“صفّي النيّة ونام في البريّة”!
د. محمود أبو فنّه
تاريخ النشر: 15/07/23 | 19:06يحدّثنا الرواةُ حكاية جميلة لها دلالاتٌ عميقة وجديرة بالتأمّل والاقتداء:
يُروى أنّ رسولًا لكسرى توجّه للمدينة المنوّرة لمقابلة الخليفة عمر بن الخطّاب، فلمّا سأل عن قصر الخليفة قيل له: ليس للخليفة قصر!
عاد وسأل كيف يُمكن أن ألتقيَ به، قيل له: ربما تجد عمر في المسجد.
لكن لم يكن عمر آنذاك في المسجد.
استمرَّ رسول كسرى يبحث عن عمر، وكانت المفاجأة، – بالنسبة لرسول كسرى – أن وجد عمر مستغرقًا في النّوم تحت شجرة ظليلة، بملابس بسيطة، ولا يحيط به الحرّاس، فاندهش رسولُ كسرى من هذا المنظر، وخاطب الخليفةَ عمر بعبارة موجزة خلّدها لنا التاريخ:
“حكمتَ فعدلتَ فأمِنتَ فنمتَ!”
وقد تطرّق حافظ إبراهيم – شاعر النّيل – لتلك الحادثة المؤثّرة في قصيدته العُمَرِيّة الطويلة حيث قال فيها مُشيدًا بعدلِ عمر:
وَراعَ صاحِبَ كِسرى أَن رَأى عُمَرًا – بَينَ الرَعِيَّةِ عُطلاً وَهوَ راعيها
وَعَهدُهُ بِمُلوكِ الفُرسِ أَنَّ لَها – سورًا مِنَ الجُندِ وَالأَحراسِ يَحميها
رَآهُ مُستَغرِقًا في نَومِهِ فَرَأى – فيهِ الجَلالَةَ في أَسمى مَعانيها
فَوقَ الثَرى تَحتَ ظِلِّ الدَوْحِ مُشتَمِلًا – بِبُردَةٍ كادَ طولُ العَهدِ يُبليها
فَهانَ في عَينِهِ ما كانَ يَكبُرُهُ – مِنَ الأَكاسِرِ وَالدُّنيا بِأَيديها
وَقالَ قَولَةَ حَقٍّ أَصبَحَت مَثَلًا – وَأَصبَحَ الجيلُ بَعدَ الجيلِ يَرويها
أَمِنتَ لَمّا أَقَمتَ العَدلَ بَينَهُمُ – فَنِمتُ نَومَ قَريرِ العَينِ هانيها
هذه الحكاية الرائعة تعيدُني – بذاكرتي – إلى أيّامٍ خلت، إلى سنوات الطّفولة وبداية تفتّح الشباب، يوم كان النّاس في بلدتي الوادعة كفر قرع- وحتّى في جميع بلداتنا العربيّة المتبقّية في وطننا الحبيب – يعيشون حياة آمنة هانئة في توادد وتعاضد وتكافل رغم الظروف الصعبة التي عرفوها بعد النكبة عام 1948!
حقًّا، كان النّاسُ يشاركون بعضهم البعض في السّرّاء والضّرّاء، وكانت قيمُ الشهامة والنخوة والإيثار والصّدق والتّسامح تتربّع على سلّم أوليّاتنا، فلا تعصّب، ولا حسد، ولا كراهية، ولا سرقة، ولا عنف، ولا سطو على البيوت أو الممتلكات!
أذكر كيف كنّا ننام على بيادر الغلال، أو كنّا ننام في البساتين أو في”المقاثي”
أو في ساحات الدّار – بأمان!
كانت بيوتُنا مفتوحةً للأهل وللضّيوف وللجيران، لم نكنْ نغلقُها بالمفاتيح أو الأقفال!
كانت القلوبُ صافيةً عامرةً بالمحبّة والعدلِ والإيمان!
هكذا كان الفاروقُ عمر العادل، هكذا كنّا أيّام زمان ننام في أمان!
هكذا قال أجدادُنا في أمثالهم الشعبيّة المحمودة:
“صفّي النّيّة ونام في البريّة”!