رواية الليلة الأولى في ندوة اليوم السابع
من ديمة جمعة السّمّان
تاريخ النشر: 07/07/23 | 8:14القدس: 6-7-2023 من ديمة جمعة السّمّان: ناقشت ندوة اليوم السّابع الثّقفيّة الأسبوعيّة المقدسيّة رواية “الليلة الأولى” للأديب المقدسيّ جميل السّلحوت، تقع الرّواية الصّادرة عام 2023 عن مكتبة كل شيء في حيفا ويحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّان التّشكيلي الرّوائي محمود شاهين في 190 صفحة من الحجم المتوسّط، ومنتجها وأخرجها شربل الياس.
افتتحت الأمسية مديرة الندوة ديمة جمعة السمان فقالت:
ويعود لنا الأديب جميل السلحوت برواية جديدة عنوانها الليلة الأولى، بطلها الجهل، فهو غريمه منذ أن كان طفلا ولا زال. وهو مصرّ على محاربته والتّصدي له بقلمه الحاد الذي يفضحه، ويلقي الضوء على تبعاته، وانعكاسه على المجتمعات، والتّسبب بتأخرها. رواية كتبت بحبر مجبول بالوجع وخيبة الأمل.
رواية الليلة الأولى التي صدرت عن مكتبة كل شيء الحيفاوية وتقع في 199ص من القطع المتوسط، لوحة غلافها للفنان محمود أحمد شاهين، وأخرجها شربل الياس. وعلى الغلاف الأخيرجاءت فقرة من مقال الروائي عبدالله دعيس حول رأيه بالرواية، خاصة وأنها تطرح موضوعا اجتماعيا جريئا، يتجنب معظم الأدباء من التطرق له.
جاء في المقال: ” الكاتب جريء في طرحه، حث يتناول بعض العادات والتقاليد السيّئة، وفضح دور المشعوذين ومن يتسترون باسم الدّين خلف الخرافة، وقد تكون لغة الرواية جريئة وفيها ما قد يعتقد أنه يخدش الحياء، لكنها لا تخرج عن الموروث الاجتماعي، وتنكأ جراحا لا يجوز أن يندمل ما دام هناك طلاق يدمّر الأسر وجرائم قتل بدعوى الدّفاع عن الشّرف، ولا أرى فيما عرضه الكاتب ما يعارض الدين، فهو يحرص على بيان رأي الدّين الصّحيح بالاستناد إلى القرآن الكريم والسّنة النبويّة”.
نعم.. رواية الليلة الأولى هي حقا أشبه ما تكون بالصرخة الموجّهة إلى المجتمعات العربية الشّرقيّة التي يقودها الجهل نحو الهاوية، إذ تتسبب بتدمير أسرها التي تشكل نواتها، وتؤدي إلى سقوطها. إذ تدفع المجتمع إلى الرذيلة تحت شعار الشّرف، وإلى النصب تحت شعار الأمانة، وإلى الاستغلال تحت شعار المساعدة والانقاذ.
فما الذي دفع بغادة الغوص بالرذيلة، والسماح للمشعوذ أبي ربيع استغلالها، وما الذي دفع بمريم المحمود للسماح للمشعوذة رسمية (المبروكة) باستغلالها وخسارة ذهبها؟
وما الذي زاد من أزمة موسى النفسيّة بعد أن أصبحت قصة فشله في الليلة الأولى على كل لسان! مما دفعه إلى الهجرة من البلاد؟ وغيرها من الأحداث التي تعكس الواقع وتعبّر عنه من خلال صرخة الكاتب التي تقول: كفانا جهلا.. كفانا سذاجة، كفانا التدخل بشؤون الغير، فهناك “خصوصية” من حق الفرد أن يحافظ عليها.
رسائل قويّة، ونصائح توعويّة غير مباشرة جاءت من الكاتب بحرف جميل ولغة بسيطة شيّقة. غلافها معبر جدّا لما جاء في الرواية، يعبر عن التّيه والضّياع وعدم الاستقرار.
رواية ترجمت إلى اللغة الفرنسية، وسيتم ترجمتها إلى اللغة الانجليزية أيضا.
رواية تعتبر إضافة نوعية للمكتبة العربيّة.
وكتب محمود شقير:
بأسلوب سردي من السهل الممتنع، وبلغة خبرية سلسة وتشويق غير منقوص يكتب الأديب جميل السلحوت رواية تنويرية مكرسة لفضح الجهل، الذي يعشش في رؤوس بعض قطاعات من الشعب، ويجعلهم فريسة سهلة لأطماع الفتاحات والفتاحين الدجالين الذين يسخرون مهاراتهم في الخداع للتربح غير المشروع من أناس اضطرتهم عثرات الزمان إلى اللجوء إلى هؤلاء الدجالين.
نلتقي في هذه الرواية الاجتماعية بنموذجين من هؤلاء؛ الحاجة مبروكة التي تجد فرصتها للاستثمار في عجز موسى عن القيام بواجب الليلة الأولى تجاه عروسه ليلى، وأبي ربيع الذي لا يقل سفالة عن مبروكة في استغلاله لبسطاء الناس حدّ التعدي على نسائهم تحت وهم تقديم العلاج الناجع لهن.
وفي ظني أن هذا الجهل الذي يستحكم في بعض الرؤوس نابع من التدين الشعبوي السطحي المؤسس على فهم مغلوط للدين، ما يجعل زعزعته وهز كيانه غير متيسر بالسهولة المتوقعة، ففي سياق السرد الروائي ثمة استخفاف وعدم اقتناع من ليلى وصبحة وعمر وآخرين بالقدرات الخارقة المنسوبة إلى مبروكة، وثمة تشكيك واضح في ما تفعله، ومع ذلك ظلت أمّ موسى وزوجها على قناعة راسخة بقدرات مبروكة، في حين ظل موقف موسى نفسه ملتبسًا، بل هو أقرب إلى تمكين مبروكة من الاستمرار في مساعيها الخادعة، وظل الاعتماد عليها وعدم التفكير بزيارة أي طبيب هو المعوّل عليه.
بالطبع، وبالنظر إلى الدور التنويري للرواية فإن هذا الخداع لن يستمر، وهنا ينهض عمر شقيق ليلى بالدور الحازم الذي يأخذ زمام المبادرة لفضح الدجل ومعاقبة الدجالين، ما يضطر مبروكة إلى الرحيل من القرية التي كانت تقيم في أحد بيوتها، لتبتعد عن عمر وعن كل ما يمثله من فضح لها ولأمثالها.
أمّا موسى؛ فإنه وبعد طلاقه من ليلى، يختار الهجرة من البلاد؛ كي يبتعد عن التدخل في خصوصياته، هذا التدخل الذي كان سببًا في توتره النفسي الذي أسهم في حالة العجز التي وقع فيها في الليلة الأولى لزواجه، ثم تفاقمت هذه الحالة مع استمرار التدخلات.
لفتت انتباهي قضيتان جاءتا في صالح الرواية؛ لتؤكدا منهجها التنويري الإصلاحي، الأولى متمثلة في استثمار براعة أبي ربيع في الخداع مقابل وعد من غادة بتمكينه من جسدها، إذا ما خلصها من فضيحة فقدها لبكارتها. وقد قام بالدور على أكمل وجه، ما نجّى غادة من الفضيحة وربما من الذبح، وما جعل غادة ترفض إنفاذ وعدها له لأن فيه مساسًا بشرفها.
والثانية لها علاقة بمصير مبروكة، إذ لم تلجأ الرواية إلى الانتقام في حدّه الأقصى، وذلك بأن يسرت لمبروكة علاقة برجل أرمل لديه أطفال، قد تسفر عن زواج، ما يتيح لمبروكة وضعًا يغنيها عن استغلال جهل البسطاء من الناس، وهدر أموالهم من دون طائل.
وقالت د. روز اليوسف شعبان:
تصوّر هذه الرواية الواقعيّة التخلّف والجهل الذي يعيشه بعض الناس في مجتمعنا، وخاصة في ضواحي القدس، حيث يؤمن عامّة الناس بالسحر والشعوذة ويلجؤون الى الفتّاحات والفتّاحين لفك السحر وحلّ مشاكلهم.
وقد وقعت أسرة حمدان في شباك الفتّاحة مبروكة، وذلك بعد زواج ابنه موسى من فتاة أحلامه ليلى، لكنّه عجز عن معاشرتها في الليلة الأولى؛ وخجل من والدته وحماته حين قدمتا للاطمئنان على عذرية ليلى؛ وذلك من خلال فحص ملابسها الداخلية.
وجد موسى نفسه في امتحان يوميّ، لكنه كان يفشل فيه؛ حتى بات حديث العائلة والبلدة؛ فاضطرت والدته للجوء الى الفتاحة مبروكة، وهي دجالة ونصّابة تحتال على الناس وتأخذ نقودهم، وتوصيهم باتباع بعض الارشادات والوصفات التي تتسم بالقذارة والبعد عن العقل والمنطق، اضافة الى كتابة الحجاب الذي تدعي أنّ الجن يحضره لها.
أوصت مبروكة عائشة والدة العريس موسى، وربيحة والدة العروس، بتنفيذ وصفة غريبة للعروسين، كما أوصت بضرب ليلى ليخرج الجن من جسدها، وقد همّ والد ليلى وزوجته، بضرب ليلى؛ لولا اعتراض أخيها عمر الذي ثار على هذه الخزعبلات، وذهب بنفسه الى بيت مبروكة ليضربها، وهناك اكتشف أنّ في بيتها خليلًا لها، فكشف بذلك ألاعيبها وخزعبلاتها، وتسترها بالدين، وضربها بالخيزران هي وخليلها.
ورغم لجوء والد ليلى الى الشيخ واستفساره عن موضوع الشعوذة وجواب الشيخ القاطع بالحديث النبوي:” من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد”. وبالآية القرآنية من سورة النحل:” فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم . إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون “، ورغم النصائح التي وجهت الى والد موسى بأخذ ابنه الى الطبيب، إلّا أنه رفض مدعيًّا أن ابنه ليس مريضا. أمّا ليلى فقد حاولت اقناع والدتها وحماتها بعدم تصديق مبروكة قائلة:” كيف تصدقون امرأة عاهرة محتالة كهذه”؟ ص 99. ثم قالت لأمها:” رزق النصابين على الهبايل والكل رزقه على الله”. ص 99. يعطي والد ليلى لموسى مهلة لمدة سنة وهي ما يوجبه الشرع، فإذا لم يتمكن من معاشرتها يحلّ لها طلب الطلاق. يستمر موسى بالمحاولات مع زوجته دون جدوى. فيقرر الهرب و السفر خارج البلاد .
