فلسطين وصفقة التطبيع بين السعودية وإسرائيل
بقلم: هاني المصري
تاريخ النشر: 15/08/23 | 10:19منذ أشهر عدة تقود إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن حراكًا سياسيًا؛ بهدف التوصل إلى اتفاق بين السعودية وإسرائيل حول تطبيع العلاقات بينهما، لدرجة تعيين مبعوث خاص لهذه المهمة، وعدّت واشنطن هذه القضية هي المهمة المركزية التي تسعى إلى تحقيقها حتى شهر آذار القادم، عند بدء الحملة الانتخابية الرئاسية، التي لا تبدو فرص بايدن فيها كبيرة.
تزعم إدارة البيت الأبيض في الكواليس أنها تحركت بهذا الاتجاه بعد طلب من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي أخبرها أن بلاده اتخذت قرارًا إستراتيجيًا بالسلام مع إسرائيل، وأن البحث والتفاوض يجري حول شروط هذا السلام وتفاصيله.
وتناولت مصادر إعلامية وسياسية أميركية وإسرائيلية وغيرها هذا الموضوع وتطوراته باستمرار، وكانت أحيانًا تصور أنه تم التوصل إلى إطار عام للاتفاق، كما نشرت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية أخيرًا، وأحيانًا يتم تصوير أن الأمر معقد وسيحتاج إلى وقت، لدرجة صرح بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة في لقائه مع بلومبيرغ الأميركية أن الأمر قد يأخذ مسارًا تدريجيًا؛ أي يتم تطوير العلاقات من تحت وفوق الطاولة في المجالات الاقتصادية، خصوصًا البنية التحتية والتكنولوجية والأمنية والعسكرية، قبل الوصول إلى تطبيع العلاقات الديبلوماسية وتبادل السفراء.
مطالب السعودية من واشنطن وتل أبيب
إذا كانت المطالب السعودية من واشنطن باتت معروفة، وهي مفاعل نووي سلمي متقدم، والحصول على أسلحة أميركية متقدمة، وتوفير شبكة أمان من خلال تعهد الإدارة الأميركية بالتعامل مع أي هجوم معاد على السعودية مثلما تتعامل مع هجوم مماثل على دولة عضو في حلف الناتو، ويقال إن هناك تقدمًا في التفاوض حول هذه المطالب كما أشار بايدن بنفسه.
أما المطالب السعودية بخصوص القضية الفلسطينية، فهناك غموض بشأنها، فمن جهة هناك الموقف الرسمي التقليدي السعودي، الذي جوهره لا تطبيع قبل قبول إسرائيل بمبادرة السلام العربية، التي تتضمن قيام دولة فلسطينية.
ومن جهة أخرى، لا تفصح السعودية للقيادة الفلسطينية حول ما الموقف بخصوص الشق الفلسطيني، مع تطمينها بأن القضية الفلسطينية حاضرة، وهناك ما كتبه توماس فريدمان بعد لقائه بالرئيس الأميركي بأن السعودية يمكن أن تقبل بأقل من المعلن، وحدد معالم ما يمكن أن يحدث بمطالبة إسرائيل الموافقة على عدم ضم الضفة الغربية، وتحديدًا مناطق (ج)، وتجميد الاستيطان من خلال عدم إقامة بؤر ومستوطنات جديدة، وعدم شرعنة البؤر الاستيطانية القائمة، والحفاظ على إمكانية قيام دولة فلسطينية، والحفاظ أيضًا على السلطة ومنع انهيارها، والاستعداد لتقديم دعم مالي سعودي سخي لها.
صفقة جديدة أخطر من صفقة ترامب
إن التوصل إلى اتفاق سيكون بمنزلة صفقة كبرى لا تقل أهمية، بل أخطر من اتفاقية كامب ديفيد المصرية، كونها تعقد مع دولة عربية مهمة لا تقع على حدود فلسطين، ولا توجد لها أرض محتلة، وتتم بعد اتضاح أن دولة الاستعمار والاحتلال أفشلت كل المحاولات للوصول إلى تسوية، وتريد خصوصًا في ظل الحكومة الحالية حسم الصراع بتصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها، وأخطر من صفقة ترامب كونها إن تمت ستتم بمشاركة كاملة من بلد عربي بأهمية السعودية.
