فصلنا تينٌ وبِطّيخ
زهير دعيم
تاريخ النشر: 13/07/23 | 8:25الحرّ لافح والدّنيا تنّور والشمس لاهبة تغرق بالنّور …
نعم فنحن في فصل الصيف؛ فصل الخيرات والسنابل، فصل التين والعنب البلدي والصًّبار والبِطّيخ، وهذه كلّها أُحبها، فهي من رائحة بلادي ومن عصارته وترابه، قدّستها الحياة ومشت على دروب
كرومها أقدام الأجداد. ولكن اين تين اليوم من تين الأمس ؟! وأين عنب اليوم من عنب الأمس ؟! سقى الله تلك الأيام ، أيام كانت حبّة التين ” الغزالي” “والحماضي” ” والخضاريّ” تملأ الواحدة منها كفّك وتزيد، فيسيل لعابك قبل أن يسيل عسلها على أثوابك ، ويوم كان العنب معطّرًا تأكله حبّةً حبّةً فتنتشي. وأما اليوم ” ويا حسرة ” فأضحى كل شيء يشبع حاسةً واحدة لا غير ؛ حاسة النظر ، امّا الحواس الأُخرى فقد حُرمت من الميراث ،لقد أضحى المذاق مائعًا بل قل كالتبن ،وأصبح العبير اصطناعيًا ،فأنت لو فتحت الثلاجة اليوم ، وكانت مملوءة بالفاكهة كعادتها ، لما شممت رائحة، وقد يُخيّل إليك بأنك مزكوم ، ولكن ألأمر غير ذلك فالعلّة في التطور والحضارة التي أبت إلا ان تسرّع كل شيء حتى الدجاج بات تبنا تأكله بلا متعه ،حتى ولو جاء مُحمًّرا من الطابون، وكيف لا يكون هذا والدجاجة تنتفخ بالمصل ويزيد حجمها بالأدوية والأطعمة الصناعية،
وتأتيك بيوضها أيضا مائعة ، باهته لا طعم لها ولا لون.
أنا لا أتوق الى الأيام الخوالي في كلّ شيء … لا أتوق الى الفقر
والعوز والامراض حين كانت الحصبة تحصد ربع الأطفال ، ولا أتوق إلى التخّلف ، يوم كنا نبحث في القرية كلها عمن يقرأ لنا رسالة جاءتنا من الخارج ، ويوم كان الاغنياء يعيشون في نعيم ، في حين ظلّ السواد الأعظم يبيت على الطّوى . إني أتوق إلى المحبة التي ربطت الأهل في قريتنا برباط من الوئام ، فما كنت تعرف المسيحي من المسلم ، وكيف تعرفه وهم يسهرون معا ، ويعملون معا ، ويغنون العتابا والميجنا معا ، ويحصدون الحقول العسجدية معا ، ويتفيؤون ظلال الخروبة معا ، ويشاركون بعضهم ” صبّة ” الباطون اليوم عند ” أبو الياس” وفي اليوم التالي عند ” ابو محمود ” . واشتاق بكل جوارحي إلى تلك القداسة التي كنا نسبغها على أرضنا ، لقد أحببنا الأرض محبة عظيمه ، وسيّجناها بالرعاية وبالقلوب ، فظلمنا العوسج والقندول والأعشاب الأخرى التي اقتلعتها الأيدي الخشنة المباركة ورمتها على السلاسل الحجرية . لقد كانت الأرض يومها ” غير شكل ” ، كانت معطره بشذا الياسمين والحبق والعرق والضحكات البريئة . كانت خيّرة تعطي بلا منّة ، ويأتي عطاؤها حلوًا ، طيّبًا شهيًّا ومن الأعماق . لم يزل يا صاحبي طعم بطيخ البطوف الشهي تحت أضراسي ، ولم يزل الموز الريحاوي يغرد فوق قمة ذاكرتي ، اذكره بالخير هذا الموز الريحاوي كلما اشتريت موزًا اليوم ؛ موزًا عاقرًا لا يحمل من صفات الموز الا الاسم ، انه ابن البّراد والثلاجة الكبيرة امه.
اما اشتياقي وحنيني الاخر فيرجع الى الاخلاق … يوم كنا نحترم الصغير والكبير ، ونقدّس المعلم ، ” نخاف ” منه ونهيبه ونعطيه الاحترام الذي يستحق ، فكانت الدنيا يومها بألف خير ، فتنام صيفًا على سطوح المنازل ولا مراقب ، ونترك بيوتنا الى الارض الزراعية والابواب مغلقة لا مقفولة ، فنعود اليها بعد شهرين او اكثر وهي على ” طبقة يدك ” . كما تقول العامّة. اين طارت هذه الاخلاق ؟ والى ايّة سماء هربت حتى بتنا لا نسمع الا القتل والسرقات والخاوة في كلّ زاوية.
إني أموت حُبًّا بالعلم والحضارة والتقدم التقنيّ واعشق الديموقراطية ، ولكني أحبّ كل هذه مقرونة بالأخلاقيات والمحبة والتسامح والذوق الرفيع والأصيل ، أحب مزجًا رائعًا ، يربط الماضي الجميل بالحاضر الاجمل فتصبح الدنيا كلّها ” قطعة سما ” .