كذلك الفتاح أبو ربيع الذي كان يعاشر النساء؛ بحجة اخراج الجني الكافر من أرحامهنّ. وقد كشفت ألاعيبه الشابة غادة، وهي فتاة ساحرة الجمال، أحبت سميح وأقامت معه علاقات جنسية في الحقل، وحين كان يأتي لخطبتها، كان والدها يرفض بحجة صغر سنها، لأنه في الواقع كان يستغل ابنته في العمل في أرضه، لكن سميح لم ييأس وأرسل والديه لخطبة غادة، وحين عرفت زوجة عمّ غادة بطلب أهل سميح بخطبة غادة، سارعت هي وزوجها الى بيت غادة، وطلباها لابنهما سعيد.
وافق والد غادة على تزويج ابنته من ابن أخيه دون أخذ موافقة غادة. فاضطرت للتظاهر بالجنون، فأحضروا لها أبا ربيع الذي ادّعى أن جنيًّا مسكون فيها، وطلب الاختلاء بها لإخراجه من جسدها، وحين كشف لها أنها ليست مجنونة وانما تدعي ذلك؛ طلبت منه المساعدة ليخلصها من سعيد، فطلب مقابل ذلك معاشرتها، وقد أقنع أبو ربيع أهل غادة أن الجني سيخرج من رحمها لذا لن تكون عذراء عند الزواج، وافق الأهل على ذلك، فالمهم بالنسبة لهم سلامة ابنتهم. عندها طلب من الجميع مغادرة الغرفة؛ حتى يخرج الجني من رحمها، لكن غادة بعد ان اختلت به، رفضت أن يمسها، وطلبت منه مغادرة البيت قبل أن تفضح أمره.
السرد في الرواية:
اتبع السلحوت أسلوب السرد الذي يعرف بالرؤية من الخلف، وقد بدا لنا الراوي السارد كليّ العلم والمعرفة بشخصيات الرواية، فهو يعرف معتقداتهم، ما يجول بأفكارهم، نفسياتهم، وسلوكياتهم، وقد حرص أن يقدّم الأحداث كشاهد من منظور بعيد، دون أن يبدي رأيه فيها، أو يتدخّل في تغيير أحداثها، وقد حافظت الرواية على الخصائص الأساسيّة العامّة في بنيتها الفنّيّة، من حيث قبول الزمن التاريخيّ الذي يعتمد على تعاقب الأحداث بصورة متتالية ومنطقيّة؛ أي التسليم بانسجام دواخل الشخوص مع الخارج،
اللغة في الرواية:” تشكّل اللغة في الرواية الجانب الأساسيّ في رسالة الإبلاغ، وتتفاوت مستويات اللغة في السرد بتنوُّع الشخصيّات فيه، وبهذا يكون على الكاتب الروائيّ استخدام جملة من المستويات اللغويّة التي تناسب أوضاع الشخصيّة الثقافيّة والاجتماعيّة والفكريّة، فقد تتضمّن الرواية العالم والطبيب والسياسيّ والعامل والسائق ورجل الأعمال الخ…، وعلى الكاتب استخدام اللغة التي تليق بكلّ من هذه الشخصيّات. وقد اجتهد بعضٌ من الروائيّين في تطويع اللغة لجعلها لغة الحياة العامّة والحياة اليوميّة في أبسط مستوياتها وأدناها، وفي استخدام بعضٍ من الألفاظ من الحياة اليوميّة. ( مرتاض،1998، ص. 104.)
وقد أبدع الكاتب جميل السلحوت في تطويع اللغة، فتارة نجدها فصيحة خالية من الاستعارات والتعابير المجازية، وتارة نجدها عاميّة تمتزج بالتناص وآيات قرآنية وأحاديث نبويّة وأمثال شعبية؛ لتتماشى مع ثقافة الشخصيّة وتضفي المزيد من الواقعية عليها. من هذه العبارات مثلا:” بلوى أهون من بلوى، والكساح أهون من العمى”. ص 63. :” والله حسكة وسمكة عظمة اللي تطلع روحك”. ص 63. ” يلعن اليوم اللي شفتك فيه” ص 64. :” لكن المكتوب على الجبين بتشوفه العين” ص 72. كما تخلّلت اللغة حوارات خارجية بين الشخصيات وحوارات داخلية، لكن الحوار الخارجي (ديالوج) طغى على الحوارات الداخلية،
ورغم واقعية الرواية إلا أن بعض سمات الحداثة قد تواجدت فيها، مثل الحوارات الداخلية والاسترجاع. كما في الأمثلة التالية:” تذكّر موسى عندما خطب ليلى أنه لم يعد لديه صبر لانتظار حفل الزفاف، الذي تقرّر بعد الخطبة بثلاثة أسابيع”. ص 24.
تسترجع أمّ موسى ليلة دخلتها، ابتسمت عندما تذكّرت حماتها وهي توصي ابنها:” عندما تنتهي من مهمتك افتح الباب؛ لنطمئنّ عليك وعلى عروسك”. ص 14.
وقد لفتني في هذه الرواية الدور الهامّ الذي ألقاه الكاتب على المرأة سلبًا وإيجابًا. وسأتعرّض في عجالة إلى الشخصيات النسائية في هذه الرواية
يقسم إ. م. فورستر، المشار إليه في مرتاض (2002)،الشخصيّات الروائيّة إلى شخصيّة معقّدة متعدّدة الأبعاد، وهي الشخصيّة المدوّرة التي تشكّل عالمًا كلّيًّا ومعقّدًا، وتتمتّع بمظاهر كثيرًا ما تتّسم بالتناقض، فهي لا تستقرّ على حال لكثرة تقلُّبها، كما تتميّز بقدراتها العالية على تقبُّل العلاقات مع الشخصيّات الأخرى والتأثير فيها، إذ هي تملأ الحياة بوجودها؛ وإلى شخصيّة مسطّحة وهي البسيطة التي تمضي على حال واحد، فلا تتغيّر في مواقفها وأطوار حياتها.( مرتاض، 2002، ص. 88-89.).
الفتّاحة مبروكة: امرأة نصّابة؛ تدعي الايمان والتقوى في حين هي عاهرة وزانية، تمارس السحر والشعوذة، وتضحك على الناس، وتأخذ نقودهم. وهي في الرواية شخصيّة مدوّرة ؛ تمتلك قدرات عالية في التأثير على من حولها، والتأثير على أحداث وشخصيات الرواية،.
ربيحة: والدة العريس موسى، ذات شخصيّة قويّة، تؤثر على زوجها وأولادها، بل إن ابنها موسى لا يجرؤ على مخالفتها، فكان يذعن دوما لتعليماتها وأوامرها. وهي تبدو ساذجة تؤمن بالخرافات والشعوذة. وكان دورها سلبيا إذ حاولت التضييق على كنتها ولومها بأنها هي المسؤولة عن تقصير زوجها، وكانت تلزم ابنها بالانصياع لها، ويمكن اعتبارها شخصيّة مدوّرة بسبب تأثيرها الكبير على زوجها وابنها وعائلتها.
عائشة والدة العروس ليلى: امرأة ساذجة سطحية، تؤمن بالخرافات والسحر، بل إنها حاولت إقناع زوجها بضرب ابنتهم ليلى ؛ لطرد الجن الذي يسكنها ويمنع زوجها من الاقتراب منها، وهي في الرواية شخصية مسطّحة.
سعديّة: تتصف بالسذاجة والجهل الكبير، فقد سمحت لأبي ربيع بمعاشرتها ؛ كي يطرد الجن من رحمها، وبعد ذلك قالت في نفسها:” والله لولا إنه علاج لقلت إنه زنا في وضح النهار”. وهذا يدلّ على مدى غبائها وسذاجتها، وهي أيضا شخصية مسطّحة.
ليلى العروس: اتصفت ليلى بالذكاء والحنكة وقوّة الشخصيّة، فهي لا تؤمن بالسحر والشعوذة، وحاولت نهي والدتها وحماتها بعدم الانصياع للفتاحة مبروكة؛ لأنها تراها دجّالة ونصّابة. كما تتصف ليلى بالصبر فقد احتملت وضع زوجها سنة كاملة، وكانت دائما تحاول التقرّب منه وتشجعه على الدخول بها؛ لكنه لم يفلح. ورغم ذلك كانت تبدي ليلى قوة وصلابة أمام الناس، فلم تكترث لكلامهم، وكانت تتصرف بشكل عادي معهم دون خجل أو توتّر. ورغم وعي ليلى إلّا أنها لم تبدُ في الرواية ذات شخصيّة مدوّرة؛ فهي لم تنجح في التأثير على زوجها ولا في إقناع حماتها ووالدتها بصدق وجهة نظرها في موضوع الشعوذة والسحر.
مريم: لا تقلّ سذاجة وجهل عن عائشة وربيحة وسعدية، وقد بدت شخصيتها مسطّحة، فقد توجّهت مريم الى مبروكة؛ لتطلب النجدة بعد أن ساورتها الشكوك في زواج زوجها من ابنة خاله الأرملة، فطلبت مبروكة خمسين دينارا، لكن مريم لم تملك المبلغ؛ فوضعت عندها قلادة ذهبية(10 ليرات ذهبية) رهينة، وهي أكثر بكثير من المبلغ الذي طلبته مبروكة، وقد وصفت لها مبروكة وصفة غريبة مكوناتها مواد نجسة؛ وطلبت أن تسقي زوجها من هذا الشراب؛ فشعر بغثيان صاحبه تقيّؤ ودخل المستشفى، وتبين ان لديه تقرّحات في المعدة وتسمّم.
غادة: تتصف غادة بالقوّة والذكاء والحنكة، وهي ابنة مطيعة لوالدها، تساعده في الفلاحة حتى أنه اعتمد عليها أكثر من اعتماده على أولاده الذكور. تخلصت غادة من ابن عمها بالحيلة، حيث تظاهرت بالجنون، كما أنها تمكّنت بفضل دهائها من جعل الفتاح ابي ربيع، يحلّ مشكلة فقدانها لعذريتها بحجة إخراجه الجن من رحمها وبذلك فإنّ الجنيّ يفضّ بكارتها حين يخرج. والأهم من ذلك أن غادة كشفت نذالة وكذب أبي ربيع، وطردته من البيت، دون أن تسمح له بمسّها، وهي في الرواية تمثّل الشخصية المدوّرة المؤثرة التي ساهمت في تغيير أحداث الرواية لصالحها.
تمثل غادة وليلى جيل الشباب الواعي الذي يدحض الخرافات والسحر، و يؤمن بالعقل والمنطق، وبما أن المرأة هي من تربي الأجيال؛ لذا فإنّ الأمل موجود بتربية جيل واعٍ يميّز بين الشعوذة والمنطق، بين الإيمان والدجل، وعليه فإنّ الكاتب يعوّل على المرأة الشابّة بإحداث تغيير جذري في الكثير من المعتقدات السائدة في مجتمعنا و التي لا تمتّ إلى الواقع والمنطق بصلة.
