إستعراض وتحليل لكتاب “بين مدينتين للكاتبِ” فتحي فوراني “
بقلم: الدكتور حاتم جوعيه – المغار – الجليل
تاريخ النشر: 13/07/23 | 8:41( فتحي فوراني مع حاتم جوعيه )
• مقدِّمة
وُلِدَ الكاتبُ والأديبُ المبدع الأستاذ فتحي فوراني في مدينةِ حيفا.أصلُ عائلتهِ من مدينةِ “صفد” الجليليَّة. سكنت العائلة في حيفا فترة قصيرة ورجعت بعد ذلك إلى مسقطِ رأسِها صفد حتى عام 1948 عام النكبة، ثم َهُجِّرِت مع من هُجِّرُوا..لقد هُجرت العائلة من صفد وانتقلت بعد ذلك إلى مدينةِ الناصرة وبقيت فيها سنوات طويلة.
نشأ فتحي وترعرعَ وأكملَ دراستهُ الابتدائيَّة والثانويَّة في الناصرة، وبعد ذلك قرَّرت عائلتهُا الانتقالَ إلى حيفا لوجود عائلاتٍ صفديَّة تربطها علاقاتُ صداقةٍ مع والدِهِ.
في حيفا عمل فتحي في أكثر من مجال: في البداية عمل في بنك باركليز، وفي فترة عمله في البنك أنهى دراسته الجامعية في جامعة حيفا وأنهى اللقب الأول B.aفي موضوعي اللغة العربية وتاريخ الشرق الأوسط . ثم انتقل إلى القدس وأكملَ دراستهُ الجامعيَّة وحصلَ على اللقبِ الثانيm.a في اللغة العربيَّة من الجامعة العبرية، ثم التحق بسلك التعليم حيث درَّسَ اللغة العربية في الكليَّة الأرثوذكسيَّة العربية في حيفا مدة تزيد على ثلاثين عامًا.
لقد تتلمذت وتخَرَّجَت على يديهِ أعدادٌ كبيرة ٌ من الطلاب، ومنهم اليوم :المحامون والقضاة والشعراء والأطباء والمهندسون وأعضاء برلمان ورجال الأعمال والمعلمون وفي شتى المجالات . كما عمل محاضرًا للغة العربية في الكليَّة الأكاديمية للتربية “أورانيم”. إضافة إلى ذلك فقد عملَ محررا أدبيًا في صحيفةِ “الاتحاد”. شغل منصب نائب لرئيس بلديَّةِ حيفا وعضوَ بلديَّةٍ من قبل الجبهة.. وأصدرَ العديدَ من الكتبِ الأدبيَّةِ واللغويَّة وقواعد اللغة العربية. وأمَّا كتابُهُ الذي بين يدينا الآن (بين مدينتين) فتروي فصولهُ وصفحاتهُ الكثيرَ من حياتِهِ وذكرياتِهِ منذ الطفولة وحتى الآن.
لأسباب صحية اضطر للخروج إلى التقاعد المبكر،فتفرَّغ كليًّا وأصبحَ لديهِ متّسع من الوقت للكتابةِ والإبداع . وفي هذه الفترةِ كتبَ هذه السيرة “بين مدينتين”، وأصدر منها الجزء الأول الذي سيتبعه الجزء الثاني تحت عنوان “حكاية عشق”، ولهُ غير هذه السيرة 12 كتابًا .
**
• مدخل إلى السيرة
“بين مدينتين (سيرة ذاتيَّة) يقعُ في 290 صفحة من الحجم الوسط . على وجهِ الغلاف الأول صورة حالية للكاتب وعلى الوجهِ الثاني من الخلف صورة للكاتب في مرحلة الصبا . صدرَ هذا الكتاب عن دار “راية” للنشر- حيفا.
سأتناولُ هذا الكتاب من خلال الاستعراض أوَّلا وبعدها أنتقل إلى التحليل .
يستهلُّ الكاتب سيرته بمقدِّمةٍ قصيرة وجميلةٍ يتحدَّثُ فيها عن الظروف التي ولدت فيها هذه السيرةِ والدافع للبدء بها. فقد أصيب الكاتب بالسكتة الدماغيةالتي أسماها (بنت الكلب) حيث توقفَ إثرها عن العمل في سلك التدريس وأصبحَ لديهِ الوقتُ الكافي لكتابةِ هذه السيرة التي تحتاج إلى تفرُّغ .. ويذكِّرنا بالشَّاعر أبي الطيِّب المتنبيِّ عندما أصيبَ بالحُمَّى فمكثَ أسابيع في منزلهِ وقد سمَّاها “بنت الدَّهر”.. فالسكتة الدماغية هي المسؤولة والمحفز لكتابةِ هذه السيرة وللتفرُّغ للمطالعةِ وللكتابةِ بشكل مكثفٍ ، وخصوصًا عندما بدأ أصدقاؤُهُ ومعارفهُ وأترابهُ وطلابه والأقارب يزورونهُ بشكل مكثفٍ، فيستعرض أشرطة َ الذكريات وأيامَ الطفولةِ والصبا والشباب. يكون الحديث ذا شجون، ويقترح عليهِ الأصدقاء تدوينَ هذه الذكريات لأنها هامَّة ٌ وممتعة وشائقة. وهذا ما حصل (المقدمة – حكاية السيرة من صفحة 8 – 17) ولولا “بنت الكلب” لما كتب هذه السيرة.
يهدي المؤلفُ هذا الكتاب (السيرة) لزوجتهِ وأولادهِ وأحفادِهِ.
**
تقسم السيرة ُ إلى ثلاثةِ فصول:
ألفصل الأول بعنوان: من اليرموك إلى “حارة الصواوين” ( ص 17- 37) .
ألفصل الثاني بعنوان: من صفد إلى الناصرة (ص 37 – 134) .
الفصل الثالث والأخير، الاتقال من الناصرة إلى حيفا(ص135– 292).
**
وفي كل فصل وجزءٍ العديدُ من اللوحاتِ والمشاهد عن حياتهِ وذكرياتهِ منذ نشأتِهِ وطفولتهِ في صفد ثم الناصرة وحتى انتقالهِ مع العائلةِ إلى حيفا ودراسته الجامعيَّة وعمله في البنك ثم في التعليم..
وفي هذه الصفحات يستعرضُ الكثيرَ من الذكرياتِ والحكاياتِ التي أصبحت الآن تاريخًا، وخاصَّة مع رفاق وأترابٍ عاشرَهُم ولهم الدورُ الكبيرُ على الصعيد ِ الوطني والأدبي والثقافي والإنساني، مثل : محمود درويش وراشد حسين وسميح القاسم وإميل حبيبي وغيرهم ..وَيُحلَّي هذا الكتابَ العديدُ من الصور للكاتب مع عائلتهِ وأصدقائهِ وغيرها من الصورللكتاب والشعراء . ومنها صورٌ لمعالم وحاراتٍ في مدينةِ صفد قبل النكبة ولحيفا والناصرةِ في سنواتِ الخمسينات والستينات.
**
• الطريق إلى صفد ..إلى حلم المشتهى
يبتدِىءُ الكاتبُ هذه السيرة بالجزءِ الأول وهو بعنوان: (الطريق إلى صفد ..إلى حلم المشتهى)..ويتحدَّثُ فيهِ عن ترحيل العائلة عن مدينةِ صفد، وبعد خمسة وأربعين عامًا يصف الكاتب زيارة أقربائه الذين شردوا عام 1948 وجاؤوا من اليرموك في دمشق . ويروح والدُهُ يستعرض لهم أهمَّ المعالم والأماكن والذكريات في صفد، مثل: نبع الصفا الذي كان صافيًا ومكان بيتهم وملاعب الطفولة والبئر والسهول الخضراء.. والكثير من المعالم والمواقع التيدرست أو أصبحت أطلالا.
ويذكرُ الكاتبُ (من أرشيف ذاكرتِهِ) كيف كانت الحياة ُ في صفد عندما كان طفلا صغيرًا ، فيستعيدُ ذكرياته حيث النساء والصبايا يرتدين “الملايات الصفديَّة ” ذات اللون الذهبي المخطط والشبيهة بالملاياتِ التي ترتديها النساء الشركسيات، والأولاد والبنات الذين يرتدون ثيابًا جديدة ..والعصافير التي تتقافزُ وتسقسق مرحة.. يتذكر الألعاب والمراجيح، وكيف كانت الدكاكينُ والأسواقُ حيث الحلويات وغزلُ البنات والبصطرمة، والعرقسوس والأسكيمو والشوكولاته..ويتحدَّثُ عن زيارةِ القبور وكيفَ كانت توزَّعُ الحلوى على الأطفال، وخاصَّة كعك العيد، وتزين باقات الورد الملوَّنة القبور البيضاء . يرمزُ الكاتبُ إلى شخصيَّتِهِ باسم (عبد الله) وهو الشخصيَّة المركزيَّة والرئيسيَّة والبطل في هذه السيرة الذاتيَّة . ويقولُ ” ضباب الطفولة يُخيِّمُ على ذاكرةِ الصبيّ، ولكن تظلُّ “صفدُ” الحلمَ وذكريات الطفولة الضبابيَّة عميقة في الوجدان والذاكرة. ويتذكرُ وهو صغير كيف أنَّ صفدَ هي مدينة جميلة بحكم موقعها الجغرافي في الرَّبيع والصَّيف فيقول : “وكان يزورُها العربانُ من جميع أنحاءِ الوطن العربي ومن بلاد اللهِ الواسعة، فقد جاؤُوا ليصطافوا في صفد – عروس الجبل – وأجمل مصايف فلسطين”.
• ألجدّوالجدّة
ويتحدَّثُ الكاتبُ عن جدِّهِ الذي كانَ تاجرًا وكان يتكلَّمُ لغة َ الإيدش وكانت تربطهُ علاقاتٌ تجاريَّة مع التجَّارالحيفاويِّين الذين تكلّمُوا الإيدشَ، فتعلَّمَ لغة َ القوم لكي يأمنَ مكرَ الليالي وَمكرَهم! ويصفُ جدَّهُ وصفًا دقيقًا بقامَتِهِ ولباسِهِ العربي الذي يرمزُ إلى الأصالةِ والجذور..لقد اقتُلِعَ جدُّهُ من أرض آبائِهِ وأجدادِهِ فوجدَ نفسَهُ لاجئًا في بلادِ الغربةِ ووريَ التراب ودفنَ فيما بعد بعيدًا عن وطنِهِ . إنها مأساة ُ الكثير من اللاجئين المشردين الذين رحلوا عن العالم ودُفنوا خارج الوطن.
