تراجيديا الواقع وكوميديا الوهم
أسمهان خلايلة/كاتبة جليليّة
تاريخ النشر: 26/08/23 | 13:13يهدي الكاتب الأسير رائد الشافعي روايته ” معبد الغريب” (351 صفحة، لوحة الغلاف: الفنان علاء أبو سيف، تصميم: “مجد” للتصميم والفنون – حيفا، مراجعة وتحرير: فراس حج محمد، الصادرة عن الرعاة للدراسات والنشر وجسور ثقافية للنشر والتوزيع) إلى روح أبي “التي لا تفارق سمايَ وإلى أشقائي وشقيقاتي وأبنائهم”. إلى زوجته نسرين وفلذات كبده دنيا ورانيا. الإهداء من سجن الجلبوع وكم من الدموع تكفي ليبكيهما?
غريب هو الراوي في هذه القصة الموجعة المدجٌجة بالعبارات الحزينة والتي يلاحقها بإلحاح ذلك السؤال: من خان من؟ هل الوطن يخون من يضحي في سبيله؟
ولماذا يتساءلون بقسوة ويضربون بعنف وهم يسألون غريب وكل وطني ثائر لماذا يفعل شاب محترم هذا الفعل؟ وللقارئ المتسائل عما يفعله اتطوع بالإجابة: لماذا ينفذ الشاب المحترم عملية ضد المستوطنين !!؟؟ هذا ما طرحه المحققون (تأنيب وعتاب) وهم من وحدات التحقيق في السلطة الفلسطينية.
بعد تحرره من سجن الاحتلال دخل سجنا آخرا، والده يُحكم عليه القيود في الخروج والسهر خارج المنزل واستقباله لصديقه يوسف الذي تغيرت قناعاته وقد كان احد رفاق السجن مع غريب لكنه أي يوسف استبدل عبارات وشعارات الثورة بمفردات السلام وحسن الجوار والشجاعة في العفو عما سبق ، أما والد غريب الطيب الوطني حتى النخاع فإنه لا يريد فقدان ابنه بعد ان فقد وطنه ، امام هذا كان غريب في أمس الحاجة إلى الانفراد بذاته بعد أن انتهى من استقبال وفود المهنئين بتحرره من السجن ، يريد الاختلاء بنفسه في معبده وهو تلك الحديقة التي تذكره بمدينته يافا
انه مكان بعيد عن الناس والبيوت يقصده غريب ليؤدي طقوس عشقه للأرض ويستعيد ذكرياته وتخطيطه وحلمه بالعودة الى يافا مدينته التي هجٌر منها …فيصطدم غريب بالانقلابات والتغيرات في القيم الوطنية التي حدثت أثناء وجوده في السجن، انها اتفاقية اوسلو التي جعلتهم يطلبون منه التعهد ووضع توقيعه بانه لن يعود إلى ممارسة الإرهاب! سلام الخرفان كما سماه أبو حسن أحد شخوص الرواية ووالد لشهيدين تعرض لإذلال التحقيق من قبل السلطة ولم يشفع لهذا الأب الثاكل أنه قدم ولديه في سبيل الوطن، بل اتهموه بحيازة قطعتي سلاح! ..ان هذا التوقيع يعني إلقاء تضحيات الأسرى في الزبالة ” ص 36، 37.
الخيبات تتراكم بدء من تهريب القادة لأولادهم إلى الخارج وترك الفقراء يقاومون الاحتلال وتباهيهم ب vip يعبرون الحواجز دون عقبات بينما يعاني أبناء الشعب المذلة فالحركة الاسيرة وصلت الى حالة ترهل بعد اوسلو ومرت بمرحلة تراخ في مجابهة السجان. واستمرار هذا الوضع يؤدي الى إفقاد السجناء المزيد من الإنجازات التي حققوها (الجوع والتعب). لكن ” كل هذه الخيبات لا تهز جوهر الخيارات الحياتية للأفراد المشبعين بقضيتهم ” ص 19.
امام هذا الواقع غدا غريب مسجون الروح حر الجسد بينما كان في السجن عكس هذا، إنه الاغتراب داخل الوطن، يقول الاستاذ المحامي حسن عبادي في مقدمته حول الرواية: ان كلماته والمقصود هنا هو الكاتب رائد الشافعي: تفجر لغما تحت أقدام كل من تسلح بالسراب والوهم الاوسلوي “.
هذا الأدب الذي يحمل طعم المرارة والتجربة الصادقة أي أدب السجون يشكل لحظة تاريخية حادة تُختبر فيها قدرات الانسان على تحويل الألم والفقدان والعزلة إلى لغة (كما اشار الكاتب واسيني الأعرج في مقدمته حول الرواية).
وقد أكد غريب على لسان الراوي رائد الشافعي أن الكتابة كالانعتاق من الروتين اليومي، الكتابة، الحلم، الحديث، كلها ادوات لتكوين فسحة الامل الأجمل ومتنفس الارواح المتعبة ص 31.