وكتب عفيف قاووق:
في روايته ” الليلة الأولى” ينطلق الأديب المقدسيّ جميل السلحوت من واقعة فشل العريس”موسى” من الدخول بعروسه “ليلى”، وكان من تداعيات ذلك (الفشل)، لجوء أهل العروسين إلى العرَّافين والمشعوذين لإعتقادهم بأنّ هناك من يسعى للتفريق بينهما.
وبغية التحذير من مغبّة الركون لمثل هذه التُرّهات والأكاذيب التي يقع ضحيتها ضِعاف العقول وقليلي الإيمان، تقدّم لنا هذه الرواية نماذجَ محسوسةً عن بعض الحالات التي يمكن أن تكون قد حصلت أو ما يشابهها في العديد من بيئاتنا ومجتمعاتنا سيّما الريفيَّة منها. نظراً لأنّ الطيبة وبساطة التفكير وسيطرة التقاليد والموروثات، وحتى الحكايات القديمة لا تزال تفعل فعلها في مثل هذه المجتمعات.
ينطلق الكاتب في روايته من الليلة الأولى، وهي ليلة الزفاف أو ما يُسمى بليلة الدخلة، والإنعكاسات النفسية والسلبية على العروسين، التي تبيح التقاليد والعادات اقتحام خصوصيتهما بذريعة ضرورة إثبات عذريّة وبكارة العروس، وأيضا فحولة العريس ورجولته. لأن مسألة إنتظار أهل العروسين على الباب بإنتظار أن يخرج العريس عليهم بالدليل القاطع على إتمام المهمة المنتظرة، هي عادة قديمة ومتأصّلة : “عندما تنتهي من مهمّتك إفتح الباب لنطمئنّ عليك وعلى عروسك”. وتكون والدة العروس بانتظار أن تزغرد فرحا بعذريّة إبنتها، ووالدة العريس ستزغرد هي الأخرى إحتفاءً بفحولة إبنها وفتوحاته. ولكن الليلة الأولى للعروسين موسى وليلى جاءت مخيّبة للآمال بعد أن فشل العريس في إنجاز الواجب؛ لتدخل عائلة العروسين في دوامّة البحث عن الأسباب المانعة. ويستقر الرأي على أنّ العريس مربوط بعملٍ سفليّ، ولا بدّ من فكّه لدى أحد الشيوخ او الفتّاحين.
ولأنّ مهنة الشعوذة لا تقتصر على الرجل دون المرأة، فقد قدّم لنا الكاتب كلّا من الفتّاح أبي ربيع، المُنتحل صفة العالم الروحاني، وأيضا الفتّاحة رسميّة والتي تُعرف بالحاجة مبروكة، كنماذج عن هؤلاء العرّافين، ويذكر لنا بعض النماذج من ألاعيبهما وتظهيرهما على أنّهما بعيدان كلّ البعد عن كلّ ما يمت إلى الأخلاق أو الدين بصلة. وهذا ما حدث مع عطاف المحمود التي بعد خمس عشرة سنة من الزواج لم ينفع معها أيّ علاج، حتى جاءت الى أبي ربيع، الذي أوهم الجميع أنّه استخرج الجنّ الكافرمن رحمها فحملت، وصارعمرابنها عشر سنوات. لكنّ الهمس بقي يدور بين الجميع بأنّ هذا الإبن يشبه أبا ربيع ولا يشبه والده.
ومن الممارسات الشاذّة التي درج عليها أبو ربيع، ما حصل مع سعديّة زوجة محجوب عبد السميع التي جاءت إليه متوهّمة أنّ الشفاء على يديه، فكان تشخيصه لحالتها وجود جنّي كافر داخلها وسيتغلّب عليه بمساعدة أتباعه. “رفع ثوبها وعاشرها معاشرة الأزواج وهو يردّد إدخل يا مؤمن أخرج يا كافر”.
حالة ثانية تذكرها الرواية للإضاءة على وضاعة أبي ربيع واستغلال ضحاياه، وهو ما حدث مع الفتاة غادة التي تورّطت بعلاقة جسدية مع سميح السّلمان على أمل الزواج ، وسبق لأهله أن تقدّموا لخطبتها. لكن المثل الذي يقول “جحا أولى بلحم ثوره” ولأن العادة أيضا جرت على أنّ “إبن العمّ بنزّل العروس عن الفرس”، فقد تظاهرت غادة بالجنون حتى لا تُرغَم على الزواج من إبن عمّها ويفتضح أمرها. فوجدها أبو ربيع لقمة سائغة ليراودها عن نفسها مقابل إقناع والديها بأنها لا تصلح للزواج من ابن عمها. وتظاهرت غادة بقبول هذه المساومة حتى تحقيق مرادها.
أمّا الحاجة مبروكة فلا تقلّ سفاهة ونذالة عن أبي ربيع، وهي المرأة المستترة بخرزات مسبحتها والتي تلوك بعض الآيات القرأنية لإيهام الزبائن بشأنيتها المباركة، ومن ألاعيبها أنّها “تبصق في فم كل إمرأة تتعسّر ولادتها وتضربها فيتيسّر كلّ شيء”. وتجهد الحاجة مبروكة في تقديم وصفاتها العلاجيّة الغريبة، من أجل إيهام زبائنها بدقّة العلاج، وسنذكر على سبيل المثال الوصفة التي وصفتها لمريم المحمود حتى لا يتزوّج زوجها عليها، بعد أن رهنت مريم قلادتها الذهبية عندها لقاء العلاج المزعوم، الذي هو “قليل من دم النفاس، مع قليل من بول المرأة، وظفرين من أصابع يديها وقدميها، وملعقة صغيرة من الكبريت وأخيرا رماد قطعة من ملابس الزوج، وخلط المحتويات جميعها في كوب ماء ساخن بعد إضافة ملعقة شاي، وتقديم الكوب للزوج ليشربه”، ولكن النتيجة حصول مضاعفات صحيّة للزوج كادت تفقده الحياة.
وتأكيدا على إنعدام الأخلاق والورع لدى الحاجّة مبروكة، وكي تنقل المعركة إلى طرفي القضيّة أوحت بأن مشكلة العروسين نتيجة عمل سحر بناء لرغبة إمرأة في خدّها شامة، وهي أوصاف تنطبق على أم العروس، ممّا تسبّب في إثارة الشكوك بين العائلتين، إنتهت بخراب البيوت والوصول إلى الطلاق بين العروسين.
يسجَّل للأديب جميل السلحوت إبرازه لحال التناقض في المفاهيم بين جيلين، جيل الآباء وجيل الأبناء، فأظهرت الرواية الآباء بأنهم ينقادون بالفطرة للموروثات والتقاليد والجري وراء العرّافين والمشعوذين، في حين أنّ الرواية قدّمت الأبناء أكثر وعياً وإدراكاً في رفضهم لهذه المعتقدات وانحيازهم للعلم والمنطق. فنجد العروس ليلى تحاور العرّافة مبروكة قائلة: ” من أين لها كل هذه القدرات، وما دمتِ بهذه المقدرة لماذا لم تحمي زوجك من الموت وحتى لماذا لم تنجبي أطفالا كبقيّة النساء؟”. أمّا شقيقها عمر فلم يقبل أن تستغلّ مبروكة بساطة الأهل، وعندما واجهها إستطاع أن يستعيد كل ما نهبته من أموالهم، وكذلك فراس ابن عم العريس موسى، فهو يؤمن بالعلم والطب ولا يعترف بما تقدّم عليه السحرة والمشعوذات. ودخل في نقاش مع عمّه وزوجته، محاولا إقناعهما بضرورة الركون للطب والعلم، وترك التعلّق بحبال الوهم المتأتّية من مبروكة وأبي ربيع وأمثالهما.
خِتاماً يبقى أن نقول أنّه غالباً ما يتوجّه الكثيرمن الناس إلى المشعوذين، نتيجة لتَحَكُّم موروثات وعادات قديمة وتأصّلها في بيئتهم، ممّا تجعلهم يبتعدون عن العلم والمنطق في معالجة أسباب ما يعانون، وهذا مردّه في الغالب إلى قلّة الوعي واستفحال الجهل والتخلّف، حيث نراهم مستعدّين لتصديق كلّ ما يُقال لهم والقيام بما يُطلب منهم. والمؤسف أنّ ظاهرة الشعوذة وتصدير الوهم، أصبحت من التجارات الرائجة التي تدرّ على مدّعيها أموالاً طائلة، سيّما وأنّ هؤلاء يتلبّسون لبوس الدين ويتستّرون بآيات قرآنيّة وتأويلها تبعا لمآربهم ومصالحهم.
وبالعودة إلى الليلة الأولى، فمن الواجب التوقف مليّاً عند هذا التقليد المتّبع من قِبل بعض الأهل وتعاملهم مع ليلة الدخلة لأولادهم، لنقول أن الكثير من الآثار السلبية تنتج عن هذه الممارسة، لا بل إنّ من بين الأسباب المباشرة لفشل العريس في ليلته الأولى، يمكن تلخيصها بالآتي:
1- انطلاقاً من التقاليد والأعراف، نجد أنّ هناك نوعاً من الحصار أوالتضييق على علاقة الخطيب بخطيبته، بحيث يتمّ التضييق على الخاطب في فترة الخطوبة ومنعه من الإنفراد بخطيبته، ولا يُسمح لها بمرافقته في زيارات اجتماعيّة، وأيضا خلال تواجده في منزل خطيبته، تكون والدتها جالسة بينهما ولا يسمح لهما بالتحدّث أو التعبيرعن بعض المشاعر والعواطف ممّا يبقيهما في حالة اغتراب عن بعضهما البعض مهما طالت فترة الخطوبة أو قصرُت.
2- إنّ إصرار الأهل على المرابطة أمام باب غرفة العروسين بانتظار تصاعد الدخان الأبيض، إيذانا بنجاح العروسين في إمتحانهما كلّ من زاويته، – العذريّة مقابل الفحولة -، تجعل العريس في وضعٍ نفسيٍّ ضاغط مع ارتفاع منسوب التوتّر لديه، لعلمه المسبق بأنّه مراقب – وإن كان من خلف الأبواب – وهذا ما يؤدّي إلى تردّده وفشله، ممّا ينعكس سلبا على نظرة عروسه إليه بشكلٍ خاصّ، وبعدها نظرة المجتمع بشكلٍ عام. ومن جهةٍ أخرى، فإنّ مطالبة الأهل للعريس بإنجاز المطلوب قد تؤدّي مستقبلاً إلى تأسيس علاقة غير سويّة بين العروسين-الزوجين- سيّما إذا كان همّ العريس الأوحد هو إثبات رجولته، فنكون هنا أمام ما يشبه حالة الإغتصاب بإسم الشرع والقانون، وهذا من تداعياته تولّد نوع من النفور الدائم بينهما خاصّة من قبل الزوجة.