وبعدَ أن يعرضَ صورة ً موسَّعة ً لجدِّهِ وصفاتهِ الرجوليَّةِ يتطرَّقُ إلى جدِّتِهِ وعلاقته الحميمة معها. ثم يصف الكاتب عملية التشريد عام النكبةِ، فتحتَ زخِّ الرَّصاص حملَ الرجالُ والنساءُ ما خفَّ حملهُ والأطفالَ الرُّضَّع على الصَّدر وآخرون يتشبثون بأيدي الكبار وعلى رؤوس النساء وعلى أكتاف الرجال أحمال (ص 39) ..وأمَّا جدَّتهُ فقد وجدَت طريقهَا إلى الناصرةِ قبل رحيل الأهل إلى الشَّمال- لسوريا – وكانت الجدَّة ُخبيرة ً في صُنع القطرة للعيون ومداواتِها، وكانت طيَّبة َ القلبِ وتحبُّ العطاءَ والمساعدة، وكان الطفلُ عبد الله ( أي: فتحي كاتب ومؤلف هذه السيرة ) يمسكُ أحيانًا بثوبها وأحيانًا بيدِها ويجدُ المتعة َ في مرافقتِها أينما ذهبت، فمعها يشعرُ بالأمان والاطمئنان، وكانت تغمرُهُ بحنانِها وعطفها، فيرتاحُ لها أكثر ممَّا كان يرتاحُ إلى أمِّهِ وهو صغير.
**
• قرية داخل المدينة
ثمَّ ينتقلُ الكاتبُ إلى لوحةٍ أخرى في نفس الفصل بعنوان :(الحيّ الشرقي في مدينةِ الناصرة ومسرح الفولكلور الشَّعبي ) فيتحدَّثُ بشكل موسَّع عن مدينةِ الناصرةِ بعد عام 1948 وحتى سنوات الستينَات من القرن الماضي وكيف كان نهجُ ونمطُ وطابعُ الحياةِ والحاراتِ والأحياءِ الشعبيَّة ..ويصفُ الطابونَ والكانونَ والتبنَ والأتون والبيدرَ والشاعوبَ في الحي الشرقي. أي أن هذا الحيّ َ عبارة عن قريةٍ كبيرةٍ في مدينة البشارة.. ونمط الحياة فيها مشابهٌ جدًّا لحياةِ القرى العربيَّة الأخرى، فالناسُ نفسُ الناس وفيها الطوريَّة والجمال والحرَّاثون والبقر والعجَّال والصراعاتُ الجاهليَّة (الخلافات بشكلها وطبيعتها العصريَّة والصراع العائلي)…وكان الناسُ يستعملون كثيرًا الدوابَّ (الحمير والجمال والبغال والخيل) لنقل الأمتعة وغيرها. وكانت سيَّاراتُ النقل والشحن نادرة.
• نهر اللاجئين يصب في الناصرة
ويذكرُ الكاتبُ العديدَ من الأصدقاء الذين جاؤوا من القرى المجاورة التي تشرَّدَ سكانها وسكنوا في الناصرة ، مثل: معلول ، المجيدل، صفورية وحطين ولوبية والشجرة.. وغيرها،. يصف الكاتبُ هؤلاء النزلاء الجدد وصعوبات العيش التي واجهتهم في بداية نزوحِهم وكيف تجمَّعت العائلات المشرَّدة في الكازانوفا واصطفت الفراشَ والسجاجيدَ القديمة (ص 44 ).. ونصبت الستائر والبطانيَّاتُ على الحبال لتشكل حيطانًا وحواجزَ متحرِّكة تفصل بين عائلة وأخرى، وتحافظ على “خصوصيَّة” العائلات المشرَّدة وتشكل حدودًا بين ” الشقق العصرية ” الجديدة!
إنَّهُ لأسلوب تهكُّميٌّ وجميل يعكسُ هولَ وعمقَ المصيبةِ والمأساة .
ويذكرُ الكاتبُ لقاءَهُ الأول بالصديق عفيف خليل سالم الشريد القادم من معلول والذي ما زال يلتقيهِ يوميًّا ولا سيِّما على شاطىءِ البحر(بعد ستين عاما ؟ لا أصدِّق ! كأنها أمس ) حسب تعبير الكاتب.. ويتحدَّث عن البرد القارس في مدينةِ الناصرةِ في فصل الشتاء الذي كان لا يُطاق آنذاك…وكيف كان يذهبُ إلى المدرسةِ في ساعاتِ الصباح في جوٍّ ماطر وقارس جدًّا مثله مثل باقي الطلاب.. وكيف كان السكانُ اللاجئون يُضطرُّون إلى احتطاب الأشجار ليستعملوها وقودًاِ ويقيمون برَّاكيات الصفيح لتكون الوطنَ الجديدَ بعدَ أن اقتلِعُوا من بيوتِهم ومنازلهم وفتكت بهم معاول الغدر والتشريد.
• مدرسة فتحي ..والفلقة!
هذا ويستعرضُ الكاتب فترة َ دراسته للمرحلةِ الإبتدائيَّة في “مدرسةِ فتحي” واسمها “مدرسة الجامع” المجاورة للجامع الأبيض والتي أسَّسهَا الشيخ ” فتحي الدريني” الذي درس في الأزهر فسميت باسمِهِ ، وتقعُ بجانب مدرسة تيراسنطة (مدرسة الدير) ..ويتحدَّثُ بالتفصيل عن أساليبِ التعليم في المدرسةِ والمواضيع التي يتعلمونها وأوضاع الطلاب الاقتصاديَّة الصَّعبة، وخاصَّة الطلاب الذين كانوا لاجئين ، وكيف كان المعلمون آنذاك يُعاملون الطلاب بمنتهى القسوةِ وبالضَّرب المبرح لأتفهِ الأسباب ولأبسط ذنب يرتكبهُ الطالب. ويذكر تعرُّفه على زميله في اليوم الأول في مدرسة فتحي، وتنشأ بينهما صداقة حميمة ويصبحَ الصديق في ما بعد شخصيَّة ً لامعة قانونيًّا ووطنيًّا وهو المحامي وليد الفاهوم . ويصف الكاتب كيف كانا يتقاسمان قطعة الحلوى مناصفة ً أو أيَّ شيىءٍ للأكل . ويقولُ الكاتب ” إنهُ العيش والملح في أجمل تجلياتِهِ.. وأكثرها عفويَّة وبراءة . أهي الدروس الأولى في الاشتراكيَّة الحقيقيَّة! ربَّما.. وتستمرُّ هذه الصَّداقة منذ ستة عقود و حتى الآن.
وأما الكاتبُ فقد اختارَ رسالة التعليمَ (الجهاد في ورشةٍ حضاريَّةٍ لصنع رجال المستقبل..وتعليمهم من أينَ تؤكلُ الكتف، فقد حملَ صليبَهُ واختارَ مهنة َ تربيةِ الأجيال الصَّاعدة نحوَ شاطىء الحلم وفتح شهيَّتها على عشق اللغةِالقوميَّة..اللغة العربيَّة).
وأمَّا الصَّبي الآخر الذي هو المحامي وليد الفاهوم فقد اختارَ طريقَ الدفاع عن الغلابى من أبناءِ شعبنا الرازحين تحت نير الاحتلال ثمَّ طريق الإبداع الأدبي. هذان الصبيَّان بدَآ الطريق معًا..وظلا وما زالا على هذا الطريق (ص51 – 52 ) .
**
• كنيسة الأقباط..وكنيسة الأحد
وينتقلُ الكاتبُ إلى لوحةٍ أخرى فيتحدَّثُ عن كنيسةِ الأقباط ، وأكياس الورق ..
“يذهبُ الصَّبيُّ إلى الكنيسةِ ويصادقُ الأبَ واكيم – الكاهن المسؤول عن بناء الكنيسة – فيسمحُ لهُ بأن يلمَّ ويجمعَ أكياسَ الإسمنت الفارغة ويأخذها إلى البيت فيفكّها ورقة ورقة ويفصلها ويعيدُ تشكيلها وهندستها وترتيبها من جديد، فتتشكلُ أكياسَ ورق صغيرة .. يبيعها لدكاكين البقالة وغيرها من الحوانيتِ في سوق المدينة .
وكان يذهبُ أيضًا إلى كنيسة ِ ” الأحد “مع مجموعةٍ من أترابهمن جميع الطوائف ، وكان الكاهنُ إسطفان عتيق يعطي دروسًا في الدين .
• درس الدين..درس الرعب!
ثمَّ ينتقلُ الكاتبُ إلى ذكرياتِهِ في المدرسةِ وكيف كانت الغرفُ مكتظة ً بالطلابِ مثل علب السردين! ويصفُ جوَّ السوق وأصواتَ الباعة خارج المدرسةِ ( فول مملح فلافل سخن كعك بسمسم ..إلخ) وكان صوت نداء الباعة يمتزجُ مع أصواتِ المعلمين داخل غرف الدراسةِ .هكذا كانت الأجواءُ في الناصرةِ آنذاك عندما كان فتحي طالبًا في الابتدائيَّة…
ويستعرضُ الكاتب بالتفصيل أساليبَ التعليم والفلقات التي كان “يطعمها” المعلمون للطلاب المشاغبين ، وخاصَّة للذي يأتي متأخِّرًا إلى الصَّف في أيام الشتاء الماطر، فالمعلمون لا يرحمون . ويتحدَّثُ عن دروس الدين كيف كانت ترهيبًا وتخويفًا وليست ترغيبًا وتعليمًا عن القيم والمعاملاتِ الحسنةِ والمبادىء الأخلاقيَّةِ والإنسانيَّة في الدين الإسلامي. ولم يُعَلِّمُوا أنَّ الدينَ يدعو إلى المحبَّةِ وأنَّ اللهَ محبَّة إلخ .. فكان درسُ الدين مصدرَ رعبٍ للطلابِ.
وكان الطالبُ عبد الله (فتحي) يحلمُ في الليل بكوابيس مرعبة بسبب درس الدين..وخاصَّة (كما علَّمُوهُ) عذاب القبر وكيف سيكونُ العقابُ يوم القيامة بعد أن يقوم الموتى ويبعثوا من قبورهم ..إلخ.
