لماذا لم تنجح المحاولات لبلورة قطب أو تيار ثالث؟
بقلم: هاني المصري
تاريخ النشر: 22/08/23 | 12:23على الرغم من كثرة المحاولات التي جرت منذ توقيع اتفاق أوسلو حتى الآن، لبلورة قطب أو تيار ثالث وطني ديمقراطي يساري أو ليبرالي، فإنها لم تنجح.
محاولات لم يُكتب لها النجاح
لم تنجح حركة البناء الديمقراطي التي أسسها الدكتور حيدر عبد الشافي، على الرغم من الكاريزما التي يتمتع بها، ومع أنها لم تفقد السبل للحصول على دعم مالي غير مشروط، كما لم تنجح حركة المبادرة الفلسطينية التي أسسها الدكتور مصطفى البرغوثي، على الرغم من الحضور السياسي والإعلامي والميداني الكبير للبرغوثي، وحصوله على الترتيب الثاني في الانتخابات الرئاسية في العام 2005، حين خاضها بالتحالف مع الجبهة الشعبية، وحصل على أكثر من 20% من الأصوات، في حين لم يحصل كل من تيسير خالد وبسام الصالحي على نسبة تذكر.
كما فشلت كل المحاولات لتوحيد اليسار على خلفية خوض الانتخابات بصورة مشتركة أو من دون انتخابات. ولم تنجح قائمة الطريق الثالث التي خاضت الانتخابات التشريعية الأخيرة وحصلت على مقعدين فقط، على الرغم من الدعم السياسي والمالي الكبير، فسرعان ما انتهت التجربة بعيد الانتخابات، مع أنها تضم نخبة بقيادة سلام فياض وحنان عشراوي. كما لم تنجح قائمة مصطفى البرغوثي وراوية الشوا التي انتهت بعد إعلان نتائج الانتخابات. وكذلك لم تنجح حراكات ومحاولات كثيرة وطنية ويسارية وليبرالية؛ لأنها تعيد إنتاج التجارب السابقة، أو لم تستطع طرح بديل متكامل وتجسيده على الأرض وتتنافس فيما بينها، ولا دمج دماء وأفكار جديدة، خصوصًا الشباب من الجنسين، بما فيها معظم القوائم الست والثلاثين التي سُجلت لخوض الانتخابات، ولكنها سرعان ما تبخرت بعد قرار إلغاء الانتخابات.
أعرف أن هذا الموضوع بحاجة إلى بحث طويل وعميق، يغوص في الأسباب والجذور، ويرى هل يمكن النجاح فيما فشل بالأمس، أم أن الحاجة ماسة لحركات وأحزاب من طراز جديد تستطيع أن تكون بمستوى التحديات والمخاطر والتضحيات، وقادرة على استيعاب دروس وعبر تجارب الماضي، والسير بثقة وثبات لتحقيق النصر في المستقبل.
لذا، سأكتفي في هذا المقال بطرح بعض الأسئلة والأفكار والفرضيات علها تساعد على تمهيد الطريق للإجابة عن السؤال الأساسي الذي يطرحه المقال.
أولًا: المقاومة مصدر شعبية التنظيمات
كل تنظيم فلسطيني حصل على شعبية كبيرة، وأدى دورًا قياديًا، كان في الأساس تنظيمًا مقاومًا، اعتمد المقاومة الشاملة بشكل عام، والمقاومة المسلحة بشكل خاص، وهذا يعود إلى طبيعة الصراع وخصائصه المستمدة من المشروع الصهيوني، الذي يطرح طرحًا جذريًا، ولا يقبل التسويات والحلول الوسط، ويستخدم العنف والمجازر والتهجير والفصل العنصري، وإنكار وجود الشعب، وتزوير التاريخ، ومصادرة الحاضر تمهيدًا لمصادرة المستقبل.
قد يطعن أحد في هذا القول بالإشارة إلى أن اليسار، وخصوصًا الجبهة الشعبية كانت تؤدي دورًا فاعلًا ومقاومًا، والحزب الشيوعي الذي بات “حزب الشعب” كان حزبًا فاعلًا، مع أنه لم يتبن المقاومة المسلحة، كما أن الجبهة الديمقراطية قامت بدور مهم، لكن يغلب عليه الطابع السياسي والإعلامي، وهذا الرأي صحيح بما يتعلق بفعالية فصائل اليسار، ولكن المضمون المشار إليه آنفًا يتعلق تحديدًا بالقيام بدور قيادي أول، مثلما فعلت حركة فتح منذ دخول فصائل الثورة الفلسطينية في العام 1969، أو نافست على القيام بالدور القيادي الأول، مثلما أدت “حماس” هذا الدور منذ الانتخابات البلدية والتشريعية في العامين 2005 و2006 وحتى الآن.