يبقى أن نشير إلى أنّ الرواية قُدّمت بلغة واضحة، وإن كانت جريئة، فإنها لا تخدش الحياء، لأنّها تعالج قضيّة بعينها، لا يمكن للكاتب إغفال أو تجاهل بعض العبارات اللازمة لإيصال الفكرة، ومع هذا فقد كان حريصاً على عدم خدش المشاعر، فجاءت لغة الرواية في هذه المفاصل لغة إيحائية غير مباشرة قدر الإمكان.
وقالت دولت الجنيدي:
الأديب جميل السلحوت له العديد من المؤلفات للصغار واليافعين والكبار، وفي قضايا الوطن والمجتمع والمرأة وهموم الانسان وغيرها.ويكتب في مجالات مختلفة، وطنية واجتماعية وتراثية وإنسانية جريئة،ويفضح كثيرا من الظواهر السلبية التي تسود مجتمعنا ويدعو للتمرد عليها ومحاربة الجهل والتخلف.
ورواية الليلة الأولى هذه هي رواية اجتماعية واقعية تثقيفية انسانية جريئة، تفضح كثير من الظواهر السلبية التي تسود مجتمعنا، وقضايا المرأة في المجتمع الذكوري، وبعض العادات والتقاليد الشعبية، والموروث الإجتماعي، وتدعو للتمرد على هذه الثقافة البائسة ومحاربة الجهل والتخلف. كل ذلك بأسلوب سردي سهل، مشوّق وحبكة قوية، وصياغة محكمة، وتعبير صادق عن الواقع الإجتماعي المُعاش، ولا ينسى دور المثقف في محاربة الجهل والتخلف.
وتقع هذه الرواية ضمن اهتمامه بالمرأة وما تلاقيه من ظلم الناس والمجتمع والموروث الإجتماعي، ومثالا على ذلك، ما تعرض له العروسان موسى وليلى ليلة الدخلة من مضايقات من الأهل بانتظارهم خلف الأبواب في أنتظار خروجه اليهم مثبتا فحولته، وتثبت عروسه ليلى عذريتها. ولكنه يفشل في اتمام مهمته بسبب الضغط النفسي الذي يعتريه، وتمر الأيام وهوعلى حاله، فيلجأ الأهل الى الدجالين والفتاحين لحل المشكلة، مع عدم رضا ليلى عن ذلك، فيلجأون الى مبروكة المتسترة تحت ستار الدين، وكل همها هو اخذ المال لحل المشكلة على طريقتها المخادعة. ومثلها أبو ربيع الدجال الذي يستغل حاجة البسطاء لحل مشاكلهم، فيعتدي على نسائهم ويوهمهم أن هذا هو العلاج الناجح لهم، مثلما فعل مع سعدية زوجة عبد السميع ومعاشرتها معاشرة الأزواج، وهذا ما فعله مع عطاف المحمود التي حملت بعد خمس عشرة سنة من الزواج، موهما الجميع أنه أخرج الجني الكافر منها وعندما كبر الولد وصار عمره عشر سنوات بدا الهمس يدور حولها لشبه الولد به.
وأمّا غادة التي تورطت بعلاقة جسدية مع سميح السلمان على أمل الزواج، ولكن أهلها أرادوا تزويجها لابن عمها، اتفقت مع أبي ربيع أن يخلصها مما هي فيه على أن تمكنه من نفسها، ولكنها لم تفعل ذلك بعد أن خلصها من ورطتها عندما أخبر الجميع أن الجني الذي بداخلها هو الذي فض بكارتها حين خروجه منها.
وأمّا الدجالة مبروكة فقد وصلت الى أقصى حد في السفالة عندما طلبت من مريم المحمود أن تحضر اشياء غريبة تسقيها لزوجها، حتى لا يتزوج عليها من ابنة خاله، وكاد الرجل ان يموت من التسمم في معدته. وجعلتها ترهن عندها قلادتها الذهبية لعدم توفر خمسين دينارا طلبتها منها مقابل العلاج المزعوم.
وعن نفيسة المصابة بمرض الزهايمر تقول أنه جني كافر في رأسها يريد ان يبعدها عن إيمانها.
وبالرغم من انقياد الآباء للموروثات والتقاليد والجري وراء المشعوذين والدجالين، فإن الأبناء انقادوا للعلم والمنطق، ورفضوا هذه الاعتقادات الخاطئة؛ فمثلا ليلى لم تقتنع بما تقوله مبروكة وتحاورها وتجادلها.وشقيقها عمر وقف ضد مبروكة واستطاع أن يسترد كل ما أخذته مبروكة من أموالهم تحت ستار التدين واستغلال حاجتهم للعلاج. واضطرها الى مغادرة القرية التي تسكن فيها..
وفراس ابن عم العريس موسى الذي رفض اللجوء للمشعوذين ونصح عمه وابنه التوجه للعلم والطب وعدم التعلق بالوهم الآتي من مبروكة وأبي ربيع وأمثالهما.
ودور غادة التي لم تمكن أبي ربيع من نفسها مع أنها وعدته بذلك مقابل حل مشكلتها وهددته بكشف سرّه.
من هذه الرواية نستنتج انه رغم انقياد بعض كبار السن للمشعوذين والدجالين؛ فإن الأمل في جيل الشباب ان يحارب الجهل ويغير من الموروث الاجتماعي السلبي بالعلم والتنوير والوقوف بوجه الدجالين والمشعوذين، الذين يستغلون حاجة الناس لحل مشاكلهم بأيّ شيء متوفر أمامهم.
وكتب حسن المصلوحي:
في مستهل هذه القراءة نقول بأن كاتبها الروائي الفلسطيني الأصيل جميل السلحوت لم يخرج عن المسار الذي رسمه لكتاباته منذ بواكيرها وإلى حدود اليوم، فالقراءة للسلحوت هي في حقيقة أمرها متح من معين ذاكرة رجل عاش حقبا زمنية طويلة بذهن حاد، وبنظرة رجل حكيم يمارس قدرا كبيرا من التأمل إزاء ما يعيشه أو ما يعايشه من أحداث، وهذا بالضبط ما يفسر الأحداث والوقائع والقصص والأمثلة الشعبية الغنية التي تشهدها كتاباته المهمة. فمن أشواك البراري إلى المطلقة والأرملة والليلة الأولى ستجد نفسك في صحبة شيخ يحول كل ما يراه ويعايشه إلى عمل أدبي، وأعتقد أن هذا الزخم من السرد والتأريخ والنضال لن ينال حقه اليوم، لكنه سيكون شاهدا في المستقبل على رجل عاش فعل الكتابة كشكل من أشكال المواجهة والمكابدة، على أمل بناء مجتمع إنساني مستنير وقادر على خوض رهانات التقدم والارتقاء إلى مصاف الأمم العظمى.
ثانيا، لن أحلل الرواية كأحداث حتى لا أفقد القارئ لذة التعرف على النص بنفسه، لكنني سأحاول البحث في ما وراء كل تلك التفاصيل من وقائع وشخوص تكشف بجلاء عورة مجتمع يقتات على الخرافة، ويعتاش بالجهل والجهالات، وهي مراحل مرت منها مجتمعات أخرى قبل أزيد من عشرين قرنا، أمّا نحن فنقترفها اليوم على مرأى ومسمع من الاكتشافات العلمية الباهرة، فهل من مسوّغ لها؟ وكيف نفسرها؟
الليلة الأولى أو ليلة الدخلة وما يكتنف هذه الليلة من طقوس وتفاصيل مغرقة في الجهل، من حديث عن الفحولة عند الذّكر وأنوثة وعذرية عن الأنثى، وعبر هذه التفصيل تمر بنا الرواية إلى الكشف عن الايمان بالعرّافات وما يلي ذلك من طقوس لاعقلانية ولا أخلاقية ولا حتى إنسانية.
والحق أقول إن هذه الرواية عادت بي؛ لأتصفح عملا كنت قد اطلعت عليه قبل سنوات، وهو المنجز الرائع للدكتور مصطفى حجازي “التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الانسان المقهور”.
دعنا نغضّ البصر عن التفاصيل وننظر من فوق، من أعلى قمة يمكن أن نرقب منها الأحداث. إن الخلفية الشاهدة من وراء على أغلب ما كتبه شيخنا جميل السلحوت، وبالأخص في هذه الرواية هي شتيت من الناس والذين يهيم عليه الفقر والجهل والتبعية والهوان، إن الخلفية هي دائما مجتمع خائر القوى لا يفكر ولا يريد أن يفكر، ولا يقوى على ذلك، هي بنية اجتماعية متخلفة وغارقة في الجهالات، بنية منظمة في عشوائيتها، تشكيلة تعاش كنمط حياة له دينامياته النفسية والعقلية والعلائقية. وهذا ما ظهر من خلال تظافر الأحداث والشخوص لأداء دور واحد؛ حماية التخلف والتأصيل له وزرعه في أعمق نقطة يمكن أن يصل إليها من الفرد، فيصبح الشخص المتضرر من التخلف هو أوّل من يحميه ويذود عنه بالغالي والنفيس، ويكون مستعدا لتخطيء العلم والعقل والمنطق:؛ حتى لا تتزعزع هذه البنية المقدسة.
وإذا كان القارئ البسيط قد يرى في ما كتبه السلحوت تشريحا للواقع، فأنا أعتقد أنه حجر الزاوية في أي مقاربة يمكن أن تصاغ لبناء مجتمع مستنير و ناهض، فالاستثمار في مجتمع متخلف يكون بمثابة إفراغ للماء في الرمل، كما يقوم المثل المغربي، و هذا الخطأ هو ما ارتكبته حكومات كثيرة راهنت على الاقتصاد ونسيت أن البناء الفكري والسيكولوجي للإنسان هو الأس والأساس، و هنا بالضبط تنجلي أهمية الأدب لتغيير الحالة النفسية للأفراد ووضعهم في سكة التقدم، ومدارج الرقي.
لا مراء في القول إن الانكفاء على قراءة شخوص الرواية وأحاديثهم والأحداث التي أسهموا فيها كفيلة بتقديم صورة شاملة لخصائص وسمات التخلف السيكولوجية، ولا أدلّ على ذلك من عائلة حمدان والمشعوذة مبروكة والدجال أبو ربيع، عائشة وربيحة، بل والقرية بأكملها كتعبير عن مجتمع عربي مختل ومأزوم حتى النخاع.