ويتحدَّثُ الكاتبُ عن الجامع الأبيض وهو المسجد الوحيد في المدينة آنذاك ويأتي إليه للصلاةِ كبارُ السنِّ ولم يعرفوا آنذاك شيئا اسمهُ حركات إسلاميَّة ولم يدّعوا إسلامًا ولم يكفّروا أحدًا ولم يعرفوا تعصُّبًا ولا تزمُّتا أو كلمة أصوليَّة أو سلفيَّة وهابية.. إنهم رجالٌ أتقياءٌ أنقياءٌ بسطاء مؤمنون طيبون (صفحة 69).
**
• فؤاد خوري ومدرسة “أبو جميل”
وينتقلُ الكاتبُ إلى مشهدٍ آخر يتحدَّثُ فيه عن مدرسةِ أبي جميل يوسف خليل جدعون مدير المدرسة الإبتدائية . وفي هذه المدرسةِ يتعرَّفُ الصبيُّ إلى العديدِ من الأصدقاءِ اللاجئين من قرى عديدةٍ . وبعد ذلك ينتقلُ للحديث عن ( فؤاد خوري) المدرس المثالي الذي كان يعلمُ بصدق وتفان وإخلاص ، وكيف فصِلَ من وظيفتِهِ لأجل مواقفهِ وآرائهِ الوطنيَّة والتقدميَّة، وقد أحبَّهُ جميعُ الطلاب لشخصيَّتهِ. ويقول الكاتبُ (صفحة 76): ويفصلُ المعلمُ القائد من وظيفتهِ (لأنهُ أحبَّ شعبَهُ وأخلصَ لهُ. ولأنهُ أحبَّ وطنهُ وعشقَ ترابَهُ ولأنَّ آراءَهُ السياسيَّة تشكلُ خطرًا على أمن الجنرال! ولأنهُ منارة ٌعملاقة تهتدي بها الأجيالُ الصَّاعدة في طريقِها إلى شواطىء الحلم ..إلخ)
وهكذا كان الوضعُ في فترة َ الحكم العسكري في الخمسينَات والستينيات من القرن الماضي . فكلُّ معلم صادق ونظيف ويجاهر برأيهِ وموقفهِ السياسي الشريف والوطني يُفصَلُ من وظيفتهِ .
**
ويستعرضُ الكاتبُ بعد ذلك لوحات عديدة منها: هطول الأمطار وكيف كان الطلابُ يلبسون ملابس الكاكي ثم يتحدث عن الفلقات التي كانت من “نصيب” الطلاب “يذوقونها” لأبسط ذنب وفي طقس الشتاء البارد وثلج الناصرة (السادية من قبل المعلمين)..وكيف “ذاق” الصبي فلقة ً “جامدة” لأنهُ تأخرَ قليلا عن الدرس بسبب الأمطار..
• جنينة أبوماهر..ملتقى الأدباءوالشعراء..
وينتقلُ الكاتبُ بعد ذلك للحديث عن والدِهِ الذي عملَ حلاقًا ، في معسكرالجلمة قرب حيفا وكيف كان يرتدي الملابسَ الأنيقة َ ويقرأ الجرائد العربية والإنجليزية ويدخن الغليون َ..إلخ . وينتقل الكاتبُ بعدها إلى مواضيع عديدة ويستعرضُ الكثيرَ من الذكرياتِ وهو في الناصرة ، وخاصَّة أثناءَ دراسته الثانويَّة وما بعدها وكيف كانت تقامُ الندواتُ واللقاءاتُ الأدبيَّة والثقافيَّة في عدَّةِ أماكن من مؤسسات ونواد وجمعيات ثقافية وحوانيت حيث يجتمعُ ويلتقي فيها الكتابُ والأدباءُ والشَّخصيَّاتُ المعروفة وعددٌ من طلابِ المدارس . ويكون الحديثُ والحوارُ في مواضيع مختلفة: أدبيَّة سياسيَّة وعلميَّة..إلخ. يذكرُ الكاتبُ عدَّة َ أماكن كانت ملتقى للأدباءِ والكتابِ والمثقفين في الناصرة ( فترة الخمسينات إلى السبعينات من القرن الماضي) ، مثل : جنينة أبي ماهر التي كانت وما زالت مجمعًا للخلان (حسب تعبير الكاتب) وكانت معلمًا بارزًا من معالم المدينةِ كعين العذراء . كان يؤم هذه الجنينة شخصيات من جميع ألوان الطيف الاجتماعي والثقافي والسياسي والتعليمي . وكانت تنصبُفيها ” الموائد ” الثقافيَّة التي تزيِّنُ المدينة ويشاركُ في تشكيل المشهد معلمون كبار كانوا جزءًا من المشهد التربوي والتعليمي في مدينة الناصرةِ، ومعظمهم أنهوا الصفَّ الثامن الابتدائي قبل عام النكبة، ثمَّ تابعوا المسيرة َ بعد النكبةِ، في بناء الأجيال الصاعدة ( ص121). ويصفُ الكاتبُ بالتفصيل وبإسهابٍ كيف كانت تقامُ الحلقات الأدبيَّة وتطرح فيها الأفكار والآراء، وكانت اللقاءاتُ يوميَّة ً تقريبًا.. وكان القاسم المشترك للجميع هو عشق اللغةِ العربيَّة وآدابها تحت ظلِّ المدِّ القومي الذي رفرفت في سمائهِ الناصريَّة.
• جامعة الصفوري..طه محمد علي
وهنالك مكانٌ وموقعٌ آخرٌ للقاءات الأدبيَّةِ وهو حانوت الشاعر طه محمد علي قرب الكازانوفا حيث تباعُ فيه التحف السياحيَّة والتذكاريات وتماثيل الرموز الدينيَّة ومعالم الأماكن المقدسة . كان يأتيه الكثيرُ من السواح والأجانب لاقتناء هذه التحف ، ويذكرُ الكاتبُ بعضَ الأسماء التي كانت تملأ المشهدَ الثقافي آنذاك ( فترة الخمسينات والستينيات من القرن الماضي)، مثل : إميل حبيبي ، توفيق زياد ، راشد حسين وأحمد حسين ومحمود درويش وسميح القاسم ومصطفى مرار ومنصور كردوش ومحمود الدسوقي وشكيب جهشان وميشيل حداد وفهد أبو خضرة وحبيب بولس ونبيه القاسم وأحمد درويش وعمر حموده الزعبي وسعود الأسدي وبطرس دله ومحمد علي طه وعلي رافع ومحمد ميعاري وحسين مهنا ويوسف ناصر ونعيم مخول وفوزي الأسمر ونجلاء الأسمر ونجوى قعوار فرح ونبيل عوده وتوفيق معمر وسعاد قرمان وحنا أبو حنا وجمال قعوار وعصام العباسي وعبد الحفيظ دراوشه وجورج نجيب خليل ومحمود كناعنه ومحمد نفاع ومفيد صيداوي ونمر مرقص ..إلخ
وفي هذه الجامعةِ الصغيرةِ كما يصفها الكاتبُ فيقول: تعرَّفنا إلى أسماء لم نكن لنعرفهَا في المناهج الأدبيَّة المقرَّرة، ومن خلال النقاشاتِ التي تدارُ نتعرفُ على إنتاج وروائع كبار الكتاب والشعراء في العالم العربي والكتاب العالميين. ويتحدَّثُ الكاتبُ بتوسع عن الحلقاتِ الأدبيَّةِ التي كانت تقامُ يوميًّا . وكان يتمُّ نسخُ الكتب والدواوين الشعريَّة بالحبر السائل، فلم تكن آلات التصوير متوفرة . وكانت الكتبُ نادرة ً ولا تصلُ من الدول العربيَّةِ للداخل . وما زال الكاتبُ يحتفظُ بالعديدِ من الدفاتر نسخَ عليها الدواوين الشعريَّة لشعراء كنزار قباني وفدوى طوقان والبياتي والسياب ونازك الملائكة في مكتبتِه بالبيت.
• ويختلطُ الفاعلُ والمفعول بالطرمس المملح والفول!
ويذكرُ الكاتبُ لحظة انفعاله عندما حمل الميكروفون أوَّل مرَّة في حياتهِ على المنصة ليقرأ قصة قصيرة من تأليفه أمام جمهور غفير في مهرجان أدبي تحت عنوان ” قصة ونقد ” الذي عقد في جمعية الشبان المسيحية في الناصرة.
وفي نهايةِ هذا الفصل يتحدَّثُ الكاتبُ عن مدرسةِ الكراج – تعليم وسط ضجيج الباعة – ويصفُ بالتفصيل أجواءَ المدرسة التي تقع في قلبِ حارةِ الكراجات والمقالي والصياح والباعة المتجولين في منطقة الكازانوفا ومقام شهاب الدين وشركة باصات العفيفي والمطاعم والحوانيت وسينما أمبير والناس .. إنهُ مركزُ المدينةِ . يقولُ الكاتبُ: في هذا المركز تقعُ المدرسة ُ الابتدائيَّة ومديرها سليم توفيق الأحمد ” أبو هشام ” ويكون درسُ اللغة العربيَّة عن الفاعل والمفعول به ..فينطلقُ صوتُ الباعةِ “فستق حلبي.. بزر.. طرمس فول مملح، ويختلطُ الفاعلُ والمفعول بالطرمس المملح والفول!.. ويتابع : ويكونُ درسُ الجغرافيا عن سلسلةِ جبال الهملايا وامتداداتِهَا الأوروبية.. ومن حانوت الخضار ينطلقُ الصَّوتُ : خيار بلدي يا خيار.. أصابيع الببُّو يا خيار! ويختلطُ الخيارُ البلدي بجبال الهملايا وإيطاليا وسويسرا وألمانيا وغيرها من البلدان الأوروبيَّة إلخ .
إنها صورة ٌ كاريكاتيريّة تهكميَّة رائعة . وفي نهايةِ الفصل يقولُ الكاتبُ: ويغزو غزلُ البنات وأسكيمو بريكس درس الفيزياء فيخرجُ أرخميدس ويصيحُ عاليا : يوريكايوريكا …
بيئة ٌ تعليمية مُثلى في عصر ما بعد الحداثة!
