المغيبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى سنة ١٩٤٨
تاريخ النشر: 02/08/23 | 14:30تأليف: منار حسن. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية. (ترجمة: علاء حليحل).
تعقيب: خالد جمال فوراني
الشكر لمنار، لتأليف هذا الكتاب القيم أولا، ولدعوتي لمناقشته ثانيا، وكذلك أشكر مؤسسة الدراسات الفلسطينية لترجمة وإصدار هذا الكتاب بالعربية. والشكر كذلك للنادي الثقافي لاستضافته الكتاب واستضافة هذا المحفل، ولكم أيضا أنتم الحضور الكرام جزيل الشكر لمشاركتنا في هذه الأمسية.
تنضم هذه الدراسة لإرث عريق في علم الاجتماع المعني بسؤال المدينة: ما هي المدينة وكيف تغير النفوس؟ ليفهم علاقات الذات مع ذاتها ومع ذوات الأخرين في المدينة. منار إذن تلتحق بقافلة مرموقة تضم مثلا جيورج زيميل، (١٩٥٠، ص. ١١-١٣) ذاك الباحث الألماني الذي قدم مشاهداته الرائدة في “جسد” الثقافة” المدنية ليدرس “روحها” (روح الحضارة المدنية) ومكانتها في تركيبة النفس التي تقطنها في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين (عقليا، روحانيا، نفسيا، جسديا). فتسير منار مع موكب هذا الفكر الذي يفحص مسارات الغياب والحضور كما فحصه زيميل حين شاهد ما يؤدي لتضخيم الفروقات الفردية مثلا في المدينة، فيحجب عالم العواطف ليحضر العالم الذهني، أو يغيب العالم الداخلي للفرد ليحضر العالم الموضوعي منزوع الشخصية الذاتية، وذلك ليحمي الفرد ذاته من صدمة تضخم المحفزات والتحولات في المدينة التي تمضي على إيقاع سوق المال. بهذا المضمار، تنضم منار، وهي ريادية في ذلك، لسؤال زيميل عن مسارات التغييب والحضور في المدينة وعلاقتها مع صيرورة الوعي الفردي والجماعي وثنائية الحضور والغياب فيه، وهي ما سيقف في صلب مداخلتي القصيرة هنا.
الادعاء المركزي لمنار هو أن تغييب الحياة المعاشة الحضرية في فلسطين أدى إلى تغييب مكانة النساء الناشطات العاملات فيها. والأدهى من ذلك أنه قد يؤدي ولربما أدى فعلا، إلى تبنى الخرافة الصهيونية عمن كنا وعمن سنكون. لذلك تسعى منار من خلال مؤلفها هذا لتوضيح ضرورة الوصول إلى “فهم معمق للتاريخ الحضري لفلسطين” (ص. ٢٤٨) فهذا سيجنبنا (١) نفي المدينة من الذاكرة الفلسطينية (٢) الوقوع في مصيدة الخرافة الصهيونية أن من جاء بالحرية للمرأة الفلسطينية هو “الحياة بين اليهود” (ص. ٢٤٨) وأن لا علاقة لحياة المرأة عربيا، فيما يحصل للمرأة فلسطينيا. ولكن أحد الأسئلة التي أتمنى على منار أن تعالجه فيما سيلي من بحوثها: لماذا أصلا نسابق خرافة على بضاعة مشبهوة أخذت من الحرية أسما لها؟
تطرح منار هنا سؤال استفتاحي تكويني للكتاب أجده ثاقبا جدا، والأهم من أي إجابة عليه – هو أن يكون وأن ويبقى سؤالا حاضرا في وعينا: لما غيبت ومحيت (المدينة) من الذاكرة الفلسطينية الجمعية؟ إذ، وفق ما وجدته منار، فقدت عشر مدن من أصل إحدى عشرة صبغتها المدنية في فلسطين عقب نكبتها (ص.٨). نحن إذن أمام كتاب يقاوم عمليات الفقدان، النفي، والمحو التي تقوم بها الذاكرة تحت وطأة كل من النسيان والتناسي أيضا. فما تقوم به منار بكنهه هو توثيق صارخ يقرع من وراء جدران خزان النسيان: نحن كنا هنا، نحن كنا هنا نساء ومدنا، فلا تصدقن ما يحبك لنا عن عدمنا في خيوط الذاكرة والنسيان. ولذا أحسنت الباحثة همت زعبي حين وصفت الكتاب وكأنه “وثيقة بيانات محكّمة” تقدم للاتهام أو لربما بالأحرى للدفاع أمام المحكمة، لتثبت حضور من غيب، أي المدينة والمرأة: في الثقافة، بما فيه ثقافة الترفيه، والاقتصاد والسياسة بما فيه العمل الثوري المسلح ( مثلا، نشاط زهرة الأقحوان). ولكن لو هي مشت مع المرحوم غسان كنفاني في أنموذج دق الخزان، أنا أسأل هل كان للكتاب أن يقوم بأكثر وأبعد مما دعا إليه كنفاني: ألا يدق الخزان فحسب (معلنا وجودا ما) بل أن يدفع به أيضا.