فالمجتمع في الرواية يعيش حالة من القمع والقهر والامتهان، قمع يردفه بالضرورة إهدار لقيمة الإنسان وقدسيته، يترتب عن ذلك فقدانه لقيمته التي يفترض أن تكون مطلقة لا تشرطها بكارة ولا انتصاب لعضو ذكري في لحظة محددة والناس شهود! أليست المشهدية التي صاغها بروعة السلحوت أشبه بحلبة ثيران تهيج الناس المتحلقين؟ كيف يمارس الحب المقدس في لحظة معدة سلفا؟ وكيف نطلب من الحب أن يثبت نفسه بقطرات من الدم؟ إن هذه ولا شك وثنية سلوكية سطحية تعبر على أننا حفرنا كثيرا وما زلنا لم نبلغ القاع!
عوالم الرواية مطبوعة بخاصية مركزية، وهي فقدان الكرامة الإنسانية، فقدان يتحول فيه الانسان إلى مجرد شيء وهو ما عبرت عنه النزعة الوجودية ب (التَّشْيِيءُ chosification)، حيث تنتفي استقلالية الفرد وقدرته على السلوك وفق ما يراه هو مناسبا له. لقد رأينا في هذا العمل ذوبانا تاما للذات داخل عقلية الجماعية، الجماعة بما تحوزه من قدرة على القهر والاخضاع عبر قوتها المادية والرمزية.
نكاد نقرأ من هذا العمل الظروف التي أورثتنا كل هؤلاء، فمن المؤكد أنهم ومنذ أن ولدوا وجدوا أنفسهم محرومين من أبسط حقوقهم، كالتعبير عن الرغبات الخاصة والآراء الشخصية، ففي مجتمعات كهاته، في حاضنات قاسية كتلك لا مجال لعبارات “أنا”، وحتى إذا قيلت لا تقال إلا على استحياء، ومع الاستعاذة بالله من قولها. فماذا يتبقى للفرد بعدها؟ لا مناص من السير وراء الدهماء والخروج عن القطيع يعد انتحارا حقيقيا.
دعونا نتأمل حوارات الرواية من جديد، اندفاع الشخوص إلى أحضان الفتاحات والدجالين… ألا يتكشف من خلال ذلك وجود شبكة اجتماعية لهذا التخلف، شبكة تجسد طبيعة العلاقات المهيمنة على أفراد القرية والمجتمع بشكل أشمل. فنظام التخلف والجهل هو المسيطر وحده، والبقية عبيد خاضعين لهذا الاستبداد اللامرئي لكن ضحاياه هم حماته، فتتحول لغة القهر إلى لغة سائدة يتكلمها الجميع كل حسب موضعه ومكانته.
الآن فلنخرج قليلا من هذا لنفكر في ما يترتب عن هذا الوضع الموسوم بالقهر داخل الرواية، ويمكن أن نحدد ذلك في عقدتين مركزيتين، وهما عقدتي النقص والعار إضافة إلى حالة وجودية موسومة بالسوداوية وانعدام الأفق. يتمخض عن هذا حالة من الاستلاب والاستسلام والاستعداد التام للتسليم بكل ما هو خرافي حتى يعالج هذا الإنسان المقهور ندوب الواقع وأخطار تجربته الانسانية. إن هذا الشخص الذي جسدته الرواية عبر مشكلة الدخلة شخص غير قادر على تقبل الواقع ومواجهته بالعقل والعلم ومستعد بكل طاعة وأريحية وإذعان إلى الارتماء في أحضان الخرافة والأماني والأوهام والغيبيات، وهو ما أدرجه فلاسفة اليونان داخل مفهوم “الميتوس” كتعبير عن كل إيمان بوجود قوى مفارقة لما هو موجود الآن وهنا، قوى متحكمة في حركاتنا وسكناتنا، فأين “اللوغوس” فينا ومن اغتاله؟ من عتم شعلة النور التي أطلقها فلاسفة الإسلام من الكندي إلى ابن رشد؟ من أحرق مكتبة أبو الوليد وأطفأ فتيل الشك والنقد والتفكير، الذي كان بوسعه أن يرفعنا عاليا عاليا إلى مصاف العظماء لنكتب أسماءنا بمداد الكرامة والحرية والاستقلالية والتقدم، لا بحبر عار الجهل والتخلف والارتكاس والنكوص؟ وأي مسؤولية يتحملها الفرد فينا لبناء دينامية مج؛تمعية وسيكولوجية جديدة؟ وهل هي مهمة سهلة؟
أسئلة كهذه وغيرها قرعت رأسي وأنا أقرأ ما خطه السلحوت في هذا العمل وما قرأت له من قبل في أشواك البراري والمطلقة والأرملة… عن وضع امرأة الحال إنها نصف المجتمع وهي في الواقع المرّ لا تملك فيه حتى جسمها.
إن وضع القهر والشعور بالدونية والعار جعل الشخصيات في الرواية أسيرة المظاهر، سطحية لا تهتم ولا تدرك، أهمية الجوهر، فبالنسبة لأسرتي العريس والعروس ما يهم من كل تلك الليلة أن يسال دم على سروال لا أقل ولا أكثر، وهذا سيكون بالنسبة إليهم مدعاة للفخر والكبرياء، وفي الحقيقة هذا النزوع الشكلاني هو تعبير عن جهل تام بقيمة الانسان ذاته وقيمة أبعاد أفعاله. هو وضع معقد وليس كما نتصوره، فقطرات الدم ستكون خلاصا من العار في اعتقاد العريس والعروس، عار يرميه عليهم مجتمع غارق في العار حتى الركبتين.
اشتغلت الرواية على وضع سيكولوجي خطير جدا، وهو الاستسلام والانكفاء على الذات والحد من الرغبات الشخصية والإرادات الذاتية، فظهر البطل وهو مستسلم تماما لما يقرره الكبار، وما يعتبرونه صوابا، وهذا يعكس ما آلت إليه مجتمعاتنا من انعدام للمبادرة الفردية في التفكير بشكل ذاتي، وهو ما عبر عنه فيلسوف التنوير إيمانويل كانط “الجرأة على التفكير” باعتبارها مسؤولية فردية واجبة. فالمصير في الرواية متقبل ومستسلم له دون أدنى سعي لتغييره، وصناعة المصير مسألة تنتفي في مجتمع يحكمه التخلف، وهي بهذا دعوة صريحة من الكاتب إلى أن الخلاص الجماعي لا يكون إلا عبر بوابة الفرد، وعبر بناء أشخاص قادرين على اقتراف خطيئة التفكير كما تعتبرها القوى النكوصية حامية التخلف.
فقد قرأنا في الرواية عبارات عن المكتوب الذي لا يمكن أن نهرب منه، عن المصير المحتوم وعن كوننا مسيرين وغير مخيرين، وهنا تكون ماهية الانسان مصنوعة قبل وجوده حتى، فالمجتمع المتخلف يرفض التنوع والاختلاف ويثمن فكرة التشابه، فإذا أردت أنت تكون مقبولا عليك ألا تكون مختلفا. والفكرة التي يرعاها المجتمع هي مسلمات لا يجب الخروج عنها، وبالتالي تحدث حالة من إعادة تدوير لمظاهر التخلف وآثاره، وهي دوامة من العسير الخروج منها.
ومن الآليات السيكولوجية التي يحمي بها المتخلف تخلفه التمسك بالأعراف والتقاليد وما ورثه إجمالا من الأسلاف، فيستمد هويته الشخصية من قدسية هذا الماضي الذي تركه السابقون، ولا يستطيع أو لا يرغب في مرحلة لاحقة أن يتزحزح عنه قيد أنملة، فيكون بذلك عبارة عن مجتمع ميت لا يبدع الأفكار ولا الحياة. ينعكس كل هذا على طبيعة المجتمع والعلاقات حيث الميل إلى الافراط في التمسك بالعادة، والميل إلى تعنيف كل من يهدد هذا الصرح، الذي شيد على امتداد قرون.
أكتفي بهذا القدر و أهمس في أذن كل من سيقرأ هذا العمل بأن هذه الرواية تراهن على الأجيال اللاحقة؛ حتى تنزع عن نفسها هذا العار الشنيع وهو عدم التفكير وإبطال آليات العقل الجبارة التي من شأنها أن تمكننا من الانتفاض في وجه هذا التخلف، الذي التصق بنا، فكل واحد منا مسّه هذا التخلف بشكل أو بآخر لأن بناه وآلياته أقوى من إرادة الفرد الواحد، لذلك أفرد السلحوت لهذا الأمل الساطع مساحات واسعة لشخوص في الرواية وقفت ضد هذا التيار الجارف، وتجرأت على قول لا، وهي اللحظة الفارقة التي يقول فيها الفرد: لن أصغي إلا إلى ما يمليه علي عقلي، ولله در إيمانويل كانط حين قال: “إني أسمع من كل مكان صوتاً ينادي لا تفكر، رجل السياسة يقول لا تفكر بل نفذ، ورجل الاقتصاد يقول لا تفكر بل ادفع، ورجل الدين يقول لا تفكر بل آمن.”
وفي الختام يصحبنا الأمل كما يصحب شيخنا السلحوت أن تكون ليلته الأولى الليلة الأخيرة لظلام دامس، صرنا على إثره نخشى أن نغادر كهف تخلفنا؛ لننظر بالخارج إلى شمس الحقيقة ساطعة في كبد السماء، إن الحقيقة والخير والعدل والكرامة والحرية توجد دائما بالخارج، هنالك حيث تطلع السلحوت بناظريه، هنالك تقع جنتنا جميعا، جنة الخير والفضيلة والسلام والانسان الذي تكتمل إنسانيته، ولا يسعنا بلوغ ذاك المرام إلا عبر بساط من فكر وحكمة، وليس من ريح وأوهام.
وكتب عبدالله دعيس:
يستمرّ الكاتب جميل السّلحوت بتناول المواضيع الاجتماعيّة الشّائكة في رواياته، والتي قد يغض الطّرف عنها كثير من الكتّاب، رغم أنّ هذه العادات والتّقاليد ما زال لها حضور قويّ في مجتمعاتنا، وما زلنا نعاني من آثارها ونتائجها. وقد نظنّ أن بعض هذه العادات اختفت، لكنّها في الواقع أخذت شكلا آخر يقوم على أرث طويل متجذّر في ثقافتنا.