عقبات كبرى في طريق الصفقة الكبرى
إن إنجاز هذه الصفقة ليس أمرًا سهلًا على الإطلاق، ولكنه ليس مستحيلًا، فهناك ضغوط لإنجازها وعقبات كبرى أمامها، ومنها:
العقبة الأولى: حكومة إسرائيل المتطرفة والعنصرية، فهي ليست مستعدة لتقديم أي شيء للفلسطينيين، حتى لو كان الأمر تجميدًا للاستيطان، كما صرح أكثر من مسؤول فيها، والسعودية لا يمكن أن تنجز الصفقة من دون أي شيء للفلسطينيين. لذا، من دون تغيير أو تعديل الحكومة الإسرائيلية الحالية بخروج الوزراء الأكثر تطرفًا ودخول بيني غانتس وحزبه إلى الحكومة، سيكون من المستبعد، بل من المستبعد جدًا، إبرام الصفقة.
كما أن يائير لابيد، زعيم المعارضة الإسرائيلية، عارض أي اتفاق يمنح السعودية أسلحة متقدمة وقدرة على تخصيب اليورانيوم، ولو في المجال السلمي، فالمقاربة الإسرائيلية التاريخية ضد تسليح أي بلد عربي بأسلحة متقدمة، حتى لو كان صديقًا وحليفًا لواشنطن وتل أبيب؛ نظرًا إلى أن الأنظمة العربية تقف على رمال متحركة، ويمكن أن تسقط وتحل محلها أنظمة معادية.
العقبة الثانية: من الصعب أن تمر الصفقة في الكونغرس الأميركي، خصوصًا في مجلس الشيوخ من دون دعم قوي لها من إسرائيل، لا سيما إذا وافقت الإدارة الأميركية على المطالب السعودية، فهناك سياسات وقوانين أميركية تمنع حصول أي دولة في المنطقة على قدرات نووية أو تسليحية متطورة، حتى لو كانت حليفة الآن للولايات المتحدة، لأنها يمكن أن تمس بالالتزام الأميركي بضمان تفوق إسرائيل على الدول العربية.
كما أن سيناتورات الحزب الجمهوري ونوابه لن يكونوا متحمسين للتصويت لصالح الصفقة عشية الانتخابات وضمان فرص مرشح الحزب الديمقراطي على حساب مرشح حزبهم، خصوصًا أن الاستطلاعات تشير إلى تراجع شعبية بايدن بشكل كبير.
ويضاف إلى ذلك أن سيناتورات التيار اليساري ونوابه في الحزب الديمقراطي لن يصوتوا لصالحها إذا لم تتضمن أمورًا جوهرية لصالح الفلسطينيين.
العقبة الثالثة: أشارت أنباء إلى وجود عقبة سعودية أمام الصفقة؛ نظرًا إلى وجود خلافات داخل العائلة السعودية حول التطبيع مع إسرائيل الآن، وما سبق أن ألتزم به العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز بأن لا تطبيع مع إسرائيل في عهده.
كما أن الصفقة يمكن أن تمس بالمشروع السعودي الذي يطمح إلى دور عالمي للسعودية بحاجة إلى علاقات حسنة وتصفير أزمات في المنطقة، خصوصًا حرب اليمن، وهذا يقتضي علاقات حسنة مع دول المنطقة والإقليم، لا سيما إيران.
وفي هذا السياق، جاء الاتفاق الإيراني السعودي الذي رعته بكين، وكل الخطوات التي أخذتها الرياض منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، وتحدّت فيها الإدارة الأميركية، وحافظت فيها على هامش من الاستقلال يمكنها من اللعب على المعسكرين الشرقي والغربي، وما يوفره لها ذلك من مزايا اللعب على التناقضات الدولية، والبقاء على علاقات جيدة مع المعسكرين، خصوصًا بعد توسع وتنوع العلاقات السعودية مع الصين كمًا ونوعًا، في وقت ينهار فيه النظام العالمي الجديد ويطل برأسه عالم جديد يمكن أن يكون متعدد الأقطاب. ومن العقبات كذلك أن السعودية قد تفضل عقد الصفقة مع رئيس جمهوري كونها كانت على علاقات أفضل بالرؤساء الجمهوريين.