تعرض منار نقاشا في أقاصي الوعي والذاكرة الفلسطينية: من حيث الاهتمام بالنساء والمدينة حين ألتجأ ويلتجئ الوعي القومي الفلسطيني (أسوة بغيره) للريف والكينونة الفلاحية مغيبا المدينة وبالتالي نساءها – فيطرح هذا الكتاب أمامنا – ولربما من حيث لا يدري أو يقصد — سؤال تأريخ وتحولات ومآلات هذا الوعي: لماذا صرنا الآن تحديدا في مسيرة هذه الوعي — بعد ٧٥ عاما من تدمير فلسطين — جاهزين لمقارعة قضية المدينة في وعينا الفلسطيني – ما هو الشرط الذي يجعل من عمل منار مع عمل أخرين مثل شيرين صيقلي وكريم ربيع عن الرأسمالية والنيوليبرالية الفلسطينية في مساءلة المدينة ومكانها في كي وعينا ووجداننا فلسطينيا؟ هذا سؤال يتأتى لنا حين نربط ما نكتب مع الشرط الذي نكتب فيه: هل نضج وعينا وترسخ وجودنا في “خارطة العالم” لدرجة أننا جاهزون لفتح مواضيع ما كنا لنفتحها من قبل؟ أم أن العكس هو الصحيح؟
ومن باب الجدل الحواري أسأل – بأي الظروف يصح لنا أن نتحدث عن “المغيبات” بفتح الياء في آن واحد “كمغيبات” أيضا أي مع كسر الياء. أو بكلمات أخرى تحويل الصيغة من اسم مفعول إلى اسم فاعل، بلغة النحو والصرف. ولكن بالطبع مقصدي يتخطى حدود النحو هنا – إذ ما أقصده أن المدينة والمرأة المعنيات في كتاب منار هذا هن ما لا يقع عليهن فعل التغييب فحسب، بل التغييب هو ما يقمن به أيضا، وما يمارسنه. بما معناه الحاضرة هي ليست كليا أو دوما “المقصي” الذي يعود (إن في رسمة تمام الأكحل أو في كتاب منار، ص.٧) بل هو ما طغى فينا حتى عمهناه، أي نغفله.
ولكن أتساءل بأي الطرق أظلم المنظور الليبرالي العلماني ذو عقيدة “التقدم” و”التخلف” الطريق على منار في قولها مثلا “كانت المدينة وعملية التحضر معها…عنصرين محفزين لمظاهر اجتماعية منوعة مثل نشوء الفنون وتطورها.” (ص.١٥). ولكن هنا علينا أن نسأل أليس هذا صنف من صنوف التغييب أن ندعى أن الفن أنتظر المدينة كي يظهر ويتطور؟ أم القصد هنا نوع محدد جدا من الفن؟ إلا طبعا لو كانت منار تقصد أن الفن كان معدوما في القرية، غائبا من نسيج أشكال الحياة فيها كالدبكة، والزغاريد والزجل (مثلا، درويش، ٢٠٢٣). ولربما هذا تحصيل حاصل حين نقرأ تاريخ المدينة كظاهرة بشرية من وجهة نظر المدينة ذاتها (لا من خارجها). فها هي منار تبدو موافقة مع پارك أن “كل الثقافات الكبيرة هي وليدة المدن” (ص.١٧) ولكن ألم تكن الثقافات الكبيرة عموما وليدة ديانات وهذه الديانات بنشأتها تعود لا للمدن فحسب، بل للبلدات الصغيرة والقرى وحتى الصحراء. ألم تكن هي هي البادية في بداية الديانات السماوية الثلاث؟ بكل الأحوال: من الواضح أن من يكتب عن المدينة عليها أو عليه أن يحدد موقعه – أيرويها بصيغة المنتصر لها أم بصيغة المراقب الذي يترفّع عن الانحياز لها أو ضدها.