تتحدّث هذه الرّواية عن موضوعين أساسيّن ومتداخلين، ما زالا يسبّبان كثيرا من المشاكل الاجتماعيّة ويؤدّيان إلى جرائم تهدّد النّسيج الاجتماعي في مجتمعاتنا العربيّة. أولهما: التّدخل المباشر في حياة العروسين، خاصّة فحولة الرّجل وعفّة المرأة، حيث ترتبط فحولة الرّجل بمعاشرته السريعة لعروسه، وعفّة المرأة بغشاء بكارتها! مما يشكّل ضغطا كبيرا على الزّوجين ويؤدي إلى نتائج نفسيّة واجتماعيّة وعواقب وخيمة. والموضوع الثّاني والذي هو أشمل وأكثر أهميّة، وهو توجه كثير من النّاس إلى الدّجالين والعرّافين لحل مشاكلهم الاجتماعيّة والصّحيّة؛ فيقعوا ضحيّة لهؤلاء، والذين يتقاضون منهم مبالغ ماليّة كبيرة ويزيدون مشاكلهم تعقيدا، ويتسبّبون لهم بالمشكلات التي ربّما خرجت عن حدّها وتفاقمت ووصلت إلى حدّ اقتراف جرائم القتل.
لقد كانت جدتي رحمها الله خيّاطة القرية، وكانت تجتمع لديها عدد كبير من النّساء كلّ يوم ولساعات طويلة، وحين كنت طفلا كنت أستمع لحكايات النّساء، وما يدور بينهنّ من حديث، وأزعم أنّي سمعت منهنّ ما يشابه كل ما ذكر في الرّواية وأكثر من ذلك، والذي ربما تحاشى الكاتب ذكره، وكأن المجتمعات القرويّة كانت فيها العادات والتقاليد ذاتها، وتتكرّر هذه الحكايات في كلّ قرية وفي كلّ مكان.
من الواضح أنّ أحداث الرّواية تدور في فترة الستينات أو السبعينات من القرن الماضي، بدليل أن الآباء كانوا (عايشين على لامبة الكاز) والأبناء بدأوا يتعلّمون ويتثقّفون، وهذه العادات كانت ما زالت سائدة وقويّة. الرواية لا تذكر أي شيء يدلّ على الزمن بشكل واضح، وإنما يستنتجه القارئ. وقد يظن بعض القراء أنّ هذه العادات اندثرت، ولم يعد لها وجود، وليس من المجدي الحديث عنها في الوقت الحاضر إلا من أجل توثيق ما كان يحدث ومحاولة فهم ما استجدّ من الأمور، والذي انبثق من العادات القديمة أو كردّة فعل عليها؟ لكن المتتبّع لما يدور في مجتمعاتنا سيكتشف أنّ هذه العادات ما زالت موجودة وقويّة وتأثيرها حاضر، فما زالت هناك الكثير من الجرائم التي تعزى إلى شرف العائلة! أمّا الدّجالون فلم يعودوا أشخاصا بسطاء، كما كانوا في الرّواية، يتّخذون مكانا لهم أو يزورون النّاس في بيوتهم ويستغلّون جهلم لكسب بعض المال، وإنّما أصبح بعضهم يستغلّ وسائل التّواصل الاجتماعي ويصل إلى عدد أكبر من النّاس، ويتّخذ أسماء وأشكالا وطرقا كثيرة متعدّدة، وقد يوقع في شراكه من لم يستطع الدّجالون القدماء الإيقاع به!
اللغة التي استخدمت في الرّواية جريئة جدّا، وفيها بعض الألفاظ التي قد تخدش الحياء، لكن هذه المصطلحات والأمثال الشّعبية كانت منتشرة وتستعمل في الحديث عن هذه المواضيع دون حرج، لكنها قد لا تكون مناسبة في رواية يقرأها أناس من أعمار مختلفة وخلفيات مختلفة، وقد تؤدي إلى سوء الفهم لما أراده الكاتب في الحقيقة.
أحببت قراءة الرواية جدّا، وأعادت إليّ ذكريات كثيرة، وأرى أنّنا ما زلنا بحاجة لوقفة جادّة في وجه الشّعوذة والجهل والذي يتطوّر بسرعة ويأخذ أشكالا جديدة تغزو الشّاشات وتصل البيوت أكثر من أيّ وقت مضى.
وقالت أسمهان خلايلة:
استوقفتني الرواية ببدايتها المشوقة التي تحث القارئ على اللهاث يتعجل ان تنال مبروكة عقابها.
عمل روائي متسارع الوقع، فهو الموضوع المتكرر الذي يكتنفه الجهل، يغذيه الجبن ويغلفه التدخل في خصوصيات الآخر تحت شعار الأبوية، التي تمنح الاهل والأقارب حق هذا التدخل.
تعتبر هذه الرواية من الأعمال التي يرتكز المجال العام فيها على تكرار واضح لقضية اجتماعية حساسة ومصيرية .. فنرى الكاتب يشق بقلمه طريقا وعرا وسط زحام الجهل والأفكار المنزرعة عميقا في جذور الثقافة الشعبية السطحية المؤمنة بالخرافة، التي لا تربطها بنا سوى رابط خلقه المحتال الذكي، الذي وظف قدراته وحاسته القوية في استقراء الأفكار ولغة الجسد؛ لينصب شباكه حول الضحية ينهب مشاعرهم الى درجة الإحباط ويمتص طاقاتهم ويهدر أموالهم . ومبروكة “وأبو ربيع ” يشكلان هذا المحور الثابت في الصراع مع المثقف والواعي الرافض لهيمنة التجهيل والجهل، ويقف فراس قريب العريس موسى فيجاهد في الحوارات ومحاولات اقناع أهل موسى بأن الله قد خلق الداء والدواء، ويجادلهم بالتي هي أحسن بحوارات يسيطر عليها المنطق والعلم، وقد شاركت في هذا الرفض للدجل العروس ليلى، التي كانت أكثر جرأة من عريسها موسى، فأبت الاستسلام والرضوخ لجلسات مبروكة وشعوذتها.
ثم يتدخل عمر الشاب الجامعي وهو شقيق ليلى؛ ليؤدب مبروكة بالتهديد والضرب حين اكتشف فسادها وفسوقها، أمّا غادة فكانت مثال الشابة المتمردة على مقولة “ابن العم بنزل عن الفرس، وعملت بذكاء مستخدمة أسلوب أهلها مستغلة إيّاه؛ لتنجو من مكيدة الزواج بابن عم،ها فكانت فقرة محبوكة بعناية ودقة من المؤلف؛ ليوجه شخوص الرواية نحو الوعي وفتح البصيرة على ما يجري حولهم . مبروكة وأبو ربيع نموذجان للاستغلال يسرحان ويمرحان بسبب الأهل، الذين ضخموا صورة الخرافة، فآمنوا بالحجب والجن والمندل، فهم أيّ الأهل يخشون تحطيم القيد الأسري الاجتماعي المتداول كرؤية دم العذرية وانتظار فتوحات العريس ..العريس الذي يشعر بورطة المسؤولية بأن ينجز عمله في ليلة الدخلة بسرعة ودقة، وكأنه في امتحان مصيري.
الكاتب جميل السلحوت اتّخذ من مبروكة التي لا تحمل من اسمها سوى حروفه، ولا نصيب لها منه ..لأنها عكس معنى اسمها ..فهي العاهرة المحتالة والرجل الشاذ المتحرش أبو ربيع ..اتخذهما السلحوت عاملا لخلخلة نظام البنية الاجتماعية، وقد عمد الكاتب إلى إيجاد عنصر مؤثر يثير غضب القارئ المتلقي واحتجاجه ورغبته في تحطيم هذه الأصنام، التي يقدمون لها القرابين والأموال.
كان رفض ليلى وغادة وعمر تلبية لتخطيط الكاتب فضح دجل وكذب مبروكة وأبو ربيع، فتحولا من عائق وعنصر سلبي في الرواية إلى جمرة أشعلت نار الاحتجاج وفضح الاستغلال والاستهبال.
الكاتب كان شاهدا على أحداث عاصرها ورآها، وقد وظف روايته الليلة الأولى لتكون عملا أدبيا يحمل وظيفة أخلاقية اجتماعية توعوية، وقد أفلح في الانتماء إلى حركة تحرر اجتماعية بل ووطنية وبقوة.
استند السلحوت إلى الحديث النبوي ورفض الدين لهذا الدجل: من أتى عرّافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد. وجميعنا يعرف الوازع الديني المؤثر بقوة على مجتمعنا. وكانت العبارة التي اختصرت الكثير حين قال الشيخ لوالد ليلى الذي اقتنع بضرب ليلى لإخراج الجن المزعوم منها، وهذا حسب توصية مبروكة قال الشيخ: لا تقع في الحرام يا حاجّ . ص ١٣١.
لاحظت تذييلا في نهاية الرواية بتنويه: نهاية الجزء الأول ويبدو أن كاتبنا يمتلك مخزونا كثيرا يحتاج توزيعه إلى جزء آخر ونحن بالانتظار.
وكتب رائد محمد الحواري:
من يتابع الأعمال الروائية الأخيرة “لجميل السلحوت” يجد أنها أخذت تتجه نحو القضايا الاجتماعية، وتحديدا مشاكل المرأة في المجتمع الذكوري، فقد كتب روايات ” الخاصرة الرخوة، المطلقة، اليتيمة، والأرملة مشتركة مع ديمة جمعة السّمّان” وغيرها، وكلها تتناول واقع المرأة في المجتمع، وما تتعرض له من ظلم وقهر اجتماعي، إن كان من قبل الزوج أو المجتمع وحتى الأهل، تأتي رواية “الليلة الأولى”؛ لتؤكد واقع المرأة البائس في المجتمع الفلسطيني والعربي، ولتحارب الجهل والتّخلف.
عنوان الرواية “الليلة الأولى” يأخذنا إلى ليلة الزواج الأولى، وكيف يكون حال العريس والعروس، وما يتعرضان له من ضغط اجتماعي، يتمثل في (فض البكارة)، فالزوج “موسى” يرتبك ويضطرب، ولا يكون بحالة نفسية تسمح له بمعاشرة عروسه، والزوجة “ليلى” التي يقع عليها ضغط أكثر من الزوج، لأنها ستكون أمام حالة لم تألفها، ومع هذا المجتمع يتعاطف مع الزوج وينحاز له، ويبقي الزوجة دون الاهتمام المطلوب، ويزيد من الضغط عليها لتقوم بأشياء لا تعرفها وصعبة عليها.
وعندما يفشل الزوج “موسى” في معاشرة عروسه، يتجهون نحو العرافة “مبروكة” والمشعوذ “أبو ربيع”، الأولى يهمها المال وممارسة الجنس مع عشيقها، رغم أنها تبدي الورع والتقوى أمام الناس، والثاني يهتم بالجنس أكثر من المال، لهذا لا يترك أي امرأة تأتي إليه، إلا ويضاجعها (ليخرج منها الجني الكافر).
