“دون مخرج” قصة قصيرة
ميسون أسدي
تاريخ النشر: 26/07/23 | 0:06فاجأني أحد الأصدقاء بأنّه متابع دؤوب لكل ما أكتب، وقد أشار إلى إحدى القصص التي تحدّثت فيها عن التعليم في مدينة عكا، والتي استقيتها بنفسي من أحاديث زوجي المتكرّرة عن المدارس هناك والذي بنفسه تنقل بين جميعها… قال لي الصديق، اسمعي هذه القصّة التي لا يعرفها زوجك:
في تلك الفترة، كانت المدارس في المدينة تعجّ بالمدرّسين القادمين من القرى الجليليّة المجاورة. وكانت نسبتهم عالية جدًا وخاصة خريجي مدرسة يني في كفر ياسيف. في نفس الوقت، كانت هناك نظرة استعلائية من قبل أهل المدينة للوافدين من تلك القرى، نابعة من الحسد والجهل لما يقدمه اولئك المعلمون، وقد عمل العديد من الخبثاء واذناب السلطة على تعميق تلك النظرة وزرعوها في نفوس الطلاب، فكانوا لا يجرؤون على التطاول على المعلمين فيبثون حقدهم على زملائهم الطلاب القادمين من تلك القرى وينعتونهم بالفلاحين، غير مدركين أنه بعد سنوات قادمة سيكون كل هؤلاء الفلاحين من المتفوقين وهم أنفسهم دون مرتبة.
وكانوا يتحيّنون الفرص للنيل من مدرّسيهم، والمدرس الذي كان يخطأ في السيطرة أو أداء أي مهمّة منوطة به، كان يعاقب بشكل عنصري مقيت. وكنّا نرى بعض المدرسين الضعفاء يفرّون هاربين لوحدهم من سلك التعليم في هذه المدينة، نظرًا لما يعانونه من الجو العنصري السائد. في المقابل، كان هناك مدرّسون أقوياء واعون لتلك اللعبة، فكانوا يفرضون سيطرتهم بعدّة طرق مبتكرة، ثم تدريجيا يبدؤون بمصادقة الطلاب دون التخلّي عن السيطرة.
كان موضوع الرياضيات من المواضيع التي تعتبر صعبة للتلاميذ وعملية تحبيب الطلاب بهذا الموضوع كانت عسيرة جدًا، ومن النادر أن يأتي معلم يجعل الطلاب يحبّون مثل هذا الموضوع. والحديث هنا يدور عن أوائل السبعينيات ولا اعتقد أن الأمر تغيّر كثيرًا في وقتنا الحالي، لكن في تلك الفترة كان الأهالي يهتمّون أكثر بمستوى اولادهم التعليمي وكانت اساليب التعليم صارمة جدا وما زال المعلمون يحتفظون بهيبتهم المبالغ بها. لكن هذه الهيبة كانت تساعد نوعًا ما في ارغام الطلاب على مذاكرة دروسهم في البيت لأن اساليب العقاب البدني كانت متاحة ومعظم المعلمين كانوا يستعملون هذه الاساليب لإرغام الطلاب على الحفظ والمذاكرة. بمعنى آخر كانت الأمور مفروضة، وكما نعلم ان المفروض مرفوض مثلما هو الممنوع مرغوب، والنتيجة كانت خلق نوعية من الطلاب الحفظة دون فهم، ليحصلون على علامات عالية، ممّا لا يفيدهم في المستقبل باستثناء الموهوبين وهم قلة والمجتهدين الذين أدركوا ما يصبون اليه مبكرا.
في صفنا في الاول اعدادي، حضر الينا استاذ غريب الشكل والطباع شعره أشقر ومجعد كالأجانب مع انه جاء من قرية إلى المدينة. فنظر اليه الجميع بإعجاب واستخدم هذا المربي وسائل تعلمية وتأهيلية خاصة لكي يقوم بتحفيز القدرة التحليلية في دماغ الطالب، ولكي يكون قادرا على إجراء المعادلات الرياضية بالطريقة الصحيحة والسليمة.
كان مميّزا بطريقة تعليمه، حيث علم مسبّقا بأنّ الموضوع صعب على الطلاب، لكنّه كان يعلم أنّه يمكن بطريقة ما جعل الطلاب يحبون الموضوع، وبمجرد ابتدائه بالتدريس بدأ الطلاب يتفاعلون مع الموضوع وكأنهم يشاهدون عرضا فنيا أو مسرحيا، فكان يروي قصصا جميلة ليمرّر نظريات وعمليات حسابية تعلق بذهن الطالب وبالنتيجة كان الطالب يفهم المعادلة من القصة الظريفة المضحكة. كأن يروي القصة عن جدته التي كانت راكبة على عربة يجرها حمار ومن تحتها مئة حبة من الفجل ذاهبة إلى السوق لتبيعها، لكن الحمار رأى في طريقه اتان ووقف فجأة ممّا ادى إلى سقوط كمية من الفجل على الارض وتلوثت بالوحل، وطار فستان جدته وشاهد جميع المارة شنطيانها الأحمر المرقع. وهنا تبدأ المعادلة الحسابية لقد سقط من العربة عدد معين من الفجل مما سيؤدي إلى الخسارة. فكّرت الجدة وقالت سأرفع سعر الفجل حتّى أعوض الخسارة التي سقطت، ووسط اندماج الطلاب يسألهم المعلم: ما هو السعر الذي وضعته الجدة لكي تعوض خسارتها؟.
كانت قصصه جميلة والطلاب يتجاوبون بشكل منقطع النظير، حتّى أنه أحدث طفرة في تعليم هذا الموضوع الجاف. وبدأ الطلاب يحبون الرياضيات، ولأول مرّة تعامل الطلبة مع هذا المعلم دون رهبة كما كان متوقع في ذلك الوقت وخاصة داخل المدارس الأهلية. لقد كسر هذا المعلم حاجز الرهبة بينه وبين الطلاب على عكس باقي المربين الذين كانوا يفرضون سطوتهم بأساليب الضرب وما شابه.
استمر هذا الأمر إلى أن جاء يوم وكان المعلم يدرّس كيفية استخراج القاسم المشترك بين عددين كسريين، فسأل الطلاب عن القاسم المشترك: هل تعرفون ما اسم هذا؟ فرفعت احدة الطالبات يدها وقالت انه المخرج وهذا ما سمعته من المعلم السابق، عندها صعق المعلم من هذه الاجابة الخاطئة وقال: من اين جئت بهذه الكلمة هذا اسمه القاسم المشترك وليس المخرج هل تعرفين معنى كلمة مخرج؟ صمتت الطالبة عندما رأت ردّة فعل المعلم الذي لم تعتد عليه بالعصبية، فأردف المعلم قائلا المخرج معناه الطيز. لم يعر انتباها للكلمة على اعتبار انه يستعملها من القرية التي جاء منها دون ان يؤاخذه عليها أحد وهو الآن في المدينة المتحررة حسب ما كان يعتقد. لكن جاءه ما لم يأت بالحسبان، فقد اشتكت الطالبة لمدير المدرسة وهو أحد الرهبان التابعين للكنيسة، بأن هذا المعلم يستعمل كلمات بذيئة في الدرس، وهو أمر ترفضه تعاليم الكنيسة، مما أدّى إلى فصل المعلم من المدرسة وخسارة الطلاب للمعلم المميز.