سؤال ثان أطرحه مثالا من باب توضيح جدلية المدينة: كمغيبة ومغيبة — هل نحن كنا حقا بحاجة لمدينة حتى يبدأ النضال للدفاع عن حق المرأة التام في الحياة، بل والحياة الكريمة أيضا إذ جاء في محكم التنزيل الكريم ضد عادات الجاهليين من العرب: ” وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ” (سورة التكوير، الأية ٨). مثال ثالث على ما قد حجبه الخطاب الليبرالي-العلماني في إنارة الطريق أمام منار حين تدرج هي سلسلة من النضالات التي ظهرت خصيصا في المدينة منها القومية، الطبقية والجنادرية (ص.٣٧) وما يقصيه هذا الأدراج هو دور المدينة في تحفيز النضال الديني بل الديني النسوي كما تعلمنا بحوث المرحومة صبا محمود بعنوان “سياسة التقوى” في كتابها الرائد عن النساء الدعويات في مساجد القاهرة. بالطبع، منار مطلعة على الجوانب المظلمة لصعود المدينة في الوجدان الفلسطيني. فهي تقر أن في المدينة ” تنشأ (أيضا) العلاقات الاجتماعية والظواهر القمعية والاستغلالية…. مثلا الإتجار بالجنس” (ص. ٢٤٣). ولكن يا حبذا لو عمقت في كتابها القادم إن شاء الله وهي تنوي الكتابة عن خراب المدينة الفلسطينية ومساعي ترميمها – كيف تكون “الحرية” وجها من أوجه القمع والطغيان، فلا يمكن اختزالها، في مشاركة النساء بسوق العمل (الرأسمالي أصلا) ولا في الاستهلاك الثقافي الحضري المنبثق منه ولا العمل السياسي القومي المرافق له – حتى لا تقع منار في تكريس مطب لم ينج منه زيميل أيضا على شكل ثنائية بالية تزعم دونية المرأة الفلاحة (والبدوية) أمام المدنية.
قد يسهل علينا إدراك “الوجه الآخر للحقيقة” (وللحقيقية وجهان لو أتفقنا مع درويش) لو نحن تذكرنا أن الحضارة قرنت ومقرونة بالمدينة. قد نبدأ بإدراك هذا الوجه خصيصا حين ننظر للتقارب اللفظي ما بين الحاضرة أي المدينة والحضارة فمجرد التحضر، والحضرية هي بعينها عملية تغييب للآخر الريفي، الفلاحي، وبالطبع، البدوي. ولربما هنا نستطيع أن نبدأ بمقارعة السؤال المهم الذي صاغته منار وهو: “ما الذي يضمره تغييب المدينة؟” في الذاكرة الفلسطينية، افتراضا أن هذا فعلا ما حصل.
بداية يجدر بنا ألا ننسى أن الوعي القومي بما فيه، وللمفارقة، الوعي القومي الذي “يمحي” المدينة على صعيد ما وعلى صعيد أخر يمحو القرية أيضا، هو نتاج حضري بامتياز. أي أن “القومية” (كمنتج ظهر في المدن لا في القرى) هي التي من المفترض أن تكون قد محت القرية المعاشة (نسيج العلاقات القروي) لتستحضرها رموزا فيما بعد. فهل يا ترى ما تصفه منار كتغييب المدينة هو ظاهرة تمحي المدينة فيها المدينة حين تطور وتبث الوعي القومي المناهض للمستعمر برمزية الفلاحة؟
لكن ثمة سؤال أخر الذي يفضي إليه كتاب منار وأود أن أتفكر معكم جهرا فيه: هل لنا أن نحيل ذلك الوعي القومي الحديث الذي يغيب الفلاحي معاشا ويحضره رمزا إلى “عودة المقصي” من قبل وعلى يد الحضارة كما تفهم عموما كونها من سمات أهل المدن؟ والقصد “بعودة المقصي” هنا عودة التركيبة الأمومية (من أم بمعنى الأولية والبدئية) للمجتمع الفلسطيني؟ لنذكر أن تركيبة المجتمع الفلسطيني هي فلاحية رعوية بامتياز عبر التاريخ ومنذ الزمن الغابر. كما أن من بقي، أقصد ١٦٠،٠٠٠من العرب في أراضي فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨ هم بسوادهم من الفلاحين، ومن مد الثورة في المخيمات هم الفلاحون المشردون عن أرضهم، كما يعلمنا كتاب روزماري صايغ بعنوان “من فلاحين إلى ثوريين” ومن أجج الإضراب وصان الثورة القسامية المندلعة عام ١٩٣٦هم من الفلاحين (والبدو بلا شك) حتى أنها عرفت بثورة الفلاحين لا من أهل المدن. ونحن بانتظار الكتاب الذي سيسلط الضوء على دور النساء (فلاحات وبدويات) في ثورة الفلاحين. لربما في هذا المضمار، تذكرون هنا طرفة أهل المدينة الذين تحولوا لإعتمار الحطة بدل الطربوش ليموه الثوار المستعمر الإنجليزي. إذ هتف أنداك في المدن “الكوفية بخمسة قروش… والنذل لابس طربوش” و”حطة وعقال بسبعة قروش…وعرص الليّ بيلبس طربوش”، وأشار تيد سويدنبيرغ (١٩٩٥) في كتابه “ذكريات الثورة: عصيان ١٩٣٦-١٩٣٩ والماضي الفلسطيني” حين تحرى كيف صار الفلاح الفلسطيني حاملا للدلالات القومية أن في اعتمار أهل المدن الكوفية حصل ثمة إنقلاب في الهرمية الاجتماعية رأسا على عقب فصار الفلاحي حين أنقلب هذا الهرم دليل المدني للعمل السياسي في عالم أوسع وشرط كوني عارم يتنكر للريف ويتمدن في آن.
