محمود درويش في حضرة الندم
جواد بولس
تاريخ النشر: 11/08/23 | 19:44تُذكّرنا هذه الأيام من شهر آب / أغسطس بالوجع، وتصيبنا الحسرة التي لا تشبه الحسرات المستوطنة أرض فلسطين مذ أعلنت السماء حبّها الأثير لها وأمطرتها بالأنبياء وبالشعراء وبالهزائم؛ فذكرى رحيل محمود درويش، عندما تحلّ، توقظ فينا من جديد أسئلة الندم والوفاء والشوق، فهو “بعد الموت لا يطاق”.
ماذا لو لم يسافر إلى أمريكا كي يجري العملية هناك، أو لو قرر ألا يجريها بالمرة ليكمل تلاوة تراتيله في الحب والحكمة والأمل حتى انفجار اللغم ؟ ماذا لو أطال نومه في ذلك الصباح الماكر وفاته ميعاد الطائرة كي ينجو مصادفة مثلما نجا “لاعب النرد” من حادثة الباص حين تأخر عن رحلته المدرسية لانه نسي “الوجود وأحواله عندما كنت أقرأ في الليل قصة حب تقمصت دور المؤلف فيها ودور الحبيب- الضحية، فكنت شهيد الهوى في الرواية والحي في حادث السير” .
في كل عام منذ رحيله، في مثل هذه الأيام، يعذبني شعور غامر بالندم وتعيد ذاكرتي تفاصيل القلق الذي عاشه محمود بدون انفكاك ، فهو لم يكن واثقًا بصواب اختياره لاجراء العملية؛ وحتى آخر لحظات مغادرته رام الله كان يكرر السؤال عليّ وعلى سائر أصدقائه القريبين، ما رأيك، أخوض المغامرة أم أنسى وليكن ما يكون؟
لقد أمضى أيامه الأخيرة في الجليل؛ وفي صباحه الجليلي الأخير اصطحبته بسيارتي من بيت أخيه أحمد في قرية جديّدة وتوجهنا الى مدينة حيفا. كان هادئا كما يليق بعاشق يتأهب للقاء معشوقته، وأنيقًا كياسمينة تلمّ في الصباح فوضى ليلها. فرك كفّيه، وهو على مقعد السيارة بجانبي، وببسمة عريضة كانت تستنفر هواجسه وقلقي سألني: “فكرك لازم أعمل العملية ولا بلاش” ؟ ضحكنا بخفة مواربة، فكلانا كان يعرف أن الأمر قد نوقش حتى التعرّي الكامل وكان قد قُضي، فغدًا سوف يترك فلسطين من رام الله ليتوجه الى عمان ومنها الى فرنسا مباشرة ثم الى هيوستن في أمريكا. وصلنا حيفا محطتنا الأولى. قضينا فيها بضع ساعات بصحبة أصدقاء والكرمل. كان محمود ممتلئًا فرحًا ونشاطًا؛ كان يتحدث عن البحر وعن الأدب وعن الثقافة والمثقفين وعن الرواية والحب والأمل، لكنه لم يتحدث عن الرحيل ولا عن الموت. كان يلتهم الوقت وأنفاس الطبيعة، ولو استطاع لأوقف الزمن هناك تحت قبة السماء الزرقاء وفي ظل غابات السرو والصنوبر؛ لكنه كان يعلم ان لا وقت لنسيان الألم فلقد “كبرنا فجأة والعمر مرّ سريعًا”. بعد ساعات من مداعبة الشمس، وقف وفتح يديه واستنشق جرعة كبيرة من الهواء كانت هي زاده لما تبقى من يقين، وودّع حيفاه كما تودّع الطير الأمكنة “نرحم أيامنا ، نكتفي بالقليل”. مشينا نحو السيارة وركبناها قاصدين رام الله، فطلب ألا أسرع وكانه كان يزرع البحر أسرارا ووعودا ويحمّل أمواجه عتبا وأشواقًا.
