت قدسيّة الأرضِ أمامه، واستشعر هشاشة رواية الآخر، وهناك في قعر البئر وسراديبه تراءت له مريم المجدليّة، ولوهلة خيّلّ إليه بأنّها شبيهة لزميلته الحيفاويّة “سماء إسماعيل”.
يختلف هذا المشهد بأجوائه ووصفه التّصويريّ الخاصّ عن المشاهد السّابقة، إذ ارتدى ثوب السّكينة الرّوحيّة التي مثّلتها رواية المجدليّة.
مزج هذا المشهد بين صورة المجدليّة وصورة سماء وشفافية نور، وأخذ شكل التّاريخ المدفون في الأرض وأسراره السّاكنة وروايته الحقيقيّة، الأكثر إمعانا، في الغياب والحضور.
يقوم نور بعد ذلك بإدراج بطاقة صوتيّة جديدة، لصديقه مراد قائلا(ص188): “أظلمت آفاق روايتي المجدليّة، وحلّت مكانها تجلّيات سماء، واصفا إياها بشجرة كرمليّة وارفة، بعبق حيفاويّ، وقمر معطّر باللّيلك، أمّا وجهها فسدرة الْمنتهى، لا بل صباح العيد”.
كذلك ينحاز إلى هويته أمام سماء، التي كان يستمدّ منها الحضور والجرأة والأمل والثّبات، خاصّة بعد ثباتها في مقارعة زميلته “أيالا شرعابي” حول أقدس المسلّمات والثّنائيّات الضدّيّة، كالوجود والعدم، الحقيقيّ والمزوّر، فيتأثّر ويتخلّص من قناعه المزيّف أخيرا.
تنتهي الرّواية بمغادرته بعد إلغاء عملية التّنقيب، بسبب الأحداث التي وقعت في مدينة القدس، يلتقي بسماء خارج المستوطنة فتقلّه بسيارتها إلى رام الله.
في هذه الرواية:
جمع هذا العمل بين براعة التّصوير الشّعوريّ والحركيّ، والمهارة الفنيّة في الصّياغة والأسلوب والفكرة، واللّغة المؤثّرة التي تحاكي عزف قيثارة شجيّ، تناول التّاريخ وربطه بالسّرد والمكان والإنسان والأحداث المستقاة من نبض الحياة اليوميّة، تلك التي قدّمها الكاتب في قالب روائيّ خياليّ عبر معالجة حيّة خلّاقة، حقّقت الوظائف الجماليّة بوقائع متخيّلة مستمّدة من ترابط العناصر الرّوائيّة وتماسكها وقابليتها للفهم والتّأويل.
أجمل باقات الشّكر والاحترام نقدّمها للأديب باسم خندقجي، له التّحيّة والتّقدير وأطيب أمنيات الخير والسّلام.