• من مدينة البشارة..إلى عروس الكرمل
وينتقلُ الكاتبُ إلى الفصل والقسم الأخير من السيرة بعنوان: من مدينةِ البشارة إلى عروس الكرمل ( ص 135 – 292 ) فيتحدَّثُ عن انتقال العائلة إلى حيفا وعن حياته هناك وصولا إلى الفترة الحالية وبتوسع .. وهذه المرحلة زاخرة ٌ بالأحداث ِوبالمشاهد الهامَّةِ التي أصبحت تاريخًا ثقافيًّا وأدبيًّا . وكان سببُ انتقال عائلةِ الكاتب إلى حيفا الأستاذ نور الدين العباسي: فقد كان لوالدهِ صديقٌ حميم وهو شخصية تربوية مهيبة واسعة الاطلاع ، إنه نور الدين العباسي والد الشاعر عصام العباسي . فقد أقنع الأستاذ نور الدين والدَ الكاتب بالانتقال والعيش في حيفا لأنهُ يوجدُ فيها العديدُ من العائلاتِ التي أصلها من مدينة صفد وتربطهم أواصر الصداقة والقرابة ُ.. فاقتنع الوالد وانتقلت عائلة ُ الكاتب إلى حيفا.. وكانت صدمة كبيرة لعبد الله في البدايةِ لأنهُ نشأ وترعرعَ في الناصرة ولهُ الكثيرُ الكثير من الأصدقاءِ والمعارفِ فيها . “فأنا أعرف الكل.. والكل يعرفني”. وفي حيفا كانت البداية ُ صعبة ، فمَكثَ مدَّة هناك بدون عمل. فقد توجه بالرسائل إلى المكاتبِ والمؤسساتِ المختلفةِ طلبًا للعمل، وكانت جميعُها ترد ردودًا سلبية بالرغم من كونهِ أنهى دراسته الثانويَّة ويتقنُ عدَّة لغات..وفي النهايةِ نجحَ في الحصول على عمل في بنك باركليز بمساعدةِ صديقه الشاعر المخضرم مؤيد إبراهيم .
**
لقد ساعد الكاتبُ والده في إعالة العائلة والإخوة . ثم التحق بالجامعة في حيفا وكان يشتغلُ في النهار وبعد الظهر وفي ساعاتِ المساء يذهب لسماع المحاضرات الجامعية . وفي النهاية حصلَ على اللقب الأول .
وكان لهُ دورٌ كبير ونشاط مميَّز في البنك حيث استطاعَ أن يجندَ مئات الزبائن وملايين الليرات، ولكن بدل أن يلقى ترقية ً المناسبة لإخلاصه وعطائه.. فقد “كوفئ “بالمماطلة والتسويف والمواعيد العرقوبية . فقدَّمَ استقالتهُ وتابعَ تعلمه للقب الثاني في الجامعة العبرية في القدس.
ثم عرضت عليه الكلية الأرثوذكسية العربية في حيفا أن يلتحق بسلك التعليم ويدرس اللغة العربية. وفي هذا الموقع التعليمي والتربوي بذلَ كلَّ طاقاتهِ وخبرتهِ وحمل رسالةِ التعليم المقدَّسة التي آمن بها إيمانًا عميقًا. وعلى يديهِ تخرَّجَ الآلاف من الطلابِ الذين أصبحَ الكثيرون منهم فيما بعد من قيادات المجتمع ويتبوأون المناصبَ الرفيعة، فمنهم المعلم والطبيب وعضو البرلمان والمحامي والقاضي والشاعر والمهندس والعالم ..إلخ. وتعتبر هذه الكليَّة من أهمِّ صروح التربية في البلاد وقد درَّسَ فيها اللغة العربية قرابة 31 سنة، وعَلَّمَ حوالي عشر سنوات أيضًا في الكلية الأكاديمية للتربية “أورانيم” حتى أصابتهُ الوعكة الصحية، فتوقفَ عنعمله في التعليم وتفرَّغ للكتابة والنشاطات الأدبِية والثقافية والاجتماعية. ومن أعمالهِ الكتابيَّةِ في هذه الفترة السيرة الذاتيَّة ( بين مدينتين) التي نحن بصددِهَا . كما عملَ محررًا أدبيًا في صحيفة “الإتحاد ” وأصدرَ العديدَ من الكتبِ وخاصَّة في مجال الأدب وقواعد اللغةِ العربيَّة التي تعتبرُ من أهمِّ المراجع لطلاب الإعداديَّة والثانويَّة.
وفي هذا الفصل يستعرضُ الكاتبُ الكثيرَ من الذكرياتِ والمشاهد، وخاصَّة صداقته مع أهمِّ الكتاب والشعراء، مثل: محمود درويش الذي كان صديقه وجاره وكانا يلتقيان يوميا تقريبًا ويجمعهما الكثيرُ من الذكريات، إلى أن كان اليوم الأخير الذي أرادَ فيه محمود أن يسافرَ إلى الخارج . وعشية الإعداد للسفر، كانت جلسة وداع في غرفة محمود في شارع عباس..فأحسَّ كاتبنا “فتحي” أنهُ سيكونُ الوداعَ الأخير ولن يرجعَ محمود إلى البلاد حسب ما قرأه في عيونه.. وهذا ما حدث . وفي هذا الكتاب نرى صورة لهُ مع محمود درويش وبعض الأدباء.. صليبا خميس ومحمد خاص وأحمد درويش وجورج فرح وعفيف سالم وكمال بشارات في أمسية ثقافية في بيت محمود درويش.
ويصفُ الكاتبُ الحياة َ في حيفا بعد أن سكنَ هو وعائلتهُ هناك بأدقِّ وأصدق التفاصيل وعلاقة الناس مع بعضهم البعض وكيف أنَّ معظمَ سكان حيفا هم من القرى والبلدات الأخرى جاؤوا للعمل وللسكن فيها،وخاصَّة من القرى المهجِّرة.. ويذكرُ صداقتهُ مع الشاعر مؤيد إبراهيم الذي هاجرَ إلى أمريكا ليسكن مع ابنهِ المحاضر الجامعي هناك، والرسائل التي تبادلاها فيما بعد .
• في جامعة حيفا
ويذكرُ أيضا كيف تعلَّمَ اللغة العربيَّة من معلمين يهود يرطنون باللغةِ العربية . وكان فتحي من المُؤَسِّسين للجنةِ الطلابِ العرب الأولى في الجامعةِ (سنة 1967) وكان عضوًا قياديًا نشيطًا واستطاعَ مع مجموعةٍ من الزملاء إصدار صحيفة ” الضوء الأخضر” وتتناولُ أعدادُها بعضَ المشاكل التي يواجهها الطلابُ العرب في الجامعةِ.. وفي هذا المنبر كان التعبيرُعن الرَّأي في تدريس اللغةِ العربيَّة.
• مكتبة النور
ويتحدَّثُ الكاتبُ عن المكتباتِ والجلسات الأدبيَّة والثقافيَّة في حيفا ومن أهمِّ المكتبات الصالون الأدبي “مكتبة النور” لصاحبها المرحوم ” داود تركي” والذي أصلهُ من قريةِ المغار ( وهو الذي أسَّسَ فرع الحزب الشيوعي في قرية المغار مع المرحوم والدي والمرحوم محمد عبد الله أبو نمر)، وكانت مكتبتهُ صغيرة المساحة ولكنها حافلة بالكتب الهامَّة والقيِّمة في جميع المواضيع، وفيها أيضا تباعُ الصحف والمجلات العربية والعبرية والإنجليزيَّة. .وفي هذه المكتبةِ كان يجري الكثيرُ من اللقاءاتِ والنقاشاِت بين العديدِ من الكتابِ في أمور الثقافةِ والأدبِ والسياسةِ أو نقاش وحوار حول كتاب جديد، وكان الكاتبُ يحضرُ ويشاركُ في هذه النقاشاتِ، فيقول (ص 174): ” لم تكن “مكتبة النور” مكتبة ً عاديَّة كباقي المكتباتِ التجاريَّةِ في عروس الكرمل، كانت مدرسة ً وكانت جامعة ً هادفة ومثقفة وموجّهة وملتزمة. ولم يكن صاحبُهَا بائعَ كتبٍ عاديًّا كباقي أصحابِ المكتبات و” الدكاكين الأدبيَّة “، كان أستاذًا مثقفًا ومُرشدًا، كان همُّهُ نشرَ الوعي الثقافي وكان المثقفون من حيفا والشمال يؤُمُّون َالمدينة َ لزيارة مكتبةِ “النور” وفي نفوسِهم شغفُ للارتواءِ من المنهل الأدبي العذب.. وكانت المكتبة ُ ملتقى الأحبّةِ والأصدقاءِ والكتاب والشعراء ، مثل:علي عاشور ومحمد خاص وعصام العباسي وعوده الأشهب وسميح القاسم وسهيل عطا الله وعلي رافع وديب عابدي ويعقوب حجازي ومحمد ميعاري وجبران كسابري وجمال عراقي ويوسف حمدان وآخرين.
• من الجامعة العبرية..إلى الكلية الأرثوذكسية
بعد الحديث عن المكتبة ِوالشخصياتِ الأدبية ِوالثقافيَّةِ التي ترتادُهَا يتحدَّثُ الكاتبُ مرَّة ً اخرى عن عملهِ في البنك وثقافته وكيف وجد الأبواب مغلقة في سبيل تقدمه.. فقدَّم َ استقالته بعد أن جنّد للبنك مئات الزبائن.. وحاولَ مراسلة العديد من الجامعات خارج البلاد لدراسةِ موضوع الفنِّ المعماري وغيره غير أنه لم ينجح في الحصول على المنحة الدراسية الكافية ليتابعَ دراسته، وذلك عدا التكاليف الباهظة للسكن والمعيشة في بلاد الغربة. وفي نهاية المطاف يواصل دراسته في الجامعة العبريَّة في القدس..وأثناء الدراسة الجامعيَّة يتصل به المسؤولون في الكليّة الأرثوذكسيَّة في حيفا فيعمل مدرسًا لموضوع اللغة العربية. ويتحدَّثُ عن الأجواء التعليمية والتربوية في الكلية ومستوى التعليم فيها وكيف قضى 31 سنة من عمره في التدريس دون كلل أو ملل. ويتحدَّث عن الدرس النموذجي الذي قدمهُ بطلبٍ من مفتش اللغة العربيَّة الأستاذ الشاعر حبيب شويري.. وقد حضر الدرس النموذجي معلمون ومربّون لهم تجربة غنية في مجال التربية والتعليم.