اللافت في الرواية أنها تتناول الآباء والأمهات بصورة سلبية، حيث يلجأون إلى المشعوذين عند وجود مشكلة نفسية أو اجتماعية، بينما الأبناء بمجملهم جاؤوا بصورة إيجابية، حيث واجهوا سلطة الآباء، ورفضوا أن يكون “مبروكة وأبو ربيع” هما العنوان الصحيح لعلاج “موسى”، ورغم إصرار الآباء على التوجه إليهما وصرف الأموال دون جدوى، إلا أن “عمر” شقيق “ليلى” يستعيد بالقوّة كل ما أخذته مبروكة من أموال ويعيدها إلى “أبو موسى”. وهذا الطرح كافٍ لإيصال فكرة أن عقلية الآباء المتخلفة والمتمسكة بالعادات السيئة تزيد من المشاكل، بينما الأبناء يستطيعون حلها وبطرق صحيحة وقصيرة وبجهد وتكلفة أقل، وفي هذا دعوة لرفض الموروث الشّعبي السّيّء، مثل مراقبة العروسين ليلة دخلتهما، واللجوء إلى المشعوذين لمعالجة المرضى ولحلّ بعض المشاكل.
الرواية فيها حوارات عديدة تدور بين الآباء والأبناء، وبين “موسى وليلى” وبين ليلى ومبروكة، وبين عمر ومبروكة، وكلها أسهمت في إيصال فكرة عقم التفكير القديم وسذاجته، لهذا جاءت نهاية الأحداث بطلاق “ليلى” من “موسى”، وهروب “موسى” إلى مكان يستعيد فيه فحولته.
لغة الرواية بسيطة وسلسة، وجاء بصيغة السارد الخارجي، العليم؛ لتشير إلى أننا أمام واقع اجتماعي عام يعاني منه المجتمع، وما وجود الأمثال الشعبية التي نطقت بها شخصيات الرواية إلا تأكيد على ثقافة المجتمع بهذا الخصوص، وفضحها كي يبتعد النّاس عنها، لهذا سيجد كل قارئ للرواية ما يتوافق مع تطلعاته في انعتاق المجتمع من أفكار عفا عليها الزمن وشرب “البكاء والدم.”
وكتبت صباح بشير:
تطرح الرواية رسالة اجتماعيّة، وتصور حاجة المجتمع للتمرّد على الثقافة البائسة التي تعزّز الأفكار المتخلّفة ضد المرأة، كما تحمل دعوة لتغيير الأعراف والعادات البالية المتعلقة بالزواج، وتتناول واقع المرأة في المجتمع، وما تتعرض له من ظلم وبؤس اجتماعي من الزوج والمجتمع، وتؤكد على أهمية محاربة الجهل والتّخلف.
عند الغوص في المقومات السردية وتنوع اتجاهاتها، وسير الأحداث وتحليلها والوقائع والتفاصيل وعمق الشخصيات، يستمتع القارئ بأسلوب الكاتب المشوّق، وأسلوب السرد المباشر الصادق، المعبّر عن الواقع الاجتماعي المعاش، وعن النفس البشرية الملاصقة لواقعها ورؤاها وأبعادها العميقة، فهذه الرواية الإنسانية تظهر تعامل مجتمعنا مع بعض القضايا الحساسة، وتفضح كذب الدّجالين والمشعوذين الذي يعملون على استغلال الناس بخبث، متسترين بعباءة الدين لتحقيق غاياتهم ومصالحهم ومآربهم الشخصية الدنيوية، وانعكاس ذلك على حياة البسطاء والمجتمع بشكل عام.
يرصد الكاتب بين سطور الرّواية أنماط التفكير والسلوكيات وبعض القيم والتقاليد، من هنا نجد أنه يعمل على تذويت سطوره بحرص شديد، فيصبغها ببصمته الخاصّة، وذلك بربط النصّ بالتجربة الشخصيّة؛ لينقل المعرفة إلى القارئ، وما أمكنه من معارف متنوعة في مجالات عديدة من الحياة العامة، منها السلوكيات اليومية ووصف الحياة ورصد بعض الظّواهر الاجتماعيّة والمعلومات، فيطرح عبر شخصيّاته مشاكل اجتماعية سائدة في العصر والثقافة التي كُتبت عنها، مثل الزواج والطّلاق والجنس والدّين وغيرها من المواضيع المتشابكة، المرتبطة بالواقع المعاش؛ لتصوّر البيئة المكانيّة لشخوص الرّواية وعمق الصّراع الاجتماعيّ في نفوسهم.
تعرض الرّواية القضية النّسوية والذّكوريّة بوضوح، ومحاولات سلب وطمس حقوق المرأة، والتّعامل معها كأداة للمتعة والإنجاب وخدمة الرّجل، والقيام بالأعمال المنزليّة والطبخ فقط، ويدعم السلحوت طروحاته بالموروثات الشّعبية المختلفة ومنها المثل الشّعبيّ، كي يبيّن الثّقافة الشّعبيّة ونظرتها السّلبية الدّونية ضدّ المرأة، لا لترسيخ هذه العادات بل للتّنفير منها، موضّحا أن الأديان قد أوصت بالمرأة خيرا.
كما يتطرّق لثقافة القبيلة والتّعصّب بجرأة وينتقد المقدّس الاجتماعيّ لمعالجة المسائل الشّائكة، بأسلوب المنطق والاقناع والمعالجة الشّفافة الواضحة، والّلغة السّهلة البسيطة المفهومة.
“الليلة الأولى” هي رواية اجتماعيّة إنسانية جريئة، تكشف المستور وتفضح الكثير من الظواهر الاجتماعيّة السّلبيّة التي تسود مجتمعنا وتعاني منها المرأة بشكل خاصّ، تحمل عناصر الرّواية النّاجحة والحبكة القويّة والصّياغة المحكمة، مؤلّفها الأديب المقدسيّ جميل السلحوت، يحمل فكرا مستنيرا وله حضوره الثقافي المميز، يمتلك تجربة أدبيّة ثريّة، وهو كاتب مسكون بالوطن وقضاياه، صدر له العديد من المؤلفات الأدبيّة التي نسج حروفها بفكره الجامح وكتبها بمداد قلمه النّزيه، هو روائي مخلص للكتابة، يلتزم بهموم الإنسان وقضايا الوطن، وقد حظيت كتاباته وأعماله باحترام الأوساط الثقافيّة والأدبيّة، يواصل نشر المقالات الفكرية والأدبية والنقدية وغيرها، وقد قرأت له الكثير من الروايات للصّغار وللكبار، والكثير مما كتب في المواقع والصّحف الإلكترونية المختلفة، وهو يتّصف بغزارة الإنتاج والنشر، ينطلق بما يكتب من رؤيته الواقعية، داعيّا إلى التّسامح وحريّة التّعبير، مجتهدا في وصف حالة الفوضى السّائدة في المجتمع، متطرّقا إلى مواضيع جريئة بشجاعة وثقة، مؤمنا بأهمية دور المثقف الرّيادي في محاربة الجهل والتخلّف.
وكتبت إسراء عبّوشي:
مع أن أسم الرواية الليلة الأولى، لكنها هي الليلة الأخيرة قبل الطوفان، من المفروض أنها كانت باكورة الليالي الحالمات، لولا تلك العقدة التي أدارت الصراع في الرواية عندما فشل الزوج، فكانت ليلة مخيّبة للآمال فتحت أبواب الجحيم، وطرقت أبواب العرَّافين والمشعوذين؛ لتظهر هزالة العقول، وتضع شخصيات الرواية خاصة النساء في مواجهة مريرة مع الأوهام التي تغيّب العقول، يقع المحظور وتتهافت الأحداث في حلقة متماسكة وحبكة متينة، يأسر الكاتب القارئ في سلاسة انتقاله بين أحداث الرواية وتلقائية الشخصيات، وكم تشبه الواقع.
ورغم أن الرواية تنتهي بلا حل لغز الليلة الأولى، إذا يقول موسى:” لم استطع معاشرة ليلى لأسباب لا أعرفها”، والرواية تفتح نيرانها على الأفكار المتخلفة التي تُضلل الحقيقة، وتهدم البيوت.
لا يترك الأديب جميل السلحوت بطلات روايته يغرقن في ضعفهن كما يريد المجتمع لهن، بل يجبرهن على خوض حرب لتظهر قوتهن، فظهرت ليلى فتاة صاحبة فكر حرّ وعقلية متفتحة لا ترضخ للخرافات، ولا تتحكم فيها العقلية الرجعية الجاهلة، تحملت المسؤولية وكانت المبادرة لحل مشكلتها، بقدر ما يُصعب المجتمع الحياة على الأنثى ويضيق خياراتها، تجدها تتحمل المسؤولية وتواجه ضعف المجتمع بإصرار وثبات، ضمنيا ظهرت ليلى ضحية للمجتمع- رغم محاولاتها للتقرب من زوجها وإغرائه؛ ليتجاوز عقدة الليلة الأولى-، فقد صمتت كي لا يفضح أمرها الذي ليس لها يد به أبدا، ومع ذلك يحملها المجتمع كامل المسؤولية على فشل ليلتها الأولى، فما زالت المرأة عورة وعار على مجتمع يحكم قبضة الذكورية.
غالباً النّساء في روايات جميل السلحوت محاربات منتصرات، حتى العرافة المحتالة مبروكة تتمتع بقدر كبير من الذكاء، وتوظف هذا الذكاء لتسيير العقول المتخلفة وتمويه الحقائق وتغييب الوعي.
لم تحصر الرّواية الدّجل والشعوذة بامرأة ” مبروكة”، فهناك” أبو ربيع” الذي يستغل ضحاياه أسوأ استغلال، وبأبشع الصّور، فينتهك عفتهن باسم العلاج، وقد تكون مبروكة في رواية السلحوت شخصية أقل فظاظة من أبو ربيع، صحيح أنها استغلت مسبحتها وآيات القرآن الكريم التي تتمم بها أثناء العلاج، لكنها لم تستغل أحدا من مرضاها كما فعل أبو ربيع مع سعديّة زوجة محجوب عبد السميع وغيرها من النساء.
رغم أن الكاتب أظهر تباينا بين الأجيال في الإيمان بالسحر والشعوذة، إلا أن اعتراف غادة للفتّاح أبو ربيع بتورطها بعلاقة جسدية مع سميح السّلمان على أمل الزواج كان غريبا، فمن الأولى أن تخبر والدتها بما حصل معها.
عدا غادة فالجيل الجديد ” ليلى وعمر” قاوم الأفكار البالية والخرافات المتوارثة، ولم يكتف عمر بتكذيب المشعوذة مبروكة، بل كشف خداعها للعقول، وحمى أخته من تجاربها التي استمرت لمدة عام تقريبا، وقام باسترداد المال الذي أخذته مبروكة باسم علاج ليلى.