الحقيقة العارية أن الخريطة السياسية الفلسطينية تشهد استقطابًا حادًا بين حركتي فتح وحماس في العقدين الأخيرين، كما تدل عمليات المقاومة وعدد الأسرى والشهداء ونتائج الانتخابات الطلابية والنقابية والتشريعية، وكما يظهر في انقسام السلطة بعد الانقلاب/ الحسم في العام 2007، إلى سلطتين متنازعتين تحت الاحتلال تقود الأولى “فتح” ولو بالاسم، وتقود الأخرى “حماس”.
كما يشير مختلف الاستطلاعات الجادة إلى أن حركتي فتح وحماس تحصلان على 70% من الأصوات في أي انتخابات قادمة، بينما تحصل الأحزاب الأخرى مجتمعة على 10% من الأصوات، والبقية غير حاسمة إلى من تصوت، وسيكون تصويتها سلبيًا بعدم الذهاب إلى الانتخابات، أو عدم انتخاب أي قائمة، أو التصويت لقوائم جديدة، أو تتوزع أصواتها على حركتي فتح وحماس إذا لم تكن هناك قوائم منافسة جدية.
ثانيًا: الدور القيادي مترافق مع تغييرات وروافع عربية وإقليمية ودولية
إن قيادة حركة ما للشعب الفلسطيني، أو قيامها بدور قيادي، ترافق مع تغييرات في البيئة العربية والإقليمية والدولية؛ أي إنّ حركة فتح ما كانت لتتبوأ الدور الذي قامت به لولا أولًا دعم الأنظمة العربية، وخصوصًا النظام الناصري، الذي انتقل من التشكيك بحركة فتح قبل هزيمة 67 إلى اعتبارها أنبل ظاهرة أوجدها التاريخ، وثانيًا دعم حركات التحرر والقوى والأحزاب التقدمية في العالم والمنظومة الاشتراكية، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي.
كما أن حركة حماس لم تنهض وتقوم بدور قيادي لولا نهوض الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين، ولولا أن الولايات المتحدة والغرب عمومًا باتا يراهنان على “الإسلام المعتدل” في مواجهة “الإسلام المتطرف” والدول الديكتاتورية العسكرية والدينية.
وفي هذا السياق، طالب الرئيس الأميركي باراك أوباما الرئيس المصري حسني مبارك بعد ثورة يناير في العام 2011 بالتنحي، وشجعت إدارته الإخوان المسلمين على التقدم بمرشح منهم للانتخابات الرئاسية المصرية، مع أن مجلس الشورى اتخذ قرارًا سابقًا بعدم خوض الانتخابات الرئاسية، وفصل عبد المنعم أبو الفتوح؛ لأنه قرر خوض الانتخابات متمردًا على قرار جماعته.
ثالثًا: التنظيم القيادي يطرح رؤية تميّزه
التنظيم القيادي أو الذي يقوم بدور قيادي يطرح رؤية أو فكرة مركزية قيادية تميزه عن غيره من التنظيمات، فحركة فتح تميزت عن الحركات والأحزاب الأخرى القومية والدينية واليسارية، أنها طرحت أهمية الدور المركزي الخاص للشعب الفلسطيني في إنجاز تحرره الوطني والديمقراطي، من دون انتظار نهوض المارد القومي الوحدوي أو المارد الإسلامي أو الأممي، بل تبنت فكرة إطلاق مبادرة قوامها أن اضطلاع الشعب الفلسطيني بدوره الوطني هو الذي سيحرك الأبعاد الأخرى القومية والدينية والإنسانية، وفيما بعد انجرفت وغلبت استقلالية القرار الفلسطيني وذهبت به أكثر بكثير مما ينبغي بوصفه ردة فعل على تخلي النظام الرسمي العربي رويدًا رويدًا عن القضية الفلسطينية، وحتى تكون القيادة الرسمية حرة اليدين؛ أي غير مقيدة من الأبعاد العربية والدولية، وهذا أوصلها إلى أوسلو وما بعده.