كان عشاؤنا الأخير في رام الله وكان طويلًا حتى ساعات الليل الصغرى. كنا ثلاثة، محمود وأنا وقد انضم الينا الصديق عماد شقور. لم يكن عشاءً عاديًا، ولم نرغب بأن ينتهي. كان ليلنا حزينًا ؛ فرغم رأفة الجو وضحكات الندى ورغم غنج العنب وتهافت الذكريات، كان هناك الصدى، وهو الوفي وصاحب صاحب الصوت وراسم حدود المدى، فمع كل نقرة ليل كانت الريح توشوش في آذاننا ببحة سيد الكلمات وناحِتِها، فتقول: “عندما تريدون الرحيل، ارحلوا .. لكنّ لا تعودوا ، كونوا للرحيل أوفياء، لعلنا نكون أيضًا لنسيانكم مخلصين”.
واليوم يقلّ المخلصون؛ فها هي الذكرى تمضي وكأنها خدش طفيف على جسد فلسطيني منهك. قد تكون زحمة الحوادث المأساوية وراء هذا “النسيان غير المخلص” أو هو الرصاص يلعلع في مطارحنا فيقتل فينا الحاجة للوفاء لمن أسقانا في حياته الشهد ووشم على صدورنا صلبان النور؛ أو ربما هي السليقة المطبوعة في هويتنا الناقصة فهي “ما زالت قيد التأليف” وتعاني من تشوّهات مستفزة حتى الغضب.
لن استرسل في تعداد قائمة الأسباب التي أدت الى هذا النكران المتفشّي في أوساط ثقافية أو مؤسساتية أو أكاديمية أو فردية، كان من واجبها ، أو على الأقل هكذا كان يتوقع منها، أن تحتفي “بالشاعر” ، هكذا بال التعريف، وبتراثه. إنّ الاحتفاء بقامة بحجم قامة درويش لا يكون من باب حاجة البشر لاحترام قيمة الابداع، وواجبهم تجاه من يتميّز بها والوفاء لكبارهم ولذكراهم ، وحسب، بل لضرورة اغتنائهم والاستفادة، فائدة للعقل وللروح طبعا، من تراثهم، وهو في حالة الدرويش تراث فريد وغير مسبوق في العصور الحديثة.
لقد واجه محمود درويش في حياته عداوات شديدة وموجات تحريض ممنهجة احيانًا او فردية عرضية في احايين اخرى. وعلى الرغم من أنه كان لا يعير معظمها على الملأ اهتمامًا مفرطًا وكان يهملها على الاغلب، الا انه في الحقيقة كان يتضايق منها ويغضب على مفتعليها، وبالاخص حين كان يعرف ما هي حقيقة دوافع معظم من حاولوا الاساءه اليه. كان يزعجه ان بعض مَن قادوا تلك الحملات او من وقفوا خلفها كانوا يعدّون انفسهم من المقربين اليه او حتى من حلقات “اصدقائه”، وكانوا في الواقع يمثلون شريحة واسعة من المرائين والحاسدين من جهة، والمفسدين الاجتماعيين من جهة اخرى. انهم بخلاف من تعمدوا الاساءة للدرويش لاسباب سياسية او عقائدية دينية ، يُعدّون ، وهكذا كان يعتبرهم هو في حياته، أسوأ شريحة من مدّعي الثقافة واخطرها على تسميم فضاءات الابداع السليم، وزعزعة روح الشعب حيال عملية الانتاج الفكري والادبي، وضرب مشاعر التكاتف في زمن ما زالت فيه فلسطين بحاجة لجميع ضروب التكاتف الذي يجب أن ينتعش، رغم التنافس، ضمن هوامش حرية الابداع.