ما وراء اهتمام إدارة بايدن بالتطبيع الإسرائيلي السعودي؟
ما سبق يقودنا إلى تحديد الأسباب التي تدفع الإدارة الأميركية إلى بذل كل هذه الجهود لعقد الصفقة، التي تظهر بلقاءات مستمرة أميركية سعودية؛ ما يدل على جدية وحرص أميركي على التوصل إلى اتفاق.
السبب الأول زيادة فرص بايدن بالفوز بولاية ثانية، بل السعي إلى ضمان الفوز، أما السبب الثاني، فلا لا يقل أهمية عن الأول، وهو وقف التراجع الأميركي في المنطقة، واستعادة زمام المبادرة، وقطع الطريق على تحسين العلاقات السعودية مع الصين وروسيا وإيران، وأما السبب الثالث فهو منع انهيار السلطة وما يسمى “حل الدولتين”، وأما السبب الرابع فهو إنقاذ إسرائيل من نفسها في ظل الأزمة العميقة التي تشهدها والمفتوحة على كل السيناريوهات، فنجاح هذه الصفقة يجمد الأزمة الداخلية الإسرائيلية، ويمنعها من التدهور، ويفتح الطريق أمام إسرائيل لتطبيع علاقاتها مع ما تبقى من الدول العربية ومع دول إسلامية مهمة، مثل باكستان وإندونيسيا وغيرهما، من دون أن تقدم شيئًا جوهريًا في المقابل.
وفي حال إتمام الصفقة سيحل الضم الزاحف والمتدرج محل الضم السريع والقانوني، وهو لا يمثل فرقًا كبيرًا، فبعد توفير مقومات الضم الواقعي من خلال خلق الحقائق الاحتلالية والاستيطانية والعنصرية، سيكون من السهل اختيار التوقيت المناسب للقيام بالضم القانوني والرسمي.
إن من المؤكد أن تمرير الصفقة لن يقود إلى الأمن والاستقرار والسلام؛ لأنها تكرر ما جرب منذ أكثر من مائة عام وحتى الآن من محاولات لإحراز السلام على حساب الحقوق والمصالح والتطلعات الفلسطينية، وهذا ما لا يقبله الشعب الفلسطيني، وسيواصل صموده ومقاومته وإبقاء قضيته حية حتى تحقيق الانتصار مهما غلت التضحيات وطال الزمن.
حذار حذار من الوقوع مجددًا في أوهام التسوية
تأسيسًا على ما سبق، على القيادة الفلسطينية الرسمية عدم الوقوع في الأوهام مجددًا عن إمكانية التوصل إلى تسوية، خصوصًا مع الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفًا، أو بعد تعديلها، أو حتى تشكيل حكومة جديدة، فيكفي عشرات السنوات من البحث عن تسوية في ظل الاختلال في ميزان القوى عبر المفاوضات والتنازلات، التي أدت إلى تعميق الاحتلال، وتوسيع الاستيطان والعدوان بكل أشكاله، وظهور الوجه العنصري البشع لإسرائيل كما لم يظهر من قبل، في ظل أن التيار الحاسم والكاسح في إسرائيل بمختلف مكوناته يرفض إنهاء الاحتلال للأرض الفلسطينية، كما يرفض قيام دولة فلسطينية، وعليها ألا تراهن على عدم إتمامها، بل يجب الاستعداد لكل الاحتمالات.
وبناء على ذلك، على القيادة الفلسطينية ومعها كل القوى الحية الفاعلة بدلًا من الانتظار لمعرفة هل ستنجح الصفقة أم ستفشل، وما مضمونها وتفاصيلها وما تعرضه للفلسطينيين، عليها الإصرار لمعرفة مضمونها فلسطينيًا، مع أن أي عاقل يدرك أنها من الصعب أن تمر مرة واحدة، بل من المحتمل أكثر أن تمر على دفعات، ولعل تعيين سفير سعودي فوق العادة وقنصل غير مقيم بداية الغيث، ولن تتضمن إذا رأت النور أي حق من الحقوق الفلسطينية، بما في ذلك دولة فلسطينية على حدود 67، بل في أقصى الحالات الحفاظ على إمكانية قيامها في الوقت الذي تُقوّض فيه هذه الإمكانية كل يوم.