وفي هذا السياق، طرحت حركة فتح مركزية القضية الوطنية على القضايا الأخرى الديمقراطية والاجتماعية والأيديولوجية، وتصرفت على أنها حركة الشعب الفلسطيني، وتبنت الكفاح المسلح إلى درجة اعتبرت أن “هويتي بندقيتي” وأنه الخيار الوحيد في البداية، والرئيسي فيما بعد، قبل أن تنتقل إلى اعتبار المفاوضات “حياة” وأسلوبًا وحيدًا ثم رئيسيًا لتحقيق الأهداف.
أما حركة حماس، فتبنت المقاومة المسلحة ومارستها بوصفها طريقًا للقيادة والتمثيل، وأدركت بعد سنوات على تأسيسها أهمية البعد الوطني الذي بات يتقدم إلى جانب البعد الديني، وعلى كونها جزءًا من مشروع وحركة إسلامية، فتبنت البرنامج المرحلي بوصفه خطوة على طريق التحرير والعودة، وهذا جعل منها لاعبًا سياسيًا يعطي أهمية كبيرة للاعتراف العربي والدولي بها على حساب الاعتراف بالحقوق؛ أي وقعت في الخطأ نفسه الذي وقعت فيه المنظمة، وساهم في إيصالها إلى ما وصلت إليه؛ إذ أصبحت “حماس” تنافس على الشرعية وفي التصدي للمهمات المباشرة، ولا تكتفي بالتنظير للأهداف البعيدة.
وتبنت “حماس” كذلك خيار الدخول إلى السلطة والمنظمة من دون اشتراط تغييرهما أولًا، بعد أن كانت تطرح حتى العام 2005، ضرورة إقامة منظمة تحرير جديدة موازية للمنظمة، ورفضت الانخراط في سلطة أوسلو.
كما تبنت شعار التغيير والإصلاح بعد أن وصلت السلطة التي ولدت من رحم اتفاق أوسلو إلى كارثة، من حيث انعدام الحكم الرشيد والتعدي على الحقوق والحريات وانتشار الفساد، والأهم من حيث عدم تحقيق برنامج حق تقرير المصير والاستقلال الوطني وإنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة الفلسطينية، على الرغم من تقديم القيادة الفلسطينية تنازلات كبرى، أخطرها الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود والعيش بأمن وسلام.
رابعًا: صعود الحركة الوطنية وهبوطها مرتبط بصعود “عملية السلام” وهبوطها
بيّنت التجربة التاريخية أن صعود الحركة الوطنية الفلسطينية وهبوطها، بجناحيها الوطني والديني، مرتبط بصعود وهبوط ما يسمى “عملية السلام” والمفاوضات؛ حيث سرعان ما تبنت حركة فتح خط المفاوضات والتسوية؛ ما أدى إلى هبوطها، كما سرعان ما فوضت “حماس” الرئيس محمود عباس بالتفاوض، كما جاء في وثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الأسرى) في العام 2006، ووقعت في حبائل السلطة وامتيازاتها.
لذلك، وصلت إستراتيجيتا المفاوضات والمقاومة إلى طريق مسدود، على الرغم من اختلاف الظروف والنيات والدوافع والخصائص والتحالفات الإقليمية والدولية، وأكبر دليل أن معادلة “هدوء مقابل تسهيلات ومشاريع اقتصادية” باتت تحكم إلى حد كبير علاقة السلطتين المتنازعتين بالاحتلال بغض النظر عن المسائل الأخرى التي تميز فيما بينهما.
خامسًا: اليسار من الفاعلية إلى التلاشي
أدى اليسار الفلسطيني مع انطلاقة الثورة حتى توقيع اتفاق أوسلو دورًا مهمًا، إلا أن دوره تراجع إلى حد يقترب من التلاشي، ويدل على ذلك أن اليسار بمختلف ألوانه حصل في الانتخابات التشريعية في العام 2006 على 5 مقاعد من أصل 132 مقعدًا. كما تشير الاستطلاعات إلى أنه لن يتجاوز هذه النسبة في أي انتخابات قادمة.