• عجنون..وجائزة نوبل
بعد هذا ينتقلُ إلى مواضيع أخرى، مثل جائزة نوبل التي حصلَ عليها كاتبان يهوديان الكاتب (شاي عجنون) مناصفة مع الكاتبة اليهوديَّة (نيلي زاكس). في نفس العام تأسست مجلة ” آفاق ” الأدبيَّة بمبادرةٍ من بعض الشعراء والكتاب وقرَّرت هيئة ُ التحرير إجراء لقاء مع الكاتب شاي عجنون، ووقع اختيار هيئة التحرير على الأستاذ فتحي ليجري اللقاءً مع الكاتب لنشره في المجلة.. ويتحدث بالتفصيل عن اللقاء ونوعيَّة الأسئلة، ويعترف عجنونُ أن هذا اللقاء كان أول لقاء له ُ مع كاتب عربي ..ولكنَّ الكاتبَ اليهودي برفض التقدير أن تكون الجائزة أعطيت لهُ لأسبابٍ سياسيَّةٍ ، وبأنَّ إعطاءَها لكاتبين يهوديين ينطوي على مغزى سياسي خاص، ويرفض عجنون الطرح الذي يرى أن منح الجائزة ذو بعد آخر.. وهو تأثير اليهوديّة العالميَّة على الأكاديميَّة السويديَّة التي تمنحُ الجائزة، أو أنها شكل من أشكال التعويضات الألمانيَّة للشعب اليهودي ..إلخ
• مع محمود درويش..والقطة الشقراء
وينتقلُ الكاتبُ بعد هذا إلى مشهد آخر يجمعُهُ مع الشاعر “محمود درويش” في مقهى”يرتاح” في مركز الكرمل، ويتحدَّثان سويَّة في العديدِ من الأمور والقضايا وفي الهموم الحزبيَّةِ والعلاقاتِ مع الشعراء الأصدقاءِ اللدودين والأعداء الودودين..حتى وصلوا إلى مجلة ” الجديد” التي تولَّى محمود مهمَّتةفي تحريرها (ص199). ويصرِّحُ محمود لفتحي أنهُ في هذا اليوم وصلتهُ عبر البريد قصَّة ٌطريفة بعنوان ” قطتي الشقراء” آثر كاتبها أن يوقعهَا باسم مستعار”ابنالشاطىء” وأنَّ القصَّة َ أعجبتهُ لكنه لا يستطيعُ نشرها بدون معرفةِ اسم كاتبها الحقيقي.
وينتقلُ محمود في الحديثِ عن إعجابهِ بالشعراء: لوركا الإسباني وأراغون الفرنسي وبابلو نيرودا التشيلي وناظم حكمت التركي وماياكوفسكي السوفييتي. فيبدي إعجابَهُ بالأخير كثيرًا. ويقول محمود : ” للشاعر حضورٌ طاغ على المنصَّةِ.. شخصيّته الجذابة ، قامته المنتصبة وطريقة إلقائِهِ وحركة يده ِالمشرئبَّة،هذه الأمور تفعلُ فعلَ السحر في جمهور المستمعين”.
وفي اليوم التالي في مقهى آخر بحيفا كان لهما لقاء آخر (محمود وفتحي )، ويقول محمود: إنه لقد اتصل بهِ كاتبُ قصَّةِ “قطتي الشقراء”..ورغم تردُّدِهِ في البدايةِ..إلا في النهايةكشفَ لهُ عن هُويَّتهِ واسمهِ الحقيقي..فهو موظفٌ في دائرةِ الجمارك في حيفا والحذر مطلوب. ولم يكن هذا إلا الكاتبُ توفيق فيَّاض صاحب قصَّة “القطة الشقراء”.
• راشدحسين..وحنين إلى الشمال
وينتقلُ الكاتبُ إلى مشهدٍ آخر في السيرةِ بعنوان : ” حنين قاتل إلى الشمال – (ص201 ) فيتحدَّثُ عن لقاءٍ ثقافيٍّ في تل أبيب بين كتابٍ وأدباءٍ وشعراءٍ عرب ويهود (لقاء يهودي عربي)، ويقولُ الكاتُب (كانت أحاديث وحواراتٌ ونقاشات بعضها صادق وبعضها أبعد ما يكونُ عن الصدق..حديثٌ مراوغ عن التعايش والسلام المفقود والحلم المنشود . وفي هذا اللقاء يسألُ الشاعرُ المرحوم راشد حسين فتحي فوراني عن الأصدقاءِ في حيفا ( محمود وسميح وعصام العباسي وباقي الأصدقاء) ويعبِّرُ عن رغبتهِ في أن يرتبَ فتحي لقاءً في بيتهِ يجمعُ جميعَ الأصدقاء الصدوقين في الشمال، وَيُعيدَ المياهَ إلى مجاريها الطبيعيَّة بعدَ أن “جاعَ التاريخ ” وكاد أن يأكلَ أبناءَهُ.، وانطلقَ إعصارُ تسونامي كادَ أن يدمِّرَ العلاقات الحميمة بين الأصدقاء المرابطين في الخندق الثقافي الواحد..
ويتمُّ اللقاءُ في غرفةِ المكتبةِ في بيت فتحي التي كان يَؤُمُّها العديدُ من الأصدقاء والكتاب والشعراءِ . ويكون اللقاءُ أدبيًا حميمًا.. تحدثوا فيهِ عن مقالة راشد الشهيرة “حين يجوع التاريخ” التي نشرها في مجلة “الفجر” في فترةٍ حالكةِ مرت بها القوميَّةِ العربيَّةِ، سادَ فيها التوتر بين الناصريَّة والشيوعيَّة . وكان راشد يوم أن كتبَ هذه المقالة ابن 24 سنة . وتمتدُّ السهرة حتى ساعات الفجر الأولى.
وبعد أيام يعاود راشد مواصلة مشوارَه الذي بدأهُ و ينشر إبداعَهُ في مجلةِ “الجديد ” التي رأَسَ تحريرَها محمود درويش . ويقولُ الكاتب فتحي: (وتكونُ مرحلة ٌ جديدة ونافذة مشرقة ، ويعودُ يوليسيز التائه إلى بيتهِ ..إلى جزيرتِهَ الخضراء..وإلى عشِّهِ الدافىء بين الأهل والأحبَّةِ الصادقين (صفحة 206 ).
• ألزيارة الأولى إلى الاتحاد السوفييتي وينتقلُ الكاتبُ إلى مشهد آخر وتكون جلسةٍ في مقهى”ريتس” ملتقى الأحبة في الهدار، وهو ملتقى الكتاِب والأدباءِ والمثقفين ويجتمعُ فيه بمحمود درويش بعدَ عودتِهِ من زيارةٍ للاتحاد السوفياتي، ويحدثهُ فيها عن الحياةِ هناك وعن نفسيَّةِ الإنسان السوفياتي وكيفية معاملتهم للغرباء، فقد شعر محمود كأنهُ بين أهلهِ..ويبديرغبتهُ في أن يزورَ الاتحاد السوفياتي مرَّة ثانية.
وفي نفس هذا المشهد يقولُ الكاتبُ: بعد مسافة زمنيَّة ليست طويلة ينطلقُ راديو “صوت العرب” من القاهرة بنبإ نزول الشاعر الفلسطيني ضيفًا على أرض الكنانة. ويقولُ الكاتبُ بحزن ( لقد عملها محمود! لقد خسرتهُ!) .. أي لم يَعُدْ يراه ويلتقي بهِ لأنهما كانا أكثرَ من إخوة .
وينتقلُ الكاتبُ فتحي بعد هذا المشهد إلى عدَّةِ مشاهد أخرى، ومنها : مشهد طريف وهو حكاية جرت للشاعر محمود درويش مع الإسكافي (كندرجي)..فقد كان محمود كلما مرّ بالقرب منه في الطريق يطلبُ منهُ أن يمسح لهُ حذاءَهُ ويلمعهُ..ويروي كيف انتصرت عبقرية ماسح الأحذية على عبقرية الشاعر.
• فدوى طوقان ولقاء تاريخي في حيفا
ويتحدَّثُ أيضا عن زيارةِ الشاعرةِ الكبيرِة فدوى طوقان لمدينةِ حيفا بعد عام 1967 ولقائها التاريخي بعدد من الكتاب والشعراء، منهم محمود درويش وسميح القاسم وحضره حنا نقاره وحنا أبو حنا وسلمى الماضي وعصام العباسي وجورج طوبي وإميل توما وفتحي فوراني ومحمد ميعاري وعلي عاشور ونبيل عويضة وآخرون . وكان المضيف محمود درويش وهو الذي رتبَ هذا اللقاء.. ووجدت الشاعرة الكبيرة في كلِّ شاعر وأديب أخاها المرحوم الشاعر إبراهيم طوقان ، لأن معظمهم كانت تربطهم صداقة وعلاقة مع أخيها إبراهيم ، مثل عصام العباسي وحنا نقاره. وسمعت منهم قصائد لأخيها تسمعها لأول مرَّةٍ وغير موجودة في ديوانه المطبوع.
• أمن الإمبراطورية العظمى في خطر!
وينتقلُ الكاتبُ إلى لوحة أخرى بعنوان: ( أمن الإمبراطوريَّة العظمى- في خطر – ص 228 ) فبعد حرب جزيران 1967 يستلمُ أمرًا عسكريًّا يمنعهُ من الدخول إلى المناطق المحتلة ( الضفة الغربية وغزة ) والأمر يتجدَّدُ كلَّ ستة أشهر . فقد كان معظمُ السكان في الداخل يسافرون إلى مدن الضفةِ ( القدس وجنين ونابلس ) لشراء جميع المواد والحاجياتِ البيتيَّة كاللحوم والخضار والملابس وغيرها ..إلخ بأسعار زهيدة جدًا .
• أبونا نقولا..و”اللعبة المبيوعة”!
وينتقلُ الكاتبُ إلى مشهد آخر فيتحدَّثُ عن الكاهن نقولا الذي كان إنسانًا وطنيًّا شريفًا حسنَ السيرةِ وطيب السريرة وذا وعي سياسيٍّ وضمير نقيٍّ لا يسمحان لهُ أن يسقط في شركِ الإغراءِ – حسب قول الكاتب- .. فيتابعُ ( يحاولُ “الأخ الكبير” أن يوقعَ الأبَ نقولا في شراكِهِ حتى ينزعَ أبناءُ رعيَّتهِ ثقتهم بهِ ، وتكون وصمة َ عار على جبينه وجبين رجال الدين الآخرين..فعندما كان مارًّا في سوق عكا تتوقف سيارة ٌ “مَدنيَّة ” بجانبهِ وينزلُ منها شخصان فيسلمان عليهِ ويعرضان عليهِأن يوصلاه إلى حيث يشاء، فيرفضُ ولكنهما يحملانه بشيء من القوة ويدفعانه إلى السيَّارةِ المدنيَّة ، ويشاهدُ العكيُّون هذا المشهدَ ويقولُ أحدهُم: اللعبة مبيوعة.. وآخر يقول: هذه أساليبهم يريدون تشويه سمعة “أبونا ” . أبونا إنسان شريف وعندهُ كرامة وحذاؤُهُ أشرف من..