قد يقول قائل من أصحاب مقولة ليس بالإمكان أفضل مما كان وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ويروج له، إن عدم الضم وتجميد الاستيطان والدعم السخي أفضل من الوضع الحالي ومن لا شيء، ولا يوجد لدى الفلسطينيين بديل من قبول الصفقة إذا مرت، وردًا على ذلك يكفي أن نذكر أن كل الحكومات الإسرائيلية، حتى التي كانت تسمى “حكومات سلام” لم تجمد الاستيطان، كما أن التجربة علمتنا أن تضمين التجميد وعدم الضم يهدف إلى التغطية على الصفقة؛ لأنها تقوي إسرائيل من دون إلزامها بشيء، تحقيقًا لمقولة نتنياهو القديمة الجديدة بأولوية السلام مع العرب، وبعد ذلك فرضه على الفلسطينيين الذين سيكونون في أضعف حالاتهم ومعزولين عن عمقهم العربي، وهذا يشجعها على المضي في مخططاتها الاستعمارية والعنصرية والعدوانية؛ أي سيبقى من الصفقة الدعم السخي، وتكون القيادة الرسمية الفلسطينية إذا وافقت عليها قد باعت القضية ببضعة دراهم.
لا عرس بلا عروس والقضية الفلسطينية هي العروس
هنا، لا يمكن إتمام الزفاف من دون العروس والقضية الفلسطينية هي العروس، ويجب أن نرى أن الصفقة إذا تمت يمكن أن تؤدي إلى إضرار بقناة السويس إذا تم بناء القطار من السعودية إلى فلسطين المحتلة كما روج نتنياهو، وكذلك يمكن أن تضر بالرعاية الأردنية الهاشمية للأقصى.
ترتيب البيت الفلسطيني مفتاح إجهاض الصفقة
إن منع عقد صفقة على حساب الفلسطينيين يقتضي ترتيب البيت الفلسطيني، وإنهاء الانقسام على أساس برنامج القواسم المشتركة وشراكة حقيقية وتوازن المبادئ والمصالح والقوى، وتغيير السلطة لكي توفر مقومات الصمود، ولتكون مجاورة للمقاومة، إضافة إلى إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتكون مؤسسات وطنية جامعة للكل الوطني، والاحتكام إلى الشعب عبر الانتخابات، وهذه أهداف بعيدة كما تأكد بعد فشل اجتماع العلمين، وبحاجة إلى وقت وتغيير خريطة وموازين القوى الفلسطينية؛ ما يعني أن مقاومة التطبيع ستكون واجبًا حتى في ظل الضعف والانقسام، وستقع على عاتق الشعب ومبادراته الفردية والجماعية، فالتطبيع إذا تحقق نكبة ثانية ستؤدي إلى نهضة فلسطينية جديدة.
يوفر إنجاز الأهداف السابقة أساسًا صلبًا يمكّن من اتخاذ موقف قوي وإرسال رسالة واضحة إلى السعودية وكل من يهمه الأمر؛ مفادها أن أي تطبيع على حساب القضية الفلسطينية، خصوصًا من دون إنهاء الاحتلال وتجسيد استقلال دولة فلسطين وعاصمتها القدس على الأرض المحتلة العام 67، لن يحصل على الغطاء الفلسطيني، ويعني تمكين إسرائيل من الاستفراد بالفلسطينيين بغطاء عربي، وإعادة القضية إلى نقطة البداية بعد النكبة بتحويل القضية إلى إنسانية، تحتاج إلى حل للسكان الفلسطينيين وليست مسألة تحرر وطني تحل بتقرير المصير للشعب الفلسطيني، وهذا يعبد الطريق أمام التهويد والضم والتهجير، وتغيير مكانة الأقصى عبر التقسيم الزماني والمكاني، وإقامة “إسرائيل الكبرى” من النهر إلى البحر.