في النهاية تُظهر الرّواية بشاعة نظرات الناس التي حاصرت موسى، وأجبرته على الهجرة، وكان ببساطة يمكنه أن يتعالج عند طبيب كما اقترح عليه عمر، ممّا يدل على أن أفكار الناس السلبية تلغي الفكر وتهدم العلم. ّ
وكتبت مروى فتحي جرّار:
تنتمي الرواية إلى الأدب الواقعي الذي انتهجه الكاتب السلحوت في أدبه الروائي، حيث عالج جملة من القضايا المجتمعية الواقعية، والتي تقع في أي مكان عربي، شرقي، حيث يعلي سكان هذه البلاد بحكم العادة والثقافة من شأن الغيبيات، ويسقطون كل مشكلة وكل حادث لا يفهمونه إلى عالم الماورائيات، وهذا ما حاول الكاتب أن يثبته من خلال عدة شخصيات تواجه مصيرها، وتتحدى أقدارها وتحل مشاكلها عبر اللجوء إلى الدّجّالين والمشعوذين، مثل شخصية موسى الذي واجه مشكلة عدم القدرة على إتمام زواجه مع عروسه في ليلة الدخلة، واستمر حاله قرابة السنة على هذا الحال، مستسلما لتأويلات المقرّبين في العائلة لحالته بأنها ربط عن الزواج بفعل ساحر، وبالمقابل عرض السلحوت صورة مضادة مقاومة للخرافة مغايرة في التعامل مع المشكلة، وهي عروسته ليلى التي رفضت التفسيرات المحيطة عن الحالة، وكذلك صورة عمر أخيها الذي قاوم الخرافة قولا وفعلا، وأنهى أسطورة المشعوذة مبروكة من حياة أخته والبلدة جمعاء، واسترجع حق أخته وزوجها منها وطردها من محيطهم، ناهيك عن شخصية فراس ابن عم موسى الذي نصح مرارا وتكرا باللجوء إلى الطب العضوي والنفسي لحل المشاكل التي تواجه الإنسان، وتغليب لغة العلم على الدجل والغيبيات، بالإضافة إلى مجموعة من النّسوة اللاتي يجلسن في مجلس الدّجالة مبروكة ولا يصدقن أقوالها، وقد كن من الأصغر سنّا، وبهذا يكون الكاتب قد عالج مشكلة عويصة في المجتمع بتوازن في الاستجابات حيالها، فكما يعمّ الجهل في نفوس يعمّ النور في أخرى، ومن جهة أخرى ترى التكامل في علاج المشكلة القديمة الجديدة في المجتمع بعرض مفصل لموقف الدين الإسلامي من اللجوء إلى السحرة والمشعوذين في حل المشاكل، وذلك عندما سأل أبو موسى مفتي البلدة عن قضية ابنه وفتوى لجوئهم إلى ضرب كنته بناء على تعليمات الساحرة مبروكة.
وموضوع اللجوء إلى السّحرة تعدى الحدود في المجتمع الذي يعالج فيه الكاتب ولم يذكر مكانه ولا زمانه، ولنا في ذلك وقفة أخرى، فحتى تأخّر الإنجاب أصبح تأويله لدى بعض الناس مرتبطا بالماورائيات من الجن الكافر، الذي يستعمر الأرحام ويربطها عن الحمل، متجسدا بشخصية محجوب عبد السميع وزوجته سعدية، ولا يدفع الفرد -جراء إيمانه بالحلول الكامنة في الشخصيات التي عرف عنها أنها تتواصل مع الجن وتهدم ارتباطها السلبي بالإنسان – لا يدفع النقود فحسب بل يصل الأمر إلى أن يعتدى على حرمة جسده بدعوى العلاج، وقد عرض الكاتب نماذج متعددة أخرى لدوافع لجوء الناس إلى السحر، ومنها ربط بعض النسوة” ممثلة بشخصية مريم المحمود” زوجها عن الزواج بغيرها عن طريق السّحر، والذي كاد أن يودي بحياته عندما سمّمه، وقد وصل الأمر لمعارضة الطب علانية عند بعض النماذج بتفسير مرض الزهايمر عند الحاجة نفيسة، والتي شخصتها مبروكة بأن في رأسها ميدان سباق من الجن الكافر، الذي يريد أن يثنيها عن إيمانها في أخريات حياتها.
وقد حرص الكاتب على تصوير السّحرة الذين يدّعون أنهم يحكمون الجنّ بأنهم فجرة ونصابون، ويستغلون أموال الناس وأعراضهم، جسّد ذلك بشخصية أبي ربيع والحاجة مبروكة، وقد استرسل السّرد من خلف في توصيف سلوكيات الشخصيات وتفاصيل أقوالها وأعمالها، وخصوصا تلك التي تدور خلف الأبواب المغلقة، وتلك التي تحدث في غرف السحرة المعتمة، وقد حرص في جلسة المندل أن ينطق الطفل جمال عن ألاعيب الحاجة مبروكة وأكاذيبها التي تسخرها لتضليل روادها، وكأن هذا الطفل يرمز للفطرة السليمة وللجيل الجديد الذي يرفض السكوت عن الباطل البائن بينونة كبرى، في تحقيق النصب والاحتيال والاستخفاف بالعقول.
ومن جهة أخرى كانت المعالجة متكاملة للقضية عندما جعل الكاتب الشخصيات ( أبا موسى وزوجته عائشة ) يكملان كلّ متطلبات السحر التي تطلبها مبروكة لآخر رمق، ويفشلان في الحصول على مرادهما.
ومن خلال هذه الأحداث يتسرب نمط المجتمع الذي تعالج فيه الرواية، ألا وهو الفضول الذي ينتاب الناس حول حياة بعضهم إلى درجة التداخل وانعدام الخصوصية.
وقد عالج الكاتب في روايته قضية التظاهر بالتّديّن؛ لإخفاء ما تكنّه النّفوس من خبث وانحراف عن الناس لإيهامهم والسيطرة عليهم.
السّيميائية: العنوان: الليلة الأولى قصد بها ليلة الدّخلة، لكنها كانت المفتاح لأكبر مشاكل الشخصيات في الرواية، وهي مشكلة العجز الجنسي التي أًصابت موسى في ليلة زواجه، وكانت بداية سلسلة لليالي القاتمة، انتهت بآخر ليلة للشخصية ليلى في بيت الزوجية، وآخر ليلة لشخصية موسى في بلدته، فبداية الرواية الليلة الأولى ونهايتها هي الليلة الأخيرة بالنسبة للطرفين-طرفي الصراع.
الاسم موسى: ارتبط الاسم برمز لشخصية نبويّة كانت حجّة قومه السحر، مثلما كانت حجة المحيطين بالشخصية ” موسى” السحر في توصيف مشكلته ومحاولة علاجها.
الاسم ليلى: ارتبط الاسم ليلى بالأدب العربي بالمرأة التي يجنّ رجلها العاشق بها لحسنها، وهي دلالة حرص عليها القصّ؛ ليؤكد أن المشكلة في إتمام الزواج لا تتعلق بمظهر العروسة ليلى ولا بأسلوبها، ومن جهة أرى فإن الاسم ليلى منسجم مع العنوان والحدث الذي انبثقت عنه المشكلة وهي الليلة الأولى، بالإضافة إلى أن أغلب مشاهد الشخصية السردية التي بني عليها أحداث كانت في الليل، إلا تلك التي حدثت في الصباح الذي تبادلت فيه الشخصية النزاع مع حماتها، وترتب عليها الليلة الأخيرة في بيت الزوجية.
الحاجة مبروكة وأبو ربيع: أسماء السّحرة والمشعوذين كانت مشعة بالبركة والنّماء، وتلك من أساليب السّحرة في ايهام الناس بهالتهم الإيجابية؛ ليسلموا لهم بإرادتهم.
وقد وظف مجموعة من الأسماء العربية التي ارتبطت غالبا بالحق والعدل لشخصيات مناسبة مثل عمر وفراس، واستخدم أسماء نسوية فيها هالات وطاقات اليسر مثل عائشة وربيحة؛ للدلالة على يسر حظوظ تلك النّساء في حياتهنّ قبل تلك الليلة التي أحدثت المشكلة في حياتهن.
محجوب عبد السميع: اسم لشخصية لجأ إلى المشعوذ أبي ربيع لحل مشكلة الإنجاب، وله من اسمه دلالة على أنه وقع على قلبه حاجبا يحول بينه وبين طريق الهدى والحق، فسار في طريق مظلم دمّر زواجه.
سعدية: زوجة محجوب، تنتمي إلى الأٍسماء التي تحمل معنى مضادّا للمصير الذي لاقته.
السرد: اتبع الراوي تقنية السرد الرؤية من الخلف، فتتبع الشخصيات بتفاصيل أحداثها وسلوكياتها، وجعل الراوي عليما بكل ما يدور في خلد الشخصيات ومحيطهم.
الحوار: طغى الحوار الخارجي على الداخلي وكان وجوده كمّيّا متناسبا حسب حاجة الحدث.
الحلّ: جاء الحل واضحا جليا، فانتهت الليلة الأولى لبيت الزوجية بين طرفي الصراع، موسى وليلى، وابتدأت الليلة الأخيرة بخروج ليلى من المنزل وهروب زوجها من البلدة، وخروج الحاجة مبروكة من البلدة كذلك ومن حياة الشخصيات، مع إشارة الكاتب إلى أنه يتلو هذا العمل بجزء ثان متمّم للأحداث؛ لتبقى النهاية مفتوحة على مصراعيها إلى حينه.
اللغة: اعتمد الكاتب اللغة السردية السليمة والواضحة والمباشرة، وحرص على تضمين الأمثال الشعبية الفلسطينية في حوار الشخصيات؛ ليصوّر اثّقافة الشّعبيّة كم هي، بينما جاءت أغلب لغة الشخصيات فصيحة مباشرة، في حين جاءت بعض الألفاظ صريحة وجريئة دون مواراة أو مواربة إمعانا في الواقعية.
الزّمكانيّة: المكان والزمان غير محددين في الرواية بشكل صريح، واكتفى الكاتب بتوصيف المكان الذي تدور فيه الأحداث في بلدة ما، وفي منازل الشخصيات، فجعل الزمان والمكان عاما لعموم الحالة في المجتمع العربيّ بشكل عامّ والفلسطينيّ بشكل خاصّ وعبر أجيال، ودلت بعض الأمثال الشعبية على المجتمع الفلسطيني، ودوران هذه الأحداث فيه، وبهذا يحافظ الكاتب على نهجه الواقعي في معالجة قضايا المجتمع الشائكة، والتي يخشى الكثيرون الخوض فيها كتابة، مع تمنياتنا باستمرار عطائه في هذا المجال وبانتظار الجزء الثاني من هذا العمل.