وتبوء هذه الوسيلة بالفشل الذريع.
• إخواتالشليتة!
ويتابع الكاتبُ الحديثَ في لوحةٍ أخرى بعنوان: (الرجلان الفرنسي والإنجليزي الصاعدان من الجحور المظلمة – ص 222 )، فيتحدَّثُ عن عبد الله مع زميل آخر ورفيق درب كانا بصددِ تأسيس دار نشر تهتمُّ بكتابةِ المقالات عن الشؤون الإسرائيليَّة وتزويد الصحافةِ الفلسطينيَّة بالتقارير الصحفيَّة والمقالات والدراسات أسوة بمؤسَّساتِ رسميَّة أخرى تهتمُّ بهذه المجالات. يتابعُ الكاتب: (يرنُّ الهاتف ويأتي من الطرفِ الآخر صوتٌ أجنبي باللغةِ الإنجليزيَّةِ ، ويدور الحديثٌ مع الكاتب ويدعي الشخص أنهُ من بلجيكا وصاحب دار نشر ويهتمُّ بالأدب العربي ويعرضُ عليهِ اللقاء للتعاون.. ويتمَّ اللقاءُ في أوتيل دان في مركز الكرمل مع صديقهِ الآخر.ويوضحَ الرجل الفرنسي لهما أنهُ يملكُ دارًا كبرى للنشر ويهتم بترجمةِ الأدب العربي إلى اللغتين الفرنسيَّة والإنجليزيَّة ، وأنه وصديقه الإنجليزي تعاونا مع مترجم عربي آخر وهما غير مرتاحين من هذا التعاون..ويكونُ الحوارُ عن الأدب العبري وعلاقتهما (الكاتب وزميله) بالكتاب والشعراء اليهود..وعن مدى التعاون بينهم..ويمتدُّ الحوارُ إلى دائرةِ الصراع العربي الإسرائيلي ثمَّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وعلاقتهما (الكاتب فتحي وزميله) مع الكتاب اليهود ومدى العلاقة مع الفلسطينيِّين.وتتمُّ دعوة الضيفين “المهذّبين” إلى طعام الغداء ويتمُّ الاتفاق على تحضير نصوص من الأدب الفلسطيني يقترح ترجمتها إلى الفرنسيَّة والإنجليزيَّة ويترك “الضيفان”على الطاولةِ البطاقة الشخصيَّة الأنيقة مع العنوان ورقم الهاتف في بروكسل وإنهما سيغادران البلاد عائدين إلى بلجيكا !
ويعدُّ الكاتبُ مجموعة من القصص لكتابٍ فلسطينيين مع دراسةٍ عن الأدب الفلسطيني أرسلت جميعها حسب العنوان بالبريد المسجل إلى بلجيكا.وبعد أيام يعود البريد المسجل إليه ( للكاتب فتحي) مع الملاحظة إنَّ العنوان غير موجود.. ويدركُ الكاتب وزميلهُ رياض اللعبة ويقولُ: لقد عملوها أخوات الشليته إنهما من “إخوان الصفا وخلان الوفاء”…لقد جاءا في مهمّةٍ..والكلام مفهوم!
• دموع نزار.. وتاريخ العربي القصصي
وينتقل الكاتبُ بعد هذا إلى مشهد آخر بعنوان “دموع نزار وتاريخ العرب القصصي”- (ص 240) .. فقد كان نجله نزار طالبًا في الصف الخامس الابتدائي وكان يستعصي على الطلاب فهم المواد في موضوع التاريخ، والسبب هو المنهاج الدراسي ومن يقررهُ.. وسوء تأليف الكتاب. ويستخلص الكاتب أن هذا الكتاب يشكل روشيتة ممتازة لجعل الطالب يكره تاريخه ولغته القومية. (عصفوران بحجرواحد) على حدِّ قول الكاتب.
• حادثة المحسوم
وينتقلُ الكاتبُ إلى مشاهد ولوحاتٍ أخرى عديدة ، مثل: الذكريات مع الشاعرالمخضرم المرحوم عصام العباسي وحادثة المخسوم (الحاجز العسكري) عندما كان مسافرًا من رام الله إلى نابلس ولم يكن مع عصام بطاقة الهُويَّة، وأرادَ الجندي احتجازَهُ، ولكن الضابط في المحسوم عرفهُ، وذلك حيث تذكرهُ عندما كان الضابط اليهودي طالبًا يتعلم اللغة َ العربيّة في جامعةِ حيفا وعندما جاءَ عصام إلى الجامعةِ برفقةِ فتحي (عبد الله) كاتب هذه السيرة وعرَّفَ الطالب اليهودي عليهِ والذي هو الآن ضابط يأمر وينهى على المحسوم وله القول الفصل.
• الإنتماء الديني او الطائفي؟
وبعد ذلك ينتقل الكاتب إلى عدَّةِ لوحات ومشاهد متنوِّعة وقصيرةٍ ، ومنها يتحدث عن صديقهِ الحميم (عماد شقور) الذي قضى معهُ أربع سنوات وفي نفس الصف إثناء الدراسة وقد غادرَ الوطن ويرجعُ بعد أكثر من أربعين عامًا فيتصلُ الكاتبُ بصديقه عماد ويهنئهُ بالسلامةِ وعرفَ الأخير صوتهُ رغم مرور الزمن الطويل. وبعد العودة يزورهُ مرتين في البيت ويحتفي بهِ ويتحدَّثان عن أيام المدرسة الثانويَّة والذكريات الجميلة والأحلام التي آمنَ بها جيلٌ بأكملهِ (صفحة 234) ..ويقولُ الكاتب: “الإنتماء الديني او الطائفي؟ لم يكن لهذهِ المفردة مكان في قاموسنا”. وفي ذات يوم ينوي عماد شقور زيارة الكاتب مهنئا بمناسبة عيد الميلاد المجيد.. وتكونُ المفاجأة ُ يكتشف المعلومة التي غابت عنهُ ولم يخطر على بالهِ طيلة أكثر من أربعين سنة.
• إميل حبيبي واللغة العربية
وبعد هذه اللوحةِ ينتقلُ إلى لوحةٍ ومشهدٍ آخر بعنوان: “قوس قزح: إميل حبيبي واللغة العربيَّة) – ويذكرُ الكاتبُ انَّ الكاتب إميل حبيبي كثيرًا ما كان يتردَّدُ على صالون الحلاقة الذي يديرهُ والدُهُ ” أبو فتحي الصفدي ” وتنشأ بين إميل حبيبي وعبد الله علاقة ٌ وديَّة عزَّزهَا إعجاب الطالب بأستاذهِ وتقدير الأستاذ لطالبهِ الذي يطمح لأن يقتدي بالكبار..كان عبد الله ( فتحي) في الصف الثامن وكان أبو سلام على ظهر خيلهِ في “الطابق العاشر”من المؤسسة الحزبيَّة، ويعجبُ عبد الله بشخصيَّةِ الرجل شابًا وسيمًا جميل الطلعة.. مثقفًا أنيقًا وخطيبًا ساحرًا خفيف الظل عرفَ كيف يستحوذ على مشاعر الجماهير في الاجتماعاتِ وفي مظاهراتِ أول أيار، وعرفَ كيف ينتقدُ ويسخرُ من “البابِ العالي” ( المقصود المؤسَّسة السلطويَّة) ويمسحُ بهِ الأرضَ. عرفَ كيف يكون عريسَ المظاهراتِ السياسيَّةِ الحاشدة والمناسبات الوطنيَّة الأخرى .. يتحدَّثُ الكاتبُ ويصفُ كيف كانت تقامُ المهرجاناتُ الخطابيَّة ُ السياسيَّة الحاشدة، وكان الشباب في ذلك الوقت (في جيل فتحي) ينتظرون كلَّ مناسبةٍ وكل اجتماع شعبي أو مهرجان خطابي لسماع والاستمتاع بخطاب إميل حبيبي..ويتحدّثُ عن عمل إميل في جريدةِ “الإتحاد” (كان رئيس تحرير الجريدة) وعلاقته مع المحررين وكيف كان يهتمُّ كثيرًا في تدقيق اللغةِ العربيَّةِ ولا يسمحُ بأيِّ خطإ لغويٍّ من قبل المحررين.. وعملَ على تطوير “الاتحاد” إلى الأحسن والأفضل والأرقى وأصبحت تصدرُ يوميًّا بدلَ يومين في الأسبوع بفضلهِ. وعرضَ إميل على فتحي أن يشارك في الاجتماع اليومي لهيئة التحرير لتقديم الملاحظات اللغوية على عدد “الاتحاد” ويكرسَ ثلاثة لقاءات في الأسبوع لتقديم دروس في قواعد اللغةِ العربيَّة للمحررين، ولفت الانتباه إلى الأخطاءِ النحويَّة والإملائيَّة الشائعة..وفي الآن ذاته أن يُخَصِّصَ أيضا زاوية في “الإتحاد ” للأخطاءِ الشائعةِ في اللغة العربيَّة..وكان للمرحوم إميل حبيبي ما أراد..
واستمرت اللقاءات مدة سنة وكان ميلادُ زاويةٍ جديدةٍ في “الإتحاد ” كان عنوانها “قوس قزح” امتدت على ثلاثين حلقة أسبوعيَّة تقريبًا، خصصت لبحثِ الأخطاء الشائعة في اللغة العربيَّة.
• أللغة العربية في الكلية الأكاديمية “اورانيم”.
وينتقلُ الكاتبُ إلى عنوان جديد ومشهد آخر: “اللغة العربيَّة في الكليَّة الأكاديميَّة للتربية “أورانيم” . فيذكرُ كيف أتصلَ بهِ أحدُ المسؤولين وعرضَ عليهِ التدريس في الكليَّة، وكان وقتها يعلمُ في الكليَّةِ الأرثوذكسيَّة..ووجدَ الكاتب فتحي أنَّهُ في هذا الموقع “أورانيم” يستطيعُ أن يخدمَ ويساهمَ في رفع شأن اللغةِ العربيَّة. وقد عملَ على إصدار مجلة “بدايات ” لتشجيع المواهب الواعدة. وكان عضوًا في هيئة تحرير مجلة ” كاف نطوي” السنويَّة التي تصدرُ في كلية “أورانيم” وتفتحُ صدرَها للطلاب والمحاضرين باللغتين العربية والعبريَّة.
