رعي الغنم مهنة كغيرها من المهام وليس لأجل رعي الأمم – معمر حبار
تاريخ النشر: 11/07/23 | 22:48الكتاب: عبد الرحمن أبو المجد: “المفوّضية النّبويّة الدّولية، الدّبلوماسية النّبويّة، انتصارات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مكّة، انتصارات نبويّة بلا حزن دمويّة”، مؤسّسة الرّسالة ناشرون، دمشق-سورية، و بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 1430ه-2009، من 340 صفحة.
مقدّمة القارىء المتتبّع:
قال الكاتب: “عمل رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أوّل شبابه، كالعادة السّائدة راعيا للغنم، رعاها في بني سعد وفي مكة لأهلها على قراريط، وهذه حكمة سامية من يحسن رعي الغنم ينجح في قيادة الأمم، وما من نبي إلا ورعى الغنم”. 43
وقال أيضا: “ومن يحسن رعاية الغنم، يحسن قيادة الأمم”. 45
أقول: ليس من مقاصد المقال التّطرّق للكاتب، ولا للكتاب. إنّما الغاية التطرّق للعبارة بغضّ النّظر عن قائلها، وقد سبق أن تمّ التطرّق لنفس الموضوع عبر منشور لمن أراد الزيادة[1].
ليست المهن في رعي الغنم فقط
رعي الغنم مهنة كغيرها من المهن السّابقة، والحالية، ولا علاقة لها بالحكم.
لو كان رعي الغنم يقود لقيادة الأمم لتسابق لأجله السّاسة، والقادة، وعلّموا أبناءهم هذه المهنة، وحرصوا عليها حرصهم على مهن أخرى كالفروسية، والشعر، والتّعليم، وجمع المال، والنفوذ، والسّفر.
يعتمد الحاكم، وتسيير الحكم على جملة من العناصر تختلف حسب الزمان، والمكان، والظروف. وتبقى المهنة التي أدّاها الحاكم في صغره -إن كان أدّاها- ضمن هذه العناصر. ومن المبالغة حصر كلّ العناصر في رعي الغنم دون غيرها من العناصر.
درجات تأثير المهن على الحاكم -وغيره- متفاوتة. والقول أنّ رعي الغنم هو الوحيد المؤثّر يعتبر من المبالغة، والحطّ من قيمة، وتأثير العناصر الأخرى.
الأنبياء الذين لم يكونوا رعاة غنم ونجحوا في قيادة أممهم:
سيّدنا نوح عليهم السّلام كان صاحب مهنة صناعة السفن. ” فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُم مُّغْرَقُون “، سورة المؤمنون 27.
وسيّدنا سليمان عليه السّلام صاحب المهن الخارقة للعادة. “”قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ “، سورة ص.
ومهنة سيّدنا داوود عليه السّلام في صنع الحديد. ” وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) “، سورة سبأ.
ومهنة سيّدنا إبراهيم عليه السّلام كانت في بناء الكعبة. ” وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ “، سورة البقرة 127.
ومهنة سيّدنا يوسف عليه السّلام، هي مسؤول الخزينة العمومية بلغة العصر، والمكلّف بتسيير الأزمات. ” قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ “، سورة سيّدنا يوسف عليه السّلام، الآية 55.
ومهنة سيّدنا عيسى عليه السّلام. ” وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ “، سورة أسيادنا آل عمران، الآية 49.
وهذه المهن -وغيرها التي لانعرفها- لايوجد ضمنها رعي الغنم. ولم يقل أحد أنّ هذه المهنة، أو تلك ساعدتهم في قيادة أممهم.
رعي الغنم المؤقّتة، وممارسة التّجارة دائمة:
المتتبّع لسيرة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يلاحظ أنّ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم امتهن في صغره، وطفولته رعي الغنم، ولوقت محدود معلوم، وفي مساحة ضيّقة من مكّة. ثمّ امتهن التّجارة في مراهقته، وشبابه، وقبل زواجه، وبعد زواجه، وطيلة حياته.
لو صدّق المرء مقولة: “رعي الغنم يؤدي إلى رعي الأمم”، لكانت التّجارة أكثر تأثيرا في حياة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، باعتبارها ظلّت معه طوال حياته، وعزّ شبابه. مايدل أنّ مقولة “رعي الغنم تؤدي إلى قيادة الأمم”، مبالغ فيها، ولا تصح خاصّة مع سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ورغم ذلك، لم يقل أحد أنّ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحسن قيادة الأمم، لأنّه أحسن تسيير التّجارة.
مع العلم، قام سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالتجارة مذ كان مراهقا، وسيّر أعظم تجارة لسيّدتنا أمّنا خديجة رحمة الله ورضوان الله عليها، وسافر في سبيل ذلك، وحقّق أرباحا خيالية لم يحلم بها كبار التّجار يومها، وسافر من قبل في التّجارة مع كبار وسادة قريش، ومع عمّه سيّد العرب، وقريش، وسيّد التّجار.
راعي الغنم، ومالك الغنم:
يذكر أهل السير والتّراجم رعاة الغنم ضمن الضعفاء، والمساكين. ويذكرون في الوقت نفسه التّجار، والعسكريين ضمن القادة، والسّادة، والكبار، والعظماء.
عنترة بن شداد -حسب الروايات- كان صاحب معارك ناجحة، وبطولات نادرة، وشجاعة جلية لفطرة فطر نفسه عليها، والتي لم تمنح للكثير من السّادة، ورعاة الغنم. لكن لم يقل أحد أنّ ذلك كان بسبب رعي الغنم.
الصّادق الأمين:
ظلّت عرب قريش تذكر سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالصّادق الأمين قبل بعثته صلى الله عليه وسلّم، وبعدما أرسل للعالمين جميعا، بل وهي تحاربه وتضع عنده آماناتها الغالية. ولم تلتفت لرعيه للغنم، لأنّ رعي الغنم كانت -يومها- مهنة يمارسها الكثير، بل العالم أجمع، ولا تلفت الأنظار. ولم يقل أحد منهم “قيادة الأمم من رعي الغنم”، وإلاّ لتقاتلوا فيما بينهم حول أيّهم يكون راعيا للغنم، كما سعوا ليفني بعضهم بعضا حول أيّهم ينال شرف حمل الحجر الأسود، وهي من المهام العظمى التي لايقدر عليها إلاّ السّادة، والقادة، والعظام، والكبار.
رعي الغنم ليست مهينة:
لم يعرف عن قريش -فيما قرأت، ولغاية هذه الأسطر-، أن عيّرت سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم برعي الغنم. ولم يعرف أنّها أثنت عليه بكونه راعي الغنم.
[1] منشورنا بتاريخ: ، وبتاريخ: 6 نوفمبر 2020، وبعنوان: #سيّدنا_رسول_الله_صلى_الله_علي_وسلّم_ورعي_الغنم—
الشلف – الجزائر
معمر حبار