نعم يكتب غريب الأسير ليمارس حريته فالواقع المتصدع جعله يرى في الورق ملاذا، والأسرى يملكون الكثير من القصص والحكايات التي لا يملكها أحد غيرهم بل إنها ” غير متوفرة في كثير من الروايات الحائزة على أرفع الجوائز ويرى غريب ان هذا وحده (توفر القصص) يستحق أن نكتُب. امام الواقع الجديد يشاهد السجناء بعض رموز الوطن تتهاوى امام مصالح خلفها الواقع الذي يوفر لهم بعض الامتيازات …زعامات ابتلي بهم الوطن يتسلقون على جراحه! يا لها من صراحة وجرأة توجه نقدا يحز الأعناق. من هنا وجد الراوي رائد الشافعي أن الكتابة توازي قيمة الأمل بالحرية فكتب هذه الرواية شديدة الكثافة تحاول وصف كل أسير دفع ثمنا باهظا مقابل لا شيء) مقدمة المحامي حسن عبادي. انها أحلام عادت بها القيادة من الشتات لتخلق وطنا من وهم وفرقة وطنية. ( حسن عبادي ).
مشاعر خيبة متعددة الاتجاهات: البيت الذي يضيق الخناق على غريب، الاصدقاء الذين تغيروا وجذبتهم اغراءات المادة (يوسف صديق غريب) ابو نضال المدرس المنعزل مع اغنامه يرى ان الأمل المعقود على رجال تجرعوا النكسات والخيبات قد انتهى ” فإن لم تكن عودتنا فعودتكم والمقصود جيل غريب اي الأبناء لكن حمٌى الانقسامات وصلت الى الحركة الأسيرة داخل السجون والعثور على معاني التضامن والثقافة الوطنية ضرب من الخيال (ص 80).
حالة الصدق التي شعر بها غريب كانت الفتاة أمل فهي من تحرره من الوهم والاستسلام وبقيت رسائلها اليه في السجن تمثل الفرج والانعتاق.
يتحدث الكاتب في هذه الرواية عن مشاعر ومواقف ويصف أحلام السجين ونفسيته وقوة التأثير والتواصل الذي تحْدِثُه الرسائل القادمة من الخارج فهي تمثل الدعم وحين تنقطع هذه الرسائل فان السجين يشعر بالإهمال والترك والاقصاء فهو المُتَخلى عنه كأنه زائدة دودية لا كيان لها ص152.
بعد انغماس غريب في حياة الليل التي اصطحبه صديقه يوسف اليها عاد ليصحو حين استيقظت بذرته الطيبة التي رقدت طويلا وهو بصحبة هلا، تلك الفتاة المشطورة نصفين اب عربي وام يهودية لكنها اختارت المشاركة بكل خبث وعنصرية في مشروع استهداف اسرى محررون ، كتاب وفنانون ، اعلاميون وشخصيات مؤثرة في المجتمع الفلسطيني وفي الجامعات الفلسطينية وقد انصب الجهد على اصطياد هؤلاء واستهداف شريحة المقاومين الذين أبدوا صلابة وقوة لكن غريب في نقاشه مع هلا تأكد أن التعايش مجرد خدعة ولن يتحقق ، حدثته هلا جاهدة عن جدها الذي احترق بالمحرقة النازية فاستعمل غريب تشبيهه الغاضب : المحرقة النازية قدمت لليهود تعويضات مادية جمة أما محرقة النكبة الفلسطينية فشتت شعبا يموت يوميا في مخيمات اللجوء والشتات .
وهنا يتجلى للقارئ النوع الاول من المثقفين وهو الذي ” يتخذ من ثقافته وسيلة للبحث عن الثورة في اللحظة التي يتقدم بها صفوف القتال ” بينما يقف النوع الثاني من المثقفين موقف المتمسك بالعقلانية التي يخفي وراءه جبنه وخوفه على مصلحته ومكانته “.
ما أثلج صدري كقارئة للرواية هو نهايتها التي نشرت في نفسي الرضا والطمأنينة حين عاد غريب الى البحث عن الأجداد وزيارة الأماكن التي عبروا منها في يافا بصحبة صديقته سماح (وهذا ما أقلق هلا التي كرست الجهود من أجل تطبيع غريب).
بدأت روح غريب تصحو بعدما غرق في لذة بائدة، الكاتب رائد مشحون بالأمل الذي لا يفارق كل فلسطيني يحلم بالعودة مهما انشطرنا ومهما انكسرنا وفقدان البوصلة لفترة قد أتى بعده الصحو فصمم على العمل بعزم من أجل الحفاظ على الذاكرة الجمعية وهذا هو الصمود امام المحتل الذي يعمل على غسيل الأدمغة واقتلاع الذاكرة … يافا ليست قرطبة لنزورها سياحة فحسب بل لنحررها ونعيدها، وحذفها من كتب التعليم ومناهج التدريس لن يتمكن من حذفها من ذاكرة غريب ولا اخوانه وابناء شعبه الشرفاء.
* للكاتب الاسير الحر تحية حارة أشد على يديك وانحني امام جرأتك وصراحتك وقول ما راوغ الكثيرون في قوله او اعلانهم الرفض .لقد تجاهلوا حرصا على مصالحهم . للأسرى البواسل رفاق غريب الحرية والانعتاق وإلى أن تحين هذه اللحظة المباركة اكتبوا وزودونا بشحنات الأمل والعزة والصمود.
الجليل الفلسطيني 20.08.2023