• ألكلية الأرثوذكسية العربية
وينتقلُ الكاتبُ ويتحدَّثُ عن الكليَّةِ الأرثوذكسيَّةِ وكيف كان يتعلَّمُ فيها الطلابُ من مختلف القرى والبلدان العربيَّة ( من الجليل والساحل والمثلث والنقب) بالإضافةِ إلى مدينة حيفا . وكانت تحتضنَ الجميعَ على مختلفِ انتماءاتهم الطائفيَّةِ، وكانت صرحًا للعلم والثقافةِ والتربية والأدبِ ومدرسة ً للوطنيَّة ترسلُ أضواءَها لتغطي جميع أبناء شعبنا الباقي في وطنهِ،
وتحدَّثَ عن طريقة وأسلوب التعليم، وخاصَّة في موضوع اللغة العربيَّة. وكيف كانوا يتعلمون القرآن ويدرسون النصوص القرآنيَّة في الأدب العربي..وكانوا يتعلمون عن الإنجيل المقدس..
ويتحدَّثُ الكاتبُ بعد ذلك عن تجربتهِ في التدريس التي استمرَّت أكثر من ثلاثين سنة، وكانت ناجحة ً ومثيرة.
وينتقلُ بعد ذلك إلى عدَّة لوحاتٍ ومواضيع فيتحدَّث مثلا عن صديقه القديم المرحوم الشاعرمحمود درويش بعد أن ذهب إلى المستشفى لإجراء عمليَّةٍ جراحيَّة ووفاته في المستشفى.. وكانت صدمة ً كبيرة ً لكاتبِ هذه السيرة ولجميع أصدقائِهِ الذين عرفوا محمودًا شخصيًّا وكان جزءًا من مرحلة الشباب في حيفا والناصرة.
ويتحدَّثُ أيضا عن صديقه القديم الكاتب توفيق فياض ولقاءاته بهِ .. ويستعرضُ الكاتبُ بعض الذكريات مع محمود ودواوينه الشعريَّة التي أهداها لهُ مع توقيعهِ وهي في مكتبته الخاصة في البيت.
وفي الصفحاتِ الأخيرة من السيرة الذاتيَّة يعرضُ الكاتبُ صورًا ولوحات عديدة من ذكرياتهِ مع محمود..وذكرياته في الكليَّة الأرثوذكسيَّة وعملهِ في التدريس فقد رأى في عمله هذا رسالة مقدسة . ويعرضُ الكاتبُ أبياتا شعريَّة لإبراهيم طوقان في مهنة التعليم على لسان معلم- (الشاعر إبراهيم طوقان عملَ في مهنةِ التدريس وعانى منها كثيرًا) :
(” يا من يريدُ الانتحارَ وجدتهُ إنَّ المعلِّمَ لا يعيشُ طويلا ”
وأمّا الكاتبُ فقد اختارَ هذا الطريق (مهنة التدريس) إيمانا منه وبقناعة تامَّة أنَّ هذا هو الطريق الصحيح لبناءِ إنسان جديدٍ ومجتمع جديد ومستقبل أفضل لأولادِنا وأحفادنا ولجميع أبناء شعبنا.
والكاتب ينسبُ هنا للشاعر “عبد العزيز الدريني”بيت الشعر المشهور:
( مشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها).
وهذا البيت من قصيدة قديمة ومشهورة وقد نسبت لأكثر من شاعر. ويقولُ الكاتب: لقد اخترنا أن نمشي على الشوكِ بمحض إرادتنا..إخترنا أن نسلكَ دربَ الآلام والتضحيات لاختراع المستقبل الأروع . وهو أشرفُ الدروب ( صفحة 275) . إخترنا أن نحملَ أشرف الرسائل، وأن نكونَ شمعة ً تحترقُ حتى تنسفَ العتمة المكدسة في دروب الأجيال الصاعدة .. إلخ .
وفي نهايةِ السيرة الذاتيَّة يتحدَّثُ الكاتُبُ عن مرضِهِ وكيفَ أصيبَ بالسكتة الدماغيَّةِ ويصفها كما يلي:
(” نقطة صغيرة بقدر حجم رأس الإبرةِ.. بقدر الذرة.. غيَّرت مجرى حياة إنسان..خلقت إنسانًا آخر وعالمًا آخر. .ومن بين الأنقاض تنهضُ الإرادة ُ العنقاء..وتفجرُ ينابيعُ الإبداع”، أي أن العمل المتواصل في مهنة التدريس وحرق الأعصاب كان السبب في السكتة الدماغيَّة.. وبالتالي هي التي مهدت الطريق لمتابة السيرة الذاتية. وبعد هذا توقف عن التدريس. وبعد أن تحسنت حالتهُ الصحية وبشكل تدريجي تفرَّغ كليًّا للأدب وللإبداع وكتبَ هذه السيرة الذاتيَّة.. ويصف الكاتبُ السكتة الدماغية بـ”بنتِالكلب”..ويذكر كيف أحسَّ بها وهو يعلم الطلابَ أثناء الحصة ..فجأة حدث التغيير..فالأصابع لا تطاوع.. وحركة اللسان تثقل وبصعوبة، ينطق الكلمات فيتوقف عن الشرح وينتهي الدرس..قبل أن يكمل للطلاب شرح وتحليل قصة “عرس شرقي” لزكريا تامر التي يُدَرِّسُهَا.. وعندما يذهبُ إلى الطبيب يكتشفُ حالته الخطيرة فيدخلُ المستشفى لأيام وينصحهُ الأطباءُ بالامتناع عن الانفعال والتعبِ والإرهاق الفكري والجسدي لأجل الشفاء وأن لا يحزن أو ينفعل.. وتنتهي السيرة بمشهدٍ وحوار بين الكاتبِ والطبيبِ الذي يعرضُ عليهِ ما يجب فعله وبماذا يجب أن يتقيَّد به لكي يشفى من مرضهِ.
**
تحليلُ الكتاب – السيرة الذاتية
أولا..هذه السيرة ُ كُتِبَتْ وصِيغت ونسجت فصولها ومشاهدُهَا بلغةٍ أدبيَّةٍ جميلةٍ منمَّقةٍ وسلسةٍ وجذابة. والجديرُ بالذكر أن القلائلَ من الكتابِ والأدباءِ والشعراء العرب المبدعين الذين يكتبون سيرتهم الذاتيَّة ( يعدون على الأصابع) وكثيرًا ما تكون سيرة ُحياتِهم مختصرة ً ومختزلة ولا تتحدَّثُ عن كلِّ شيء في مسيرتِهم ومشوارهِم الأدبي والثقافي وحياتِهم الاجتماعيَّة والشخصيَّة وغيرها ..
وأما هذه السيرة التي خطها قلمُ الأديبِ المبدع الأستاذ فتحي فوراني فهي متفردة ٌ مميزةٌ بأسلوبها وتوجُّهها ونكهتِهَا وعمقِهَا وصدقها وأصالتِهَا وتحتوي في داخلها عوالم وليس عالمًا مصغرًا . ولو أرادَ أيُّ محلل أو ناقدٍ أن يستعرضَ ويُحَللَ كلَّ جانبٍ منها وكلَّ لوحةٍ ومشهدٍ لاستغرق هذا وقتًا طويلا وسيملأ عدَّة مجلدات ، ومن ناحيتي.. استعرضتُ السيرة َ وأحداثها لأجل قيمتها وأهميَّتِها التاريخيَّة والأدبيَّة والتوثيقيَّة وطرائفها وجماليَّتها. فهذه”السيرة” تمتازُ عن الكثيرمن السِّير الذاتيَّة..أنه رغم طولها واتساع مساحتها فهي ليست مُمِلَّة على الإطلاق.ً.وهنالك مشاهد يعرضُهَا الكاتب بالتسلسل حسب الفترةِ الزمنيَّةِ والتاريخيَّة المتواصلة في تتابع الأحداثِ . وهنالك لوحاتٌ ومشاهد مختلفة، وكلُّ مشهدٍ منها يختلفُ عن الآخر في أحداثهِ وموضوعهِ وفترتِهِ الزمنيَّة . فمثلا..يكونُ يتحدَّثُ عن عملهِ في الكليَّة ِالأرثوذكسيَّةِ وبعدها ينتقلُ مباشرةً إلى ذكرياتٍ لهُ مع الشاعر محمود درويش قبل أكثر من 45 سنة. وهذا الأمرُ يخرج السيرة من جوِّ الرتابةِ أو السرد الممل، الأمرُ الذي يحدثُ في الكثير من القصص والروايات والسير الذاتية .
وتصلحُ هذه السيرة ُ الرائعة – حسب رأيي – في أن توظفَ لعمل دراميٍّ كبير، أي أن تمثلَ وتعرضَ كفيلم أو مسلسل تلفزيوني إذا ما قام كاتبُ سيناريو قدير ومتمكن (الكاتب نفسه أو كاتب غيره) وعملَ على ترتيبها وإعدادِهَا دراميًّا لهذا الغرض ، نظرًا لقيمتِهَا الفنية وأحداثِهَا المثيرة وشخصياتها الهامَّة، الأدبية والسياسة والفكرية والاجتماعيَّة، فقد عرض الكاتب هذه الشخصيات وتحدَّثَ عنها بشكل موسع ، مثل الشاعر محمود درويش . وهنالك معلوماتٌ ووثائق وطرائف القليلون من أبناءِ شعبنا يعرفونها، وخاصَّةعن جوانب غامضة وهامَّةِ من حياةِ وشخصياتِ العديدِ من الكتاب والأدباء الذين لعبُوا دورًا هامًّا، وكانت لهم بصماتٌ واضحة ٌ على المشهد الأدبي والفكري والثقافي والإعلامي فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي بعد عام 1948، والذين ساهموا في بناءِ الصرح الثقافي والعلمي والأدبي والفني ولهم الدورُ القيادي والرائدُ في مسيرةِ أدبنا وشعرنا وإبداعِنا الفلسطيني في الداخل.. فقد سَدُّوا الفراغ َ الذي نتج بعد عام النكبة 1948 لأنَّ أعدادًا كبيرة من الكتابِ والمثقفين والعلماءِ والمبدعين الفلسطينيين هُجِّروا إلى خارج الوطن بعد عام النكبةِ. وقد قال أحد الشعراء:
مليونُ عان في العراءِ تشرِّدُوا لم يضطربْ لهوانهم مسؤولُ
**
وأما المواضيعُ والجوانبُ الهامَّة التي تطرحها هذه السيرة فهي:
1 – الجانبُ القومي والوطني
حيث يتحدَّثُ الكاتبُ عن التشرُّد وعن مدينةِ صفد مهد الآباء والأجداد وغيرها من المدن والقرى الفلسطينيَّةِ التي هُجِّرَ سكانُها عنوةً عام 1948.