لقد شكّلت مسيرة محمود درويش الأدبية ومشروعه الشعري والنثري تجربة فريدة؛ وتحوّلت، خلال مراحل تطورها وارتقائها في سلم الابداع الانساني، الى نوع من “التحدّي العصيّ” على سائر المتعاطين بفنون الشعر والادب. اقول ذلك ليس لأنني ناقدٌ أدبيّ، بل لانني عايشت تلك الظاهرة، كمتابع يحب الادب الجميل، وكنت ألاحظ كيف تتعاطى معها جمهرة من المثقفين، العرب والفلسطينيين، خاصة الشعراء منهم والأدباء. فكثيرون حاولوا، عن دراية او بدونها، تقليد أشعار الدرويش، من حيث الشكل والمضامين، فسقطوا بالتجربة؛ وأخرون حاولوا الابتعاد عنها حتى الجفاء، فسقطوا هم ايضا بالتجربة. بكلمات اخرى، لقد فرضت تجربة محمود درويش الادبية مقاييس ابداعية وجمالية آسرة وطاغية حتى صار اتباعها أو الفكاك منها ورطة على الحالتين. من هنا استطيع أن اتفهم بعض الشعراء والادباء المصابين “بعقدة الدرويش”.
لكنني لا أبرر لبعضهم الانتقال من موقع الغيرة والاجتهاد الى موقع الغيرة والتفتيش عن “مثالب” الشاعر وعثراته كما حاولوا خلال حياته ويحاول بعضهم بعد رحيله.
يزعجني ان اقرأ من حين لآخر “اكتشافات” جديده تنسب لمحمود درويش، سواء عن فعل يُدّعى انه قام به او قول قاله؛ وحين افتش عن موجبات ذلك، لا اجد خيرا في نشرها لا سيما بعد موته، بل الاساءة المتوقعة لاسم محمود درويش ولمكانته التي، بالرغم من جميعها، سيحفظها له التاريخ في سجّل الخالدين. قد يقرّ البعض بحق هؤلاء بالتعبير وبالكتابة باسم حرية النشر وحرية الرأي والتدقيق الاكاديمي. وأنا أيضا اقرّ بالحقّين طبعا، لكنني اخشى من نوايا بعض المستفيدين منهما، فليس جميعهم ينتمون لصفوف هذه “المدارس الليبرالية” ولا يؤمنون حقًا بهذه الحريات، لذلك علينا التفتيش عن حقيقة دوافعهم. واذا وضعنا محاولة البعض التعمشق على قامة محمود وتجريحها، او أولئك الذين يبغون تصغيره كي يجدوا لانفسهم مكانًا في “بانتيون” الشعراء، أو غيرهم ممن يحاولون الاستئثار بخبر صاعق لجلب الانتباه والنظر؛ اذا استبعدنا، جميع هولاء، فسيبقى الجزء الذي ينتمي لفرق مكلّفة بتشويه رموز شعبنا وخلق البلبلة حول مكانتهم وحجمهم، التي يتوحد حولها الشعب بكل فئاته وانتماءاته، وتشكّل عمليًا احد مركبات الهوية الجامعة وصمغ الشعوب الناضجة، وفي حالتنا، الهوية الفلسطينية العربية العلمانية الانسانية الجامعه. هؤلاء يخيفونني ويجب أن نواجههم، فهم يحاولون ليس تشويه الرموز فحسب، بل يفعلون ذلك ضد مؤسساتنا الوطنية والقيادية وقياديّيها التاريخيين او الحاليين.
في صبيحة اليوم التالي غادر محمود درويش فلسطين ليعود اليها في كفن، وتبقى روحه فيها الى الابد. وأنا هنا أعيش مع سطوة الندم وأتذكر ما قاله بوجع : “لو كان لي قلبان لم أندم على حب ، فان أخطأت قلت: أسأت يا قلبي الجريح الاختيار وقادني القلب الصحيح الى الينابيع”. ما زلت اذكر كيف ودّعته حينها ودبّ البرد في الكفّين، ولوّحنا بكفينا وشيء طاف في العينين”، فهل يُغضب كلامي أحدًا ؟ فليَغضب !