النووي الاسرائيلي، والنبي ايليا في ظل حكومة توراتية
جواد بولس
تاريخ النشر: 28/07/23 | 23:15كنت أحاول الهروب من الكتابة عن مخاطر الفاشية الاسرائيلية بعد أن “إنهرت فشّتي” – كما نقول عندنا في فلسطين في وصف حالة التعب الحافي أو منتهى اليأس- من كثرة ما كتبت عبثًا عنها وضدها وكيف علينا أن نواجهها. حاولت حتى جاءتني رسالة من صديق ، محرر صحيفة حيفا، يقول فيها: “نحن في الصحيفة نجري استطلاعا حول الردود على الاعتداءات على دير مار الياس، وهل تشعر بخطر حقيقي وماذا تقترح لحل الأزمة؟”. عندها عرفت أن لا هروب من واقعنا، فكل الطرق في فلسطين تؤدي الى طاحونة الفاشية؛ وفكّرت أننا جميعنا، لا العرب المسيحيين فقط، كما يفهم من سياق الاستطلاع، في خطر حقيقي. واذا كان للكنائس وللأديرة أنبياء يحمونها فمن سيحمي الناس من حماقة متعصب أعمى يمسك في يمناه توراة وفي يسراه يتحكم في ترسانة نووية؟
كما كان متوقعًا، نجحت الحكومة الاسرائيلية بتمرير تعديل “قانون أساس القضاء” وتعطيل قدرة استناد المحكمة العليا الى “حجة المعقولية” في تبريرها لالغاء قانون حاز على اكثرية داخل الكنيست اذا وجدته المحكمة يتنافى “واحكام المعقولية” ، أو عند ابطالها لمفعول قرار إداري يرونه القضاة “غير معقول”.
يتفق جميع معارضي خطة الحكومة المعلنة على أن هذا التشريع في حالة بقائه كما أقر ، سيفضي عمليًا إلى اجهاض دور المحكمة العليا في تأدية وظيفتها كسلطة مستقلة تحرص على عدم السماح للسلطتين التنفيذية والتشريعية أحيانًا، بالمساس بحقوق المواطنين عامة أو بحقوق الاقليات أو بعض الفئات التي لا تعدّ على معسكر الأكثرية الحاكمة. “تشليح” هذه الصلاحية من المحكمة العليا سيتيح لهذه الحكومة أن تنفلت وراء أهوائها السياسية وأن تنفذ مخططاتها بدون كوابح قضائية، كانت المحكمة العليا تعتمدها خلال العقود الفائتة في سبيل ضمان التوازن بين قوة الحكومات الكبيرة، لا سيّما في مثل حالة الحكومة الاسرائيلية الراهنة التي تسندها أكثرية برلمانية يمينية متعصبة مطلقة ومستقرة ، وبين ضرورة المحافظة على القيم الانسانية المجمع عليها عالميا وحقوق المواطنين الأساسية.
لست في معرض التطرق إلى جميع عواقب الانقلاب الحاصل داخل إسرائيل، فتأثيره الواضح على جميع مناحي حياة المواطنين في الدولة سيكون ملموسًا وكبيرًا؛ لكنّه سيكون كارثيًا علينا، نحن المواطنين الفلسطينيين. فاقتصاديًا سوف تتدهور حالة مجتمعاتنا على المستويين الجمعي والفردي على حد سواء، وسياسيًا، سوف تضيق جميع الهوامش المتاحة لنا اليوم أو حتى سوف تسدّ بشكل نهائي وسنشهد موجات من الاعتقالات التعسفية والادارية. أما مجتمعيًا فسوف تتكاثر مظاهر الجريمة والعنف والفقر وستزداد مشاعر الاضطراب والخوف وفقدان الشعور بالأمن وبالسلم المجتمعي. ودينيا سوف تزداد أنشطة “كتائب أليشع”وعنفهم ضد جميع الأغيار والمؤمنين من جميع الديانات غير اليهودية وضد أماكن عباداتهم .