2 –الجانبُ التاريخي والتوثيقي
حيث يعرضُ الكاتبُ الكثيرَ من الأحداثِ والأمورَ الهامة الشخصيَّة والثقافيَّة التي جرت بين الأدباء والشعراءِ، ويذكرُ أسماء للعديد من المبدعين الذين لعبوا دورًا هامًّا في تلكَ الفترة (فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي). ويذكرُ كيف كانت تقامُ الندواتُ واللقاءات الأدبيَّة في مدينةِ الناصرة في الدكاكين والحدائق (جنينة أبو ماهر) وغيرها ..وفي صالون والده ” أبو فتحي” . ويذكرُ أجواءَ التعليم في الناصرة ( في الخمسينات وحتى السبعينات من القرن الماضي) وكيف كان الباعة ُ وأصحابُ الحوانيت ينادون على بضاعتهم لتسويقها، فتختلط ُ أصواتُهم بأصواتِ المعلمين في الدرس . ويذكرُ أساليبَ وطرقَ التعليم التي كانت متبعة آنذاك والشدَّة والضرب من قبل المعلمين للطلاب..غير أن مثل هذا الأمر ممنوع اليوم ويعاقبُ كلّ معلم قانونيًا إذا قام بضربِ أيِّ طالب.
وبالنسبةِ للجانبِ التاريخي ففيهِ تسجيلٌ وتوثيقٌ دقيقٌ وصادق للحياةِ الفلسطينيَّةِ وللأجواءِ التعليميَّةِ والاجتماعيَّةِ والاقتصاديَّة في الناصرة وحيفا…وهذا ينعكسُ وينطبق أيضًا على باقي قرى ومدن فلسطين حيث يعرضُ أوضاعَ الطلاب من مختلفِ القرى الذين جاؤوا إلى المدينةِ (الناصرة) لينهلوا من منابع العلم في فترةِ الخمسيناتِ والستينات.
3 –الجانب الأدبي والفني المميز والراقي في هذه السيرة ..
إن المستوى الفني لهذه السيرة عال جدًّا، وتذكرنا بكتاب السير الذاتية التي كتبها الكتاب الغربيين..والكاتبُ مطلع على الثقافاتِ والآداب العربيَّة والأجنبيَّة.. وهو أستاذ لغة عربيَّة ومتمكن وضليعٌ جدًّا في اللغات الإنجليزيَّة والعبريَّة، وكان محرِّرا ثقافيًّا وأدبيًّا في أرقى وأعرق جريدة محليَّة (الاتحاد) وعاصرَ وواكبَ محمود درويش وكبار الكتابِ والشعراءِ المحليين، ولهُ الخبرة ُ والدراية ُ والتمرُّس في صياغةِ ونسج سيرةٍ كهذه بهذا المستوى والعمق وهذا الجمال والروعة والإبداع.
4 –عنصرُ التشويق
القصَّة ُ حافلة ٌ وزاخرة ٌ بالأحداثِ والمشاهد المتعددة على مختلفِ أنواعها وألوانها ومواضيعها، وفيها الكثيرُ من الطرائفِ، وهي مشوقة بكل معنى الكلمةِ وتغري القارىء على إكمال قرَاءتِهَا بدون توقّف.
5 – الطابعُ الشعبي
يستعملُ الكاتبُ العديدَ من الأمثال الشعبيَّة ويعرضُ الكثيرَ من الصور والمشاهد التي تمثلُ وتجسِّدُ حياتنا الفلسطينيَّة وأجواءَنا.
6–الجانبُ الفلسفي
في هذه السيرةِ فلسفة ٌمشعَّة ٌوشفافة وأهمُّها فلسفة الحياة والكفاح الشريف والنظيف لأجل الاستمرار والبقاء والحياة الحرّة الكريمة..فعلى هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة..وأنَّ الحياة َ بجميع أبعادها ومفاهيمها ومضامينها والحلل التي تتسربلها هي عملٌ وكفاح .
7 – الطابعُ السياسي
يعرضُ الكاتبُ في سيرتِهِ الذاتيَّةِ المطولَّة العديدَ من الأمور والقضايا السياسيَّة من خلال القصَّة.. وكيف كانت معاملة ُ السلطةِ لعرب الداخل (عرب الـ48) في تلك الفترة..وكيف أن شعبَنا الذي بقيَ في أرضِهِ ووطنهِ وفصِلَ وَبُتِرَ عن نصفهِ الآخر ( الوطن العربي الكبير من المحيط للخليج ) إستطاعَ رغمَ الظروف القاهرةِ والمآسي والخطوب العصيبةِ التي مرَّ بها كفترةِ الحكم العسكري البغيض وقانون الطوارىءالذي فرضَ عليه في الخمسينات والستينات من القرن الماضي أن يبقى محافظًا على هُويتِهِ ولغتهِ العربيَّةِ وعلى تراثِهِ وحضارتهِ وكرامتهِ وقوميَّتهِ، رغم سياسةِ السلطةِ الجائرة والغاشمة.. ويذكرُ أيضا أجواءَ وطابعَ التعليم في الكلية العربية الأرثوذكسيَّةِ ( الصرح الحضاري والفكري والوطني والقومي) ومنها تخرَّجَ أجيالٌ وأجيالٌ وأصبحوا نبراسًا ومشعلا مضيئًا للفكر القومي وللإبداع في شتى المجالاتِ.. وكما هو معروفٌ فللمدارسَ الأهليَّة استقلاليَّة ٌ فكريَّة ٌ وإداريَّة ٌ أكثرَ بكثير من المدارس الحكوميَّةِ التي تدارُ من قبل وزارةِ المعارف..لأنَّ المدارسَ الحكوميَّة آنذاك كانت بشكل عام ترفض تعيين أيِّ معلم وطنيٍّ وشريفٍ ويُحبُّ شعبَه ُ الفلسطيني وقوميتهُ وأمَّتهُ العربيَّة..ومثالٌ على ذالك: الأستاذ فؤاد جابر خوري الذي فصِلَ من مهنةِ التعليم رغم مؤهِّلاتهِ وكفاءاتهِ العلميَّةِ الفذّةِ ، وذلك بسبب مواقفهِ الوطنيَّةِ الشريفة.. والجديرُ بالذكر أنَّهُ كان هنالك الكثير من المعلمين في المدارس الحكوميَّة (في تلك الفترة) الذين لم ينهوا المرحلة الابتدائية، ولا توجدُ لديهم أيَّة ُ مؤَهِّلاتٍ أو كفاءاتٍ، فقد ترقّوا ورفعوا إلى وظائف عليا حيث عينوا نوابا لمديريالمدارس ومفتشين. وكانت كفاءتهم الوحيدة ولاؤهم السلطوي وابتعادهم عن قضايا شعبهم وأمتهم العربيَّة..وهنالك الكثيرُ من الأمثلةِ والعيِّناتِ على ذلك . وأمَّا المدارسُ الأهليَّة فكان وما زال فيها الكثيرُ من الأساتذةِ الوطنيين والمناضلين الشرفاء الذين عملواعلى تربيةِ وتثقيفِ وتخريج أجيال واعدةٍ رائدةٍ أصبحوا أعلامًا ونبراسًا لأبناء شعبهم. والأستاذ فتحي فوراني واحد من هؤلاء الذين حملوا الرسالة.
8 –الجانب الإنساني
يتحدَّثُ الكاتب ويتوسَّع كثيرًا في هذه السيرةِ عن المحبَّةِ والتعاون والتعايش المشترك، وخاصة بين أبناءِ الطوائفِ المختلفة..فالإنسانَ هو أخ للإنسان.. والسيرة تشعُّ بالمفاهيم الأمميَّة أكثر من الأمور الوطنيَّة والقوميَّة، ويبدو أنها كُتبت ليس لفئةٍ وطائفةٍ وقوميَّةٍ معينة بل لكلِّ الشعوبِ والأمم في هذه المعمورة..فأيُّقارىء مهما كانت جنسيتُهُ وقوميتهُ عندما يقرأها يشعرُ ويحسُّ أنَّ هنالك جوانب وزوايا وأمورًا عديدة في السيرة تخصُّه وتعنيه، وبشكل عفوي وغير مباشر يتأقلمُ وينسجمُ ويتفاعلُ ويتناغمُ مع فصولها ومشاهِدِهَا الرائعة، وخاصة في الجوانبِ الإنسانيَّة المحضة…وفي الكفاح الشريفِ لأجل الحصول على لقمةِ العيش ولأجل التعليم والتثقيفِ في ظروف عصيبةٍ جدا مرَّ بها شعبُنا الفلسطيني في الداخل وفي الخارج أيضًا بعد نكبة عام 1948.
وأخيرا..هذه السيرة ُ في نظري هي من أروع وأجمل ما كُتِبَ من سيرٍ ذاتية في اللغةِ العربيَّةِ لكاتبٍ وأديبٍ عربيٍّ، بمستواها وعمقِهَا وجمالها وأجوائِها الساحرةِ والصادقةِ، وتستحقُّ أن تترجمَ إلى العديدِ من اللغاتِ الأجنبيَّةِ وأن يُكتبَ عنها الكثيرُ من الدراساتِ والأبحاثِ، وأن تُدرَّسَ وَيُحاضرُ عنها في الجامعاِت والمدارس والمعاهد العليا . وهذه السيرة تضيفُ إلى أدبنا الفلسطيني المحلي والعربي قاطبة تحفة ً ورائعة إبداعيَّة جديدة خالدة وبها سيرقى ويسمُو ويتألقُ أدبنا الفلسطيني المحلي أكثر وأكثر.
**
وأخيرًا..نهنىءُ الكاتبَ والأديَب والمربي والإنسانَ الإنسان الأستاذ فتحي فوراني على هذا الإصدار القيم والمُمَيَّز ونتمنى لهُ العمرَ المديدَ والصحَّة والعافية والمزيدَ من الإبداعات الجديدةِ.
مبروك وإلى الأمام ..ومعا وأبدًا على هذا الطريق .
( بقلم : الدكتور حاتم جوعيه – المغار – الجليل – )
( الكاتب والاديب الأستاذ فتحي فوراني مع الشاعر والإعلامي الدكتور حاتم جوعيه )