وأختم هذه المساءلة (من يغيب من؟) بأن نفكر معا في سؤال منحدر منها: لربما في عملية التغييب هذه ثمة أقتراب من مكان وزمان أسميه “موقع الصدمة\تراوما ” أو بكلمة واحدة “المصدمة” (بالمعنى الإكليني للمفردة)؟ هل في رجوع الوعي القومي الفلسطيني إلى الريف أو ما يسمى لدى منار “تغييب الحاضرة” – إن صح التعبير – ثمة رد فعل من دافع الرغبة في الحياة والبقاء أمام تغيبب مزلزل جارف وصادم كان أوجه عام ١٩٤٨ – حينها صار تعداد سكان المدن ما بين ٣٥ حتى٤٠ % من سكان فلسطين. هذا هو زمان ومكان “صدمة” أو “مصدمة” في عالم الفلسطيني الريفي – الذي أحاطت به “الحضارة” وجلبت معها مستعمر زلزل وأجتث عالمه وجرفه ولا زال باسم الحضارة وبأساليبها الأكثر فتكا ودهاء فما كان منه إلا أن يعود كما عاد جبرا إبراهيم جبرا إلى “البئر الأولى” وغسان كنفاني في “ما تبقى لكم” إلى الصحراء التي يعبرها حامد في بحثه عن أمه، أي بدايته.
ختاما، يجهزنا هذا الكتاب للتبصر في الواقع الذي نعيشه: حيث ليس جليا تماما هل المدينة هي دوما مدينة (الأفراح والأتراح في حاراتنا العربية مثلا في المدن الساحلية) ولا القرية هي القرية (بعد مائة عام من التغريب عن فلاحة الأرض وأكثر) فشاعت لفظة “بلدات” التي هي بمثابة رفض للحسم بينهما أي اعتراف بعدم إمكانية الحسم ما بين “القرية” و”المدينة” في حاضرنا المستعمر. وعن هذه “البلدات” تقول منار في خاتمة الكتاب “لا يمكن اعتبارها مدنا حقيقية، وإنما قرى تضخمت، وحظيت بمكانة مدينة بفضل عدد سكانها فقط” (ص. ٢٤٦) وهنا أسأل منار ولربما نسأل معا: ما القصد “بعدد سكانها” ؟ أتقصدين سكانها الأحياء أم القتلى؟ الناجين أم المغدورين تحت جائحة القتل المتفشية بيننا؟ لربما كتاب منار القادم هو فعلا على مرمى حجر – بأن تكسر الياء لا أن تفتحها – فتحدثنا عن المغيبات: كيف تبلع المدينة ما كان قرية يوما ما وصار غيتو! لربما ستكون في موقع ترشدنا منه كيف تكون الخرافة الصهيونية ما هي إلا إفرازا لخرافات ومغيبات أعمق منها في عالم ليس لنا، ويدعي “الحضارة”.
قائمة مراجع:
جبرا، أبراهيم جبرا (١٩٨٧). البئر الأولى. بيروت: دار رياض الريس.
درويش مروان (٢٠٢٣). الزجالة الفلسطينيون: الإحتفال في ظل الحكم العسكري الإسرائيلي
١٩٤٨-١٩٦٦. مجلة الدراسات الفلسطينية. عدد ١٣٥(صيف): ٦٠-٧٧.
كنفاني، غسان. (١٩٨٦). ما تبقى لكم. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية.
زعبي، همت (٢١ فبراير، ٢٠٢٣). https://www.palestine- studies.org/ar/node/1653689
]أخر ولوج للموقع تم في ٣٠ يوليو، ٢٠٢٣.[