لن تنحصر عواقب الانقلاب الجاري داخل المجتمعات الإسرائيلية وحسب؛ فتأثير مفاهيم النظام الجديد حيال الحق اليهودي الرباني والفريضة بتحصيله ، مهما كانت الوسائل والنتائج، سيؤثر أيضًا على تعاملهم مع قضية مستقبل الشعب الفلسطيني وقياداته، وعلى أدوات ادارة صراعهم مع الفلسطينيين بشكل عام. وستتأثر كذلك معايير وضوابط العلاقات الاسرائيلية مع جميع دول العالم، الصديقة منها أو الحيادية أو المستعداة؛ وهذه مسألة تستوجب المتابعة بانتباه شديد خاصة في هذه المرحلة الدقيقة التي يعيشها اليهود في جميع أرجاء العالم.
لقد تطرق بعض المسؤولين في الدول الغربية وفي أمريكا ببيانات أشاروا فيها الى المشهد الاسرائيلي بتعابير عامة، وتمنوا على قادة اسرائيل، من أجل حماية مصالحهم المشتركة، المحافظة على ما يعتبرونه ديمقراطية نظامها، وعدم المساس باستقلالية القضاء الاسرائيلي، وغيرها من الشعارات الفضفاضة والحذرة. لكنهم، لم يخفوا، في نفس الوقت، خشيتهم من زعزعة الاسس والجسور التي بنيت عليها تلك التحالفات مع اسرائيل واستمرارها، رغم تعاقب الحكومات فيها على الحكم واختلاف تركيبات أحزابها السياسية. بات من الواضح أن تلك الانظمة الصديقة لاسرائيل بدأت تشعر أن شيئًا مغايرًا ومزعجًا قد أصاب حليفتهم المدللة بعد الانتخابات الاخيرة التي فرزت احزابا متطرفة ومتعصبة لا يهمها قطع احبال السرة التي كانت تربطهم بها تاريخيا. لن أسهب في تعقيدات هذه المسألة لكنني أريد أن ألفت النظر إلى جزئية خطيرة واحدة منها يحاولون في اسرائيل، وليس فيها وحسب، أن تبقى في الظل وألا تنعكس في نقاشات الشوارع وبين المتظاهرين ولا على شاشات فضائياتها. انها قضية “الترسانة النووية الاسرائيلية” ومصيرها إذا تنفّذ فيه وزراء الحكومة الحالية بشكل حر ومطلق. لقد حاول رئيس حكومة اسرائيل الاسبق ايهود باراك، وهو من أشد المعارضين لحكومة نتنياهو الحالية، تسليط الضوء على هذه القضية مرة واحدة قبل مدة قصيرة فغرد على صفحته قائلًا: “قد يظهر هذا الأمر بالنسبة لنا كأنه هوس، ولكن في عدة محادثات جرت بين اسرائيليين وجِهات سياسية غربية، ظهرت بينهم حالة قلق عميق من احتمال نجاح المنقلبين على منظومة الحكم وقيام “ديكتاتورية مسيحانية” في قلب الشرق الأوسط، تحت امرتها سلاح ذري، بينما يتمنى مهووسوها التصادم مع الاسلام وفي مقدمته “هار هبايت” (أي المسجد الاقصى). هذا أمر مرعب في نظر هؤلاء الساسة الغربيين. وهذا لن يحصل”. هكذا كتب ايهود باراك بشكل واضح وصريح، ومن مثله يعرف عما يتكلم وأي خطر كارثي يتوقع. نستطيع أن نخمّن لماذا بقيت هذه المسألة طي الكتمان؛ لكنها، برأيي، لن تبقى هكذا ويجب ألا تبقى هكذا الى أجل غير مسمّى؛ فهل سيأتي من سينتشلها من “هناك” وينقذ المنطقة من فقه قادة قلعة “متسادا” الجديدة.
هل نحن في خطر ؟ إذا كان القصد كمواطنين عرب مسيحيين في اسرائيل، فالجواب نعم؛ لكنّه نفس الخطر الذي يواجهه كل مواطن فلسطيني يعيش في اسرائيل؛ فمسيحيتك لم ولا ولن تمنحك الحصانة أمام من وفق عقيدته السياسية يراك أولا عدوه القومي، وثم يحسبك، دينيًا، مخلوقًا خسيسًا ومنقوصًا، ويتمنى في صلاته ودعائه أن يمحى اسم وذكر مسيحك الآن وإلى الأبد. من يتحرشون بالكنائس ومعلّموهم وحاخاماتهم على قناعة بأن مسيحيتك، مهما كانت وديعة ، لن تنقذك من نارهم اذا صفت لهم النار. لم يكن التحرش الأخير بكنيسة مار الياس على الكرمل أول تحرش هناك ؛ فلقد سبقته تحرشات أخرى ومرّت في النهاية “بود وبسلام “. وكانت قبلها اعتداءات على كنائس في عدة مواقع في البلاد تم في بعضها حرق الكنيسة واحيانا الاعتداء على الكهنة ومن تواجد في المكان. يتحرك جميع المعتدين على الكنائس المسيحية بدوافع عقائدية دينية مدعومة بتعاليم التوراة، وأحيانًا يتذرعون بحجج كاذبة أو مختلقة ليبرروا أفعالهم، مثلما ادعوا، لتبرير تحرشهم بكنيسة مار الياس، بوجود قبر، او مغارة للمدعو أليشع، وهو النبي الذي استخلفه النبي ايليا قبل صعوده الى السماء بمراكب النار، حسب ما ورد في قصص العهد القديم. أنه الادعاء ذاته الذي استخدموه عندما احتلوا قبور منسوبة للاولياء وللصالحين او مزارات مزعومة للانبياء من أعالي الجليل حتى رمال النقب مرورا بجميع أرض فلسطين التاريخية يضاف اليها مطامعهم في عدة مواقع موجودة في المملكة الهاشمية الاردنية.
ما العمل ؟ هو السؤال الذي طرحته في عشرات المناسبات وقصدت ما العمل في مواجهة الفاشية والفاشيين ولكنني لن أتعاطى معه اليوم. أما فيما يخص العمل لانقاذ المسيحية العربية في فلسطين، فهذه مهمة خيالية ليس إلا. فكما كتبت في الماضي أوكد اليوم على ان الفلسطينيين المسيحيين قد هزموا في وطنهم عمليًا ولم يعودوا يشكلون كيانًا ذا شأن أو وزن، ولا يحسب لهم حساب يتعدى ضرورات البروتوكول احيانًا أو التقليد المتبع أو التعويض بهدف ابقاء أثر لهم يربط هذه الكنائس مع بدايات المسيحية وآبائها الأوائل الذين حافظوا عليها في مهدها، أرض فلسطين والمشرق العربي. علينا أن نتذكر أن عدد المسيحيين العرب في اسرائيل يناهز المائة وعشرين ألفًا موزعين على حوالي سبع عشرة كنيسة، يشكل أتباع الكنيسة الكاثولوكية، صاحبة كنيسة “مار الياس” المعتدى عليها، نصفهم تقريبا. لن أسهب في تشخيص مسببات حالة النكوص وعدم التفاعل المثابر والجدي والحقيقي من اجل حماية الكنائس وممتلكاتها، لكنني على قناعة بأن هذا النكوص هو جزء من الحالة عامة التي يعاني منها المواطنون العرب في اسرائيل، وهي كذلك نتيجة كوننا، نحن المسيحيين المحليين، مستعمرين من رؤساء كنائس أجنبية سرقوا في الماضي مسيحنا ثم استولوا على فضاءاتنا وسادوا فيها في أجواء من الاستعلاء الاستعماري واغترابنا المزمن عنها، وغيابهم حين تقع الواقعة في دهاليز الديبلوماسية ومصالحهم الضيقة. واخيرا، يجب ان نقرّ بأن الدفاع عن هذه الكنائس والأديرة لا يمكن ان يكون جدّيًا ومجديا اذا لم يسبقه ويرافقه دفاع أباء هذه الكنائس واكليروساتها عن ممتلكاتها وأوقافها واذا لم يوقفوا التفريط بها وتغييب مصالح الرعايا الحياتية.
هل من حل لهذه الأزمة؟ ربما، فعلينا بالفاشية أولا، وليكن النبي ايليا للمؤمنين سندًا ومراكبه مملؤة صبرا وحكمة و نورا.