إن الجذر الأساسي لعدم استمرار تبوء اليسار لدوره السابق، وعدم التقدم لإمساك زمام القيادة، ليس عدم تمكنه من الحصول على الدعم المالي ولا انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية، ولا دور الاحتلال، ولا عدم وحدة فصائل اليسار؛ لأن وحدة ما يقارب الأصفار لا تولد تنظيمًا جماهيريًا، بل تولد صفرًا أكبر، على أهمية هذه الأسباب، وإنما عدم قدرته على تجسيد فلسطيني عربي للنظرية الماركسية اللينينية التي تبناها في نظرية ثورية تشخص الواقع الملموس، وتقدم تحليلات، طبقيًا ووطنيًا، تستند إلى خصائص الوضع الفلسطيني، وتضع السياسات وطرق العمل للتغيير، وغير معروف الآن هل لا يزال يتبنى الماركسية أم لا، وهل هي أداة للتفكير والتحليل والعمل أم صنم نعبده؟
لم يبلور اليسار بديلًا نظريًا، سياسيًا واجتماعيًا ووطنيًا وطبقيًا واقتصاديًا وديمقراطيًا وعمليًا متكاملًا، عن الخيارات التي تطرحها “فتح” أولًا و”فتح” و”حماس” ثانيًا، بل اكتفى في الغالب بتشخيص الواقع بشكل مجزوء وانتقاد الممارسات السائدة، واكتفى في العديد من اللحظات التاريخية بالاكتفاء بتسجيل موقف للتاريخ، وعدم طرح وممارسة دوره بوصفه بديلًا ليس من المنظمة ومؤسساتها، وإنما من سياسات وخيارات وممارسات قيادتها، وتذبذبت فصائل اليسار ونخبه بين قطبي الانقسام، وبين المعارضة اللفظية والموالاة والتنافس فيما بينها على من الفصيل الثاني، ثم على دور الفصيل الثالث بعد تقدم “حماس” على طريق المنافسة على القيادة، مع العلم أن الجهاد الإسلامي تَقدّم، خصوصًا في الفترة الأخيرة، وبات يحتل موقع التنظيم الثالث.
مأزق شامل ينذر القضية بالتصفية
إن المأزق العميق والشامل الذي وصلت إليه القيادة الفلسطينية والفصائل والنخب على اختلاف أنواعها، هو أولًا وأساسًا مأزق المشروع الوطني والمؤسسة الوطنية الجامعة والإستراتيجيات، وغياب الجبهة الوطنية الواسعة التي تتطلبها مرحلة التحرر الوطني، والانقسام الأفقي والعمودي، الذي ينذر بالتعميم والانتشار أكثر ما ينبئ بقرب الوحدة، بدليل وصول القضية الفلسطينية إلى مرحلة تنذر بتصفيتها من كل أبعادها، على الرغم من كل مظاهر الصمود والمقاومة والتضحية التي يظهرها الشعب والفصائل في أحيان كثيرة بشكل عفوي وتلقائي، من دون رؤية شاملة ولا إستراتيجيات واحدة وبلا قيادة ومؤسسة وطنية واحدة، ولا تزال تبقي القضية حية حتى الآن.
هناك فراغ ينتظر من يملؤه
تأسيسًا على ما سبق، هناك فراغ ينتظر من يملؤه، وهو إما يملؤه قيام القوى القائمة بتجديد وتغيير وإصلاح نفسها، وهذا يبدو بعيد المنال، فالعوائق التي تمنع التغيير كبيرة وثقيلة جدًا، أو ميلاد قوى وحراكات جديدة تستوعب تجارب المراحل السابقة، وتكون بمستوى المخاطر والتحديات المحدقة والفرص المتاحة، وتواكب المستجدات والخبرات والحقائق الجديدة، وتعيد صياغة المشروع الوطني بما يحفظ الحقوق والأهداف الأساسية والرواية التاريخية؛ أي ينطلق من وحدة القضية والأرض والشعب، ويتمتع بالقدرة على رؤية المهمات والأهداف البعيدة والمتوسطة والقريبة؛ أي يدرك أهمية المرحلية في ظل توازن القوى ومرور العالم بمرحلة انتقالية لا نعرف متى وكيف ستنتهي، والعمل لتحقيق أقصى ما يمكن في كل مرحلة، من دون فقدان البوصلة التي تحدد ما يجب العمل لتحقيقه لاحقًا، وبما يجمع ما بين الوطني والديمقراطي ومختلف أشكال النضال من دون التعامل معها بوصفها أصنامًا مقدسة، وإنما وسائل لتحقيق الأهداف.
أو تملأ الفراغ الخيارات والبدائل الإسرائيلية والأميركية والدولية والعربية إلى حين نهوض الشعب في النهاية، الذي سيمسك